في كتابه "جورج حنين... رائد السورياليين العرب" الصادر بالفرنسية العام 1981 عن دار "سيغرز" يشيح ساران ألكسندريان وجهه عن جميع المعلمين الرديئين، ويصغى بكامل قوته وانتباهه الى أصوات "حرية الروح غير المشروطة"، وتحديداً إلى أحد أبرز تلك الأصوات، صوت رائد السورياليين العرب جورج حنين. ويقول المؤلف العراقي عن الشاعر المصري، العالمي، في خاتمة دراسته الطويلة: "كان في عصرنا، بكآبته وسخريته، ما كانوا يعتبرونه في السابق أفضل تقريظ: رجلاً ذا مكانة رفيعة" ! وليس من قبيل المصادفة أن يقوم الشاعر والمترجم اللبناني كميل قيصر داغر بتعريب كتاب ألكسندريان هذا. وصدف صدور الترجمة عن "منشورات الجمل" في كولونيا ألمانيا، و"المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في لبنان، مع حلول الذكرى الستين لتأسيس جماعة "الفن والحرية" التي دشنها في أواخر الثلاثينات كل من جورج حنين ورمسيس يونان وأنور كامل وفؤاد كامل وكامل التلمساني وآخرون. ويمكن اليوم أن نعتبر الحركة السوريالية المصرية، بعد مرور أكثر من ستين عاماً على دخولها مصر، ومن ثم المنطقة العربية، على يد رائدها الأول جورج حنين، أكبر الحركات الفنية والفكرية ذات التأثير العميق في الثقافة العربيّة الراهنة. فهذه الحركة التي طرحت نفسها بوصفها وريثة ريمبو ولوتريامون وجاري، كما يقول جان جاك لوتي في دراسته المهمة عن "الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر"، عملت، منذ اللحظة الأولى لميلادها، على صدم جميع الأساليب المألوفة تبعاً لاستجابات الحواس، ونشر مزاج السخرية السوداء، والتمرد على كل ما من شأنه الإخلال بالحريات في مطلقها... ومن ثم فقد مست جميع مجالات المعرفة. وقد رفض السورياليون التقنيات التقليدية، داعين أنصارهم الى مواصلة البحث عن الجدة والابتكار انطلاقاً من كل ما هو خارج على المألوف، متلمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة، ومؤكدين هذا البحث على شتى المستويات الممكنة. كما أنهم - أخيراً - أثاروا الشبهات والريبة حول اللغة المنطوية على الكثير من العادات والكوابح والقيود التقليدية. ومنذ البداية، يشير مؤلف الكتاب ساران ألكسندريان الى خطورة اعتبار جورج حنين مصرياً منفياً "يستخدم بسهولة قصوى لغة بلاد المنفى". بل يشير صراحة إلى أن من أهداف دراسته هذه عن حنين، ضرورة خرطه نهائياً في الجماعة اللغوية التي ينتمي اليها بحق، ومحدداً موقعه داخل التاريخ الأدبي الفرنسي ذاته، خصوصاً حين نعلم ان ولادة السوريالية الأولى كانت في باريس العام 1924، وسرعان ما تبنتها مجموعات تشكلت في العواصم العالمية الرئيسية، وصلت إلى سبع وعشرين أمة تقريباً ضمت مجموعات سوريالية حقيقية، من بينها مصر التي دخلتها أفكار السوريالية على يد جورج حنين العام 1936، مستقدماً بذلك أفضل الأفكار التحررية في الفكر الغربي الى الشرق الأدنى، بعد مرور اثنتي عشرة سنة فقط على ولادتها الأولى في أوروبا. والمعروف تاريخياً، ان ما من أحد من الناطقين بالعربية كانوا يعرفون آنذاك - من الناحية الفعلية - أي شيء يتصل بهذه الحركة الوليدة، كما لم يكونوا يعرفون أياً من الكتاب الذين