استأنفت أثيوبيا معركتها مع الجوع والجفاف والموت بعد 16 عاماً من تلك المجاعة المهلكة التي قضت على أكثر من 800 إلف نسمة. وهذه المرة لا يزال عدد الوفيات بالآلاف، بيد أن خبراء العالم يجمعون على أن الكارثة لا تبعد كثيراً إذا لم يتدارك المجتمع الدولي الموقف. وتقول الأممالمتحدة إن نحو ثمانية ملايين نسمة مهددون بالموت جوعاً في اثيوبيا وحدها، علاوة على ثمانية ملايين يواجهون خطر المجاعة في كينيا وأريتريا والسودان والصومال. ولعل الأشد تضرراً من هذا الجوع هم سكان الاقليم الصومالي في اثيوبيا - أوغادين - الذي شهد في منتصف السبعينات حرباً ضروساً بين الجيشين الصومالي والأثيوبي، أدت - ضمن أسباب أخرى - الى إنهيار نظامي الرئيسين الصومالي محمد سياد بري والاثيوبي الكولونيل مانغستو هايلي مريام. وقال ريفيون أثيوبيون في أوغادين ل "الوسط" إن مجاعة هذا العام أسوأ كثيراً من مجاعة العام 1984، إذ إن الجفاف ضرب المنطقة بأسرها، ولم يترك شيئاً للإنسان والحيوان، ولهذا تتناثر عظام الحيوانات التي نفقت في كل مكان في تلك الأرض القاحلة. ويزيد الوضع تفاقماً استمرار الحرب الحدودية بين اثيوبيا وأريتريا، ورداءة الطرق والإتصالات. ومن المعروف أن أثيوبيا لا تملك منفذاً بحرياً، وكانت تعتمد على ميناء عصب الأريتري في نقل وارداتها وصادراتها، غير أن أريتريا منعتها من استخدام الميناء إثر الحرب الحدودية بين البلدين. ولهذا قررت الأممالمتحدة إعتماد ميناء جيبوتي منفذاً رئيسياً لنقل المؤن الغذائية والطبية الى أثيوبيا لتلافي خطر المجاعة. وعلى رغم أن معظم الطرق في اثيوبيا شيدت بأموال المساعدات الدولية التي انهالت على البلاد في أعقاب مجاعة العام 1984، إلا أن معظمها لا يصلح لمرور الشاحنات. وتضطر الشاحنات الى السير لمدة خمسة أيام على بعض الطرق للوصول الى أماكن ليست نائية. كما أن من مشكلات نقل الإغاثة الى المتضررين من المجاعة وجود عصابات قطاع الطرق في عدد من أرجاء أثيوبيا. وكان أحد عمال الإغاثة الأجانب قد قتل الشهر الماضي في أوغادين بعد فشل محاولة لنهب شحنة الإغاثة التي كلف توزيعها في المنطقة. ومن المناظر المؤلمة في البلدات التي نجح عمال الإغاثة في الوصول إليها، أن بعض الأكواخ التي اعتبرت مراكز تغذية موقتة يحمل لافتات توضح ما إذا كان ضمن هذا المأوى أطفال يقل وزنهم عن الوزن الطبيعي بنسبة 50 أو 60 في المئة. كما أقيمت أكواخ خاصة لتغذية مرضى الدرن السل الرئوي الذي أضحى - بعد مرض الأيدز - العدو الثاني للإنسان في الدول الإفريقية المعدمة. وما يزيد مأساة أثيوبيا تفاقماً هذه المرة أنه حتى إذا نجح المجتمع الدولي في توصيل مؤن الإغاثة والأدوية الى المناطق المتضررة في الوقت المناسب، فإن ذلك لن يجدي السكان شيئاً، إذ إن الإحصاءات المحلية تفيد بنفوق 70 في المئة من ماشيتهم وإبلهم. وكانت السلطات في أديس أبابا قد أعلنت أنها بحاجة الى 836 ألفاً و800 طن من