في ظل التركيبة السكانية المقلقة في دول الخليج العربية، ثمة هواجس تجتاح النسيج الاجتماعي لشعوب المنطقة الأصلية تطاول الهوية الثقافية والاجتماعية وقد لا تنتهي سلسلة مؤثراتها عند حد. من هم ّاللغة العربية التي أضحت لها جمعيات نفع عام أهلية لحمايتها، إلى هموم الحفاظ على العادات والتقاليد بإقامة جمعيات حماية التراث الشعبي، إلى توثيق الموروث الشعبي الغنائي والأدب الشفهي وغيره. لكن أحدث هموم المجتمع الخليجي يتعلق بالهندام، أي الأزياء الوطنية، فقد أصبح من الواضح تماماً أن هناك نزوعاً لدى الشباب من الجنسين للتخلي عن بعض ملامح هذه الأزياء التي كانت حتى وقت قريب جزءاً أساسياً ومهماً من الهوية والخصوصية لشعوب المنطقة. ينقسم المتابعون إلى فريقين في تحليلهم لما يجري: فريق يرى أن الزي الخليجي للجنسين عنصر جذب للمتحذلقين وهواة النصب والاحتيال وانه لم يعد يخدم كثيراً في مجتمعات تغلب عليها الجاليات الأجنبية وتعيش الكثير من الارتباك. في حين يعتبره الفريق الآخر أقوى حصون الهوية الخاصة بأبناء المنطقة بعد أن تبدلت جميع ملامح الحياة في بلدانهم عبر الزي الوطني الخليجي المتعارف عليه إلى الألفية الثالثة ولكن لم يعد هناك زي واحد خالص بمحليته. وبدعوى ان المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة مهمة والتأثر بالثقافات الواردة إلى المنطقة نتيجة حتمية. هذا التحقيق يحاول الاقتراب من عالم الأزياء الوطنية الخليجية التي تجد كل الإعجاب من مصممي الأزياء العالميين في تصميماتها وزخارفها ونوعية الأقمشة المستخدمة في صنعها في حين تجتاحها إقليمياً ثورة من الزخارف الشرقية الآسيوية لم تكن معروفة من قبل. "الوسط" سألت مهتمين ورصدت بعض التفاصيل التي استدعت وضع دراسات وبحوث ونشر كتب حول هذه الحالة، وأثارت التساؤل الاساسي: هل يصمد الزي الخليجي لفترة أطول وما هو مستقبله في ظل الحديث المتزايد عن العولمة الثقافية والاقتصادية؟ على رغم قلة تداول الإصدار الأول عن تطور الزي للجنسين في دول الجزيرة العربية الذي وضعه الباحث والكاتب ناصر حسين العبودي، وهو أول خبير بالآثار من دولة الإمارات، فإن الدراسة جديرة بالاهتمام وتستوقف المهتمين بالتحولات العامة وبالإنسان عنصراً أساسياً. يقول العبودي واصفاً قيمة الزي الوطني في الذاكرة الوطنية بأنه جزء حيوي في إظهار ثقافة أي شعب وتبيان التسلسل الحضاري لأجياله "وإذا كنا ننظر بانبهار إلى مبتكرات دور الأزياء العالمية والأوروبية الآن فيجب الا ننسى بأنها تدخر أزياءها الوطنية للمناسبات المهمة في بلدانها كالاحتفالات الرسمية والشعبية. نعم الأزياء تتغير مع الزمن بحكم الظروف المعيشية للناس كأن تصبح الأقمشة المصنعة منها حرائر بدل القطن او تضاف إليها زخارف ما ولكنها تحتفظ على الدوام بالسمات الأساسية او لنقل بالخطوط الرئيسية بلغة المصممين". ويضيف العبودي: إذا أردنا الحديث عن مدى أصالة هذه الأزياء في منطقتنا الآن فسنواجه صعوبات كثيرة، فقد كانت بلداننا تحت ضغط التأثير على الدوام بسبب العلاقات التجارية والثقافية مع دول الجوار وزادت هذه