يعتبرهم السورياليون أسلافاً لهم، أو منتمين إليهم. وحدهم الناطقون بالفرنسية في مصر، أتيحت لهم، بصورة عابرة، فرصة التعامل مع كتاب كان من شأن تحررهم الأخلاقي واللغوي أن يصدم المجتمع. ومن ثم فإن الحركة السوريالية، بمواقفها المضادة للاتباعية، قد هزت ما يسميه جان جاك لوتيه "المؤسسة المحلية". وكان الناطقون بالفرنسية، خصوصاً الأكثر شباباً بينهم، هم أول من يصغون إلى الأصوات، وأول من يناقشونها. ولد حنين في 20 من تشرين الثاني نوفمبر 1914، لأب ديبلوماسي قبطي هو صادق حنين باشا، صار فيما بعد وزيراً في أيام الملك فؤاد الأول، ولأم إيطالية الاصل اسمها ماري زانللي. وعلى طريقة أولاد النبلاء، تولى مربٍ تعليمه القراءة والكتابة والحساب حتى بلغ سن الثانية عشرة. وفي العام 1924، عين والده سفيراً لمصر في مدريد فصحبه جورج ومربيه، وهناك تعلم اللغة العربية، وحاول أن يترجم إليها كتاب كارل ماركس "رأس المال". يقول الكسندريان: "ولما كان حنين أعدّ هكذا، منذ ولادته، للتميز والكوسموبوليتية، فقد سخر فيما بعد من اللياقات التي كان يعرف مع ذلك أن يحافظ عليها: "تلقيت باكراً جداً صفعة التربية الجيدة"، هذا ما قاله وهو يتذكر كيف حثّوه على ممارسة "فن إخفاء الأحزان". والحال أن المؤلف، عبر تسلسل زمني دقيق ومتأن، يتناول كيفية دخول حنين الى عالم السوريالية، وبدء تأثره بأساتذتها الغربيين، وتحديداً مراسلاته مع أندريه بيرتون وغيره... مبيناً أن حنين إنما يدخل السوريالية الى مصر في العام 1934، عندما ينشر كراسين، أولهما بحث تنكر له، عنوانه: "تتمة ونهاية"، كان عبارة عن كوميديا اسبانية. لكنه كان قد ارتبط في باريس بعلاقات أتاحت له أن يعبر عن نفسه فيها أيضاً، مقرراً أن يمضي وقته بين القاهرةوباريس. أما الكراس الثاني، وكان عنوانه "التذكير بالقذارة"، فلم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكر له، ولم تكن فرصة التنكر له كبيرة، إذ أعتبر أحد صحافيي جماعة "المحاولين" أو "الباحثين"، أنّه يشكل محطة تاريخية في حياة الآداب المصرية، بسبب زعزعته للأفكار المسبقة"، كما يشير الناقد المصري سمير غريب في كتابه "السوريالية في مصر". حاول حنين في هذا الكراس أن يثبت أننا "لا نتنكر مخلصين لعنفنا الخاص، إلا لكي نتبنى عنفاً أشمل". ويشير ألكسندريان، في كتابه، الى سببين رئيسيين، تنبع منهما أهمية وضع دراسة عن جورج حنين في ضوء الواقع الثقافي العربي الراهن : أولهما أن حنين هو المؤسس الحقيقي للسوريالية المصرية ومحركها الأول منذ العام 1936، وثانيهما ضرورة وضع هذا المثقف الكبير على خارطة الجماعة اللغوية والثقافية التي ينتمي إليها، وعدم اعتباره مثقفاً مصرياً كتب بلغة مغايرة للغته الأم، بل أحد البارزين في التاريخ الأدبي الفرنسي ذاته. لكنّنا نستطيع استخلاص سبب ثالث يجعل من كتاب ألكسندريان عن جورج حنين، أحد أهم الشهادات الفكرية عن الحركة السوريالية العالمية بكامل تفرعاتها واتجاهاتها، ذلك أن ألكسندريان نفسه هو أحد أهم رموز السورياليين العراقيين حيث ولد في بغداد العام 1927، وشارك في معظم نشاطات الحركة السوريالية في باريس منذ العام 1947، جنباً الى