الأغذية لتفادي مخاطر المجاعة. وعلى رغم تعهدات الدول الكبرى ومنظمات الأممالمتحدة، لم يصل فعلياً حتى الآن سوى 40 ألف طن. وبسبب مجاعة العام 1984 أنفقت الأممالمتحدة نحو 20 مليون دولار لتأهيل ميناء عصب ليكون البوابة الرئيسية لنقل مؤن الإغاثة الى مستحقيها. وأمكن، على الاثر، إستخدام الميناء بكفاءة بالغة في نقل 75 في المئة من الإغاثة المرسلة الى أثيوبيا. ويستطيع ميناء جيبوتي استقبال 110 آلاف طن من شحنات الإٌغاثة شهرياً، وهو ما يقل كثيراً عن نحو 170 ألف طن يجب على الميناء أن يستقبلها لتلبية حاجات الجائعين وحركة الملاحة المحلية داخل جيبوتي. وفي سباق مع الزمن قرر برنامج الغذاء العالمي استئجار 400 شاحنة من البلدان المجاورة لاثيوبيا لتتولى نقل المؤن وتوصيلها بأسرع ما يمكن الى المتضررين، كما قرر إستئجار 1400 شاحنة صغيرة من مصادر محلية لنقل الإغاثة من مراكز التوزيع الرئيسية الى مراكز أصغر داخل البلاد. وتبلغ كلفة طن القمح حالياً 135 دولاراً، تضاف إليها 250 دولاراً تمثل الحد الأدنى لكلفة نقل الطن من الولاياتالمتحدة أو أوروبا الغربية الى القرن الإفريقي. وقد خصصت الدول المانحة للمساعدات حتى الآن مبلغ 2.7 مليون دولار لتحديث ميناء جيبوتي لمواكبة حاجات النقل الطارئة الى اثيوبيا. وتقول الأممالمتحدة إن تأهيل الطريقين الرئيسيتين بين جيبوتيوأثيوبيا ستكلف 4 ملايين دولار إضافية. ويقول عمال الإغاثة إنه حتى لو تم تأهيل ميناء جيبوتي والطريقين اللتين تصلان جيبوتيباثيوبيا فسيكون على المجتمع الدولي أن يسابق الزمن لتوصيل الإغاثة الى مستحقيها في أعالي الهضبة الأثيوبية قبل حلول حزيران يونيو حين تهطل الأمطار الموسمية التي تقطع الطرق أحياناً حتى نهاية أيلول سبتمبر كل عام. ويقول مسؤولو برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إن الدول المانحة للمعونات هي التي ينبغي أن تتحمل جانباً كبيراً من وزر المجاعة التي تهدد ملايين الاثيوبيين، إذ إنها قامت بسحب كميات ضخمة من المخزون الغذائي الاحتياطي الذي تملكه اثيوبيا ونقلته الى أماكن أخرى في القارة، غير أنها لم تهتم سريعاً بإعادة ذلك المخزون الاسترتيجي الى مستوياته السابقة. واعترفت الحكومة الاثيوبية - من جانبها - بخطر المجاعة، وانتقدت المجتمع الدولي لعدم الاسراع في تقديم المساعدات الانسانية. وأصدرت وزارة الخارجية الاثيوبية بياناً نفت فيه التصريحات التي أدلى بها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان لصحيفة بريطانية، وقال فيها ان المجتمع الدولي لبى النداء وقدم المساعدات الغذائية التي تحتاجها اثيوبيا. وكشف البيان ان استدانة الدول المانحة والمنظمات الاغاثية من المخزون الاثيوبي الاحتياطي البالغ 315.500 طن من الحبوب الغذائية أثر الى درجة كبيرة على هذا المخزون، موضحاً ان كلاً من برنامج الغذاء العالمي وهيئة المعونة الأميركية والاتحاد الأوروبي والحكومات الهولندية