العلاقات تأثيراً مع ارتفاع نسبة الزيجات من هذه البلدان. وهذا موضوع شائك يطول الحديث فيه. المهم في الدراسة التي قمت بها أنني توصلت إلى أن جميع أزياءنا إسلامية تتفق مع الشريعة ومتطلبات حياة المجتمع المسلم، وهكذا كانت على الدوام، فالتزام مجتمعاتنا بالنواحي الدينية أسعفنا في الحفاظ على خصوصية الهندام حتى الآن. وأكاد اجزم بأنها كانت كذلك حتى من قبل الإسلام واستمرت لفترة صدر الإسلام ومن بعدها الحقبة العباسية فقد قُسّمت مجتمعاتنا إلى فئات لها مستوياتها الاقتصادية ولكل فئة لباسها المميز فالبحارة يستخدمون ألبسة تختلف عن سكان البادية. كذلك يلاحظ الفرق بين فئتي العمال والتجار، وأخيراً المزارعين. ولو أخذنا على سبيل المثال غطاء الرأس المستعمل أو ما يعرف بالغُتْرَة أو الشُّمَاخ وطرق لفَّه فوق الرأس فسنجدها مختلفة تماماً بين هذه الفئات. قصة العقال تعود بدايات وضع العقال فوق الرأس إلى منتصف القرن السابع عشر. والجدير بالاهتمام أنه لم يكن مستخدماً بالشكل المتعارف عليه قبل تلك الحقبة ويقال أن أهل الزبير العراقيين أتوا به إلى الخليج، فقد انفردوا بتجارة الملابس خصوصاً القطنية منها والأقمشة الخاصة بالأزياء الخليجية لفترة طويلة. في البداية كان العقال المقصب بخيوط الذهب والفضة الكبير الحجم هذا النوع ارتداه الحكام والأمراء الآن لم يعد يرتديه أحد منهم يتم تصنيعه في سورية غالباً. وقد نراه في بعض المناسبات على رؤوس الشباب والأطفال وأشهر الشخصيات التي استخدمته كان الشريف حسين شريف مكّة. لقد كان أقرب إلى التاج منه إلى العقال وبطبقتين. وحقيقة الأمر أن ارتداء شال الرأس احتاج في دول الجزيرة لأداة تثبته فوق الرأس طول النهار في منطقة حارة شمسها لاذعة وقد كان "الخزام" وهو حبل من صوف الماشية يتم تصنيعه بيد من يرتديه غالباً وقد يضيف إليه بعض اللمسات الخاصة كأن يعلق في طرفيه قطعاً من الفضة. لكن انتشار العقال الأسود المتعارف عليه الآن في المنطقة مرتبط بقصة لها علاقة بالوجدان الشعبي في المنطقة ولها دلالاتها أيضاً. يروي لنا العبودي القصة كما عرفها فيقول: "بعد نكبة فلسطين العام 1948، وصلت مجموعة من رحلات هذا البلد إلى دول الخليج مرتدية الكوفية السوداء والبيضاء والعقال وتعاطفاً لا شعورياً مع هؤلاء، بدأ الناس في الخليج تقليدهم هكذا فضلوا العقال الفلسطيني على العراقي الزبيري الضخم. أما العباءة الفخمة التي يلبسها رجال الخليج في المناسبات الرسمية ولا تكتمل زينتهم إلا بها وبعض أنواعه يباع بأسعار خيالية، خصوصاً عندما تكون من وبر الجمال البيضاء، فهي اصلاً فارسية. والبشت عباءة العلماء والفقهاء في فارس يرتديه من بلغوا مرحلة متقدمة من المعرفة الدينية وهو لباس للظهر فقط في فارس، في حين يلتف به رجال الخليج ويبدو انهم أعجبوا به فاصبح جزءاً حيوياً من ملابسهم الرسمية وثمة جزء آخر من الهندام الرجالي في المنطقة تلاشى تقريباً وهو "الصديري"، فقد جرت العادة الا يخرج الرجل الحضري من بيته إلا وقد ارتدى هذا الصديري فوق "الكندورة" ومنها ما هو للشتاء، وأنواع رقيقة للصيف. وفي هذا