جنب مع حنين وهنري باستورو وغيرهما. إنضم ألكسندريان الى الحركة السوريالية وهو لا يزال في التاسعة عشر، بعد أن عاشر جميع الشلل والجماعات الطليعية بما فيها جماعة "الموكب الثالث" لتقديره العظيم لفاردوليس - لاغرانج منذ العام 1945. وكان والده الدكتور فارتان الكسندريان أخصائياً في أمراض الفم، في خدمة الملك فيصل الأول، زعيم الدعوة الى الوحدة العربية في أول تجلياتها. واستمر والد الكسندريان يمارس عمله في عيادته في حي السعدون، وفي مركزه كأستاذ في الكلية على رغم انتقال اسرته الى بلد زوجته فرنسا في العام 1946، ومعها ابنه ساران. يقول الكسندريان عن بداية علاقته مع حنين: "كانت وجهات نظرنا تتوافق في الكثير من النقاط: كان كلانا يعتقد أنه يجب توسيع صفوف السوريالية، وتجديدها عن طريق التضحية بعناصرها الوهمية الرفض المنهجي للأدب، اللجوء الى بعض القيم الماركسية - اللينينية التي كان التاريخ ذاته يفضح إفلاسها، وإلزامها بأن تكون فقط ايديولوجية للعداء الصرف للامتثالية، ومثلاً أعلى للأجيال الآتية". ويبقى هذا الكتاب المهم الذي تأخر نقله إلى لغة الضاد قرابة عقدين، أحد أهم المراجع عن الحركة السوريالية العربية، وتحديداً عن واحد من أبرز المثقفين العرب في هذا القرن، أي جورج حنين الذي توفي في باريس ليل 17 - 18 تموز يوليو العام 1973، بعد سنوات من الصراع مع مرض أنكره بشراسة، طامحاً أن يحيا حتى النهاية، كما لو أن هذا المرض لا وجود له. وقد أعادت زوجته إقبال جثمانه الى مصر، واهتمت بأن تنشر في القاهرة كتيباً بعنوان "تقديراً لجورج حنين" يعد آخر دفاتر الأدب التطبيقي من سلسلة "حصة الرمل" التي بدأها حنين بنفسه. وفي هذا الكتيّب يعترف لورانس داريل مخاطباً إقبال: "أتعاطف دائماً مع فكرتك بالقيام بنوع من التقدير الجماعي لذكرى جورج حنين، الكاتب الجيد، والرجل المرح، وفي آن معاً، أحد الأشخاص الأكثر أهمية في مصر الحديثة، من جهتي لن أنساه أبداً، مع أني لم أعرفه عن كثب" المرأة الداخلية جميلة كالصاعقة التي تتوقف في منتصف السماء لتختار شجرة مجهولة قريبة الى حد إثارة الخوف مطمئنة مع ذلك مثل استراحة في بلد مهدأ ضوء موضع يحتفظ في حدقته باتجاه الليل عطوب كقبضة يد بين كائنين بلا مستقبل قاسية كبداية العالم وجه مقفل يُرى مرة في الحياة فيما يضغط على الزناد. منظورات إلى اندريه بروتون لماذا لا نلتقي فوق عبّارة مُدّت بغتة بين كارثتين امرأة متسارعة العينين ربما روت لك اسمها الأجمل اجتيازه من اجتياز هوة ترتدي ثياباً سوداء؟ لماذا لا ننظم غروبات عظيمة لضفائر متعددة الألوان على مسرح دائم الاقفرار؟ لماذا لا ننظم غروبات عظيمة لضفائر من الراديوم تقترن بالمناظر وتحرقها عند كل ضمة وتبقى وحيدة في ضياء يثير الدوار؟ لماذا لا نحرر دفعة واحدة عشرات آلاف المرايا المسمرة على سرير الأرض؟ لماذا لا نجعل الحياة جديرة بأن تُسكن؟ لماذا لا نهجر الكراسي المعتادة والأقدار التي عيشت ما فيه الكفاية؟ لماذا لا نشيح بالجفون عن الطرقات الملعونة ونختفي في الليل الأكثر استعصاء على الحل بألا نحمل معنا مستقبلاً غير جسد مجهولة قطعه قطعاً صغيرة حلم يشحذ من دون خطر الاستيقاظ؟