والكندية والألمانية استدانت من هذا المخزون 292.449 طناً لم يتم استردادها حتى الآن. وقال البيان إن تأثر المخزون الاحتياطي أجبر الحكومة الاثيوبية على شراء 100 ألف طن من المواد الغذائية من الأسواق المحلية وتوزيعها على المتضررين. وأضاف ان المناطق الاثيوبية المهددة بخطر المجاعة بعيدة عن جبهات القتال، وأن الموانئ الجيبوتية والكينية والصومالية هي أكثر الموانئ قرباً لهذه المناطق المتضررة وليست الموانئ الاريترية. وذكرت الأممالمتحدة أن اثيوبيا وحدها بحاجة الى نحو مليون طن من المؤن الغذائية. وهذه التقديرات فاقت التقديرات السابقة بكثير. وأشارت بوضوح الى مدى الخطر الذي تواجهه اثيوبيا. ويتهم خبراء المنظمة الدولية الدول المانحة للمساعدات بعدم العناية بالاستثمار في البنية الأساسية في منطقة القرن الإفريقي، الأمر الذي أدى الى الصعوبات الراهنة التي تهدد نقل الإغاثة الى التجمعات السكانية المعنية بذلك. وعلى رغم اجتهاد الحكومة الاثيوبية الحالية التي خلفت نظام الرئيس هايلي مريام في دفع التنمية الى الأمام، إلا أن أهم المعوقات التي تعجزها عن معالجة الوضع الحالي تتمثل في ارتفاع عدد السكان الى الضعف تقريباً مما كانوا عليه في 1984. وفاقمت الحروب والنزاعات التي تشهدها المنطقة الآثار الخطيرة التي تسببت فيها الظروف البيئية، الأمر الذي وضع الدول المانحة والمنظمات الانسانية أمام خيار صعب. اذ ان الجهات المانحة تتساءل هل يجوز تقديم العون الانساني الى دول القرن الافريقي في الوقت الذي تهدر فيه ثرواتها في الحروب والنزاعات الدائرة بينها؟ وتعاني منطقة القرن الافريقي التي تقع ضمن دائرة حزام المجاعة في افريقيا من الجفاف وقلة الأمطار منذ فترة طويلة، اذ شهدت اثيوبيا العام 1974 اسوأ مجاعة أودت بحياة مليون نسمة في عهد الامبراطور هيلاسيلاسي وتسببت في اندلاع ثورة أدت الى سقوط حكم الامبراطور. وتشير التقارير الواردة من المنطقة الأسوأ تضرراً من الجفاف في أثيوبيا أوغادين الى أن 14 طفلاً يموتون يومياً بسبب نقص المواد الغذائية، فضلاً عن نفوق أعداد كبيرة من المواشي والدواب. يليه اقليم "ولو" الذي تعرض لثلاث موجات من الجفاف والمجاعة أودت بحياة الآلاف من سكان المنطقة، غالبيتهم من المسلمين، اضافة الى منطقة جنوباثيوبيا. وفي خطوة تعكس اهتمام المجتمع الدولي بمأساة اثيوبيا وصلت الى أديس أبابا كاترين بيرتين مديرة برنامج الغذاء العالمي ومندوبة الأمين العام للأمم المتحدة وانتقلت الى الاقليم الصومالي حيث تفقدت أحوال المنكوبين في مدينة غودي. وتزامن وصولها مع هبوط أول طائرة نقل الى تلك المنطقة التابعة للصليب الأحمر الدولي محملة بالمواد الغذائية والأدوية. وتعهد الصليب الأحمر تقديم 4 آلاف و512 طن عبر جسر جوي من نيروبي الى المناطق المنكوبة مباشرة. وتفقدت المبعوثة الدولية معسكرات الجوع في شرق اثيوبيا وتعهدت تقديم مساعدات تساهم في تخفيف الوضع المأسوي