الصديري كان الرجل يضع محفظته ويعلّق ساعة الجيب التي كانت شائعة حتى السبعينات اضافة إلى أدوات التدخين او النشوق. يقول رجل الأعمال الخليجي محمد راشد الجروان الذي عاش صباه في كينيا الأفريقية في النصف الأول من هذا القرن وعاد ليكتب ويوثق الكثير من ملامح الحياة الاجتماعية ويسجل المورثات الشعبية في بلاده، عبر إصدار سلسلة من الكتب أولها "رسالة إلى والدي" أوائل السبعينات أن المتغيرات السريعة في مجتمعات الخليج لا بد ان تحمل معها بعض ملامح التغيير. والسعي الى الخصوصية لن ينتهي أبداً وان اختلفت الأساليب والطرق. ففي مجتمع الإمارات الجغرافيا والبيئات المختلفة من حيث الإمكانات الطبيعية جبال وسهول وصحراء وساحل ميزت الفئات المحلية عن بعضها بالهندام الخارجي كذلك هو الحال بالنسبة للفروق البسيطة التي نلحظها بين ملابس أبناء الإقليم الخليجي عامة. إننا نحدد انتماء بعضنا جغرافياً وسياسياً من خلال الملابس، فالكويتي لا يستخدم الأزرار أسفل الكندورة أبداً بل السروال. ويستخدم الياقة الماوية المبطنة غالباً. في حين يفضل السعودي الشال الأحمر فوق الرأس الشماخ والقبة العالية بصف من الأزرار. في حين تستهوي ياقة القميص الأوروبية أبناء قطر بل أن طريقة الغترة فوق الرأس هي الأخرى خاصة بكل بلد. نحن في الإمارات قسمان بدو وحضر. البدو يرتدون "كندورة بو فروشة" وهي خالية من الأزرار الظاهرة فوق الصدر التي تحل محلها "الفروشة" وهي شلة من الخيوط الحريرية تتدلى بطول معين من فتحة العنق حتى أسفل الصدر، وهذه تقترب كثيراً من الكندورة العمانية باستثناء بعض الخيوط الرئيسية في الخياطة. ويضيف الجروان: لم نكن نعرف كل هذه الأقمشة والألوان في ملابسنا. عموماً ما يحدث نتيجة طبيعية لواقع الحال واحمد الله أن أجيالنا الجديدة تحتمي بالزي الوطني الآن بعد أن كادت تهجره، فالجميع يعرف أنه في الستينات من القرن العشرين ومع بداية الطفرة النفطية ترك شباب وشابات الإمارات الزي المحلي وارتدوا الملابس الأوروبية حتى أن المدارس اعتمدت اللباس الأوروبي. إلا ان الأمور عادت إلى طبيعتها بسرعة. دور الجمعيات النسائية وتقول أمينة إبراهيم الباحثة الاجتماعية الناشطة في "جمعية النهضة النسائية" في إمارة دبي أن التمرد على الزي التقليدي للمرأة قائم وبوادره ملحوظة في مواقع وتجمعات كثيرة، خصوصاً في الأوساط الجامعية منذ الستينات، اذ تغيرت اللمسات النهائية كثيراً، بل تتغير باستمرار. فهناك موضات من الزخرفة والقصات الخاصة بمنطقة العنق حتى العباءة السوداء التي تلتف بها المرأة عندنا خارج بيتها هي الأخرى شملها التغيير، ولكن الحمد لله أن نساءنا لا زلن متمسكات بها حتى أن الكثير من العربيات الوافدات إلينا اخترن ارتداءها لأنها وسيلة حشمة أيضاً. بعض الشابات يتركن الشيلة غطاء الرأس الأسود فوق أكتافهن الآن، ولكن نظرة المجتمع الإماراتي إليهن تدفعهن إلى إعادة النظر. ونسألها: ماذا عن البرقع الذي كان منتشراً بكثرة ولا نراه الآن إلا في البادية على وجه النساء المسنات؟ فتجيب: البرقع ضرورة حياتية للمرأة في بلادنا أكثر منه ميراثاً اجتماعياً. بعض أجزاء الزي النسائي في بلادنا لها علاقة بتفاصيل الحياة وربما هي ليست أصلية بل استخدمت لاسباب ونقلت إلينا عبر الزمن، البرقع أحدها. بعض الباحثين أرجعوه إلى أميرات فارس اللواتي كنا يتخفين أثناء الخروج إلى الاحتفالات العامة وزيارة الأسواق. البرقع يزيل حرج السيدة عند خروجها من منزلها وما عودة النقاب بأنواعه إلا دليل على ذلك. والبراقع في منطقتنا أنواع، بعضها من الأقمشة الخفيفة وهي الأكثر شيوعاً الآن. وبعضها من ورق مقوّى وأقمشة كتانية مطلية بالمادة التجميلية الزرقاء النيلة من جهة الوجه وهذه تفضلها البدوية حتى اللحظة. لمعان سطحها الخارجي الظاهر للعيان يضفي لمسة جمالية أيضاً، الا أن تمسك البدوية بالبرقع اللامع له أسبابه الوجيهة، فالمجتمع البدوي لم يعد معزولاً كالسابق وهناك الكثير من العمال الأجانب يعملون في هذه المناطق. هذا البرقع يخفي هوية المرأة باستثناء أنها ابنة البادية، كذلك يحمي وجهها من الأتربة والغبار وأشعة الشمس القوية، انه وقاية كاملة لها. في المجتمعات الحضرية الساحلية غالباً لم تعد الشابة مهتمة بارتدائه باستثناء بعض الأمهات والجدات. هذا صحيح، لأن خروجها للعمل لم يعد مرتبطاً بالعوامل المناخية الصعبة، فالغالبية منهن يعملن في المكاتب والمدارس والمستشفيات. ويقول الباحث راشد الفلاسي الذي قدم كثيراً من الدراسات الاجتماعية المهمة حول ظواهر عامة في الإمارات أن الزي الوطني لجميع الفئات عَبَرَ إلى الألفية الجديدة لكنه مهدد في ملامحه النهائية... قد يصمد قروناً أخرى لأنه أصبح بمثابة الحصن الأخير لاعلان الهوية وسط هذا الكم الهائل من الأزياء والثقافات في بلادنا ولو نظرنا إلى ما ترتديه الجنسيات الوافدة خصوصاً الأكثر عدداً مثل الهنود والباكستانيين والأفغان وغيرهم، سنجد انهم حريصون على ارتداء أزيائهم الوطنية، ان بلادنا تبيع من الساري الهندي وغيرها أكثر من أي أزياء أخرى حتى إخواننا العرب السودانيين على سبيل المثال، من الجنسين، جلبوا أزياءهم معهم كذلك الموريتانيون، حتى الأفارقة من دول عدة نراهم يرتدون ملابسهم المميزة وهكذا أصبح ارتداء الإماراتي والخليجي بشكل عام لملابسه الوطنية ضرورة حتمية. في الخارج عندما نسافر نتخلى غالباً عن ملابسنا المميزة حتى لا نصبح هدفاً للآخرين أما في بلادنا فأزياؤنا تسعفنا اقتصادياً ومعنوياً إنها تقضي لنا مصالحنا ولذلك يبدو لي أننا سنتمسك بها لأن مصلحتنا في أن نُبقي عليها. ويضيف الفلاسي: لا بد لنا ان نكون موضوعيين في مسألة التعصب للزي الوطني فهو لا يخدمنا على الدوام لأن بعض الأعمال لا تتفق وأناقة الثوب الأبيض أو حتى تحد من حرية الحركة، فلا يعقل ان يرتديه مهندسو البترول في مواقع عملهم أو العاملون في المصانع والورش. بقي القول ان السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان اصدر اوامره قبل اعوام بعدم خروج العمانيين من الجنسين من منازلهم بدون الزي العماني كاملاً وشدد على وجوب وضع العمامة العُمانية الشهيرة فوق الرأس للراشدين من الذكور في حين يستخدم فريق منهم "محفية" مميزة مطرّزة