في القاموس التركي الرسمي، لا وجود لحرب في جنوب شرقي تركيا. بل لا وجود لفئة من المواطنين الاتراك تسمى الاكراد. انه تعتيم كامل على كل ما يجري هناك من احداث، اذ تمنع السلطات التركية المراسلين الاجانب من زيارة المنطقة مثلما تمنع استعمال بعض الكلمات والتعابير المعبرة عما يجري في تلك المنطقة. الصحافي الفرنسي كريس كوتشيرا الخبير في الشؤون الكردية جمع شهادات جنود اتراك شاركوا في هذه الحرب السرية التركية - الكردية، نشرت "الوسط" الجزء الاول منها في عدد الاسبوع الماضي وتنشر في هذا العدد الجزء الثاني والاخير. بدأ عصمت خدمته العسكرية عام 1993 في فرقة مغاوير الدرك. تطوّع في هذه الفرقة، وتلقى دروسه في بيليسيك، ثم أُرسل بعد ذلك للمشاركة في العمليات التي تجري في منطقة جبل جودي، وهي في ذلك الحين معقل من معاقل حزب العمال الكردستاني ومن المناطق التي تشهد أكثر المعارك "ضراوة" في كردستان. يقول عصمت ان "الارهابيين هاجموا ذات يوم موقعاً يتحصّن فيه زهاء 150 جندياً ويقع على بعد 10 كيلومترات من أُروح على مقربة من جبل جودي، كان عدد مقاتلي حزب العمال الكردستاني لا يقل عن 250. فقُتل ثمانية وعشرون عسكرياً، وعشرة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني لكننا لم نرهم. انهم يحملون قتلاهم معهم. خلال هذه المعركة التي حصلت بالضبط عشية انتهاء خدمتنا العسكرية، قُتل أفضل صديق لي. وقد عمد الارهابيون الى قطع أذنيه واقتلاع عينيه. عندما رأيت صديقي على هذه الحال كدت أُجن من الغضب والعجز. لم يكن بوسعي ان أفعل شيئاً. أخذت أبكي، وأبكي، لديّ صور فوتوغرافية نظهر فيها اثناء تناولنا الطعام معاً". وعندما سألناه عما اذا كان قد رأى جنوداً يقطعون آذان مقاتلي حزب العمال الكردستاني ليصنعوا منها حمّالات للمفاتيح، او عندما يقطعون رؤوس هؤلاء المقاتلين، أجاب عصمت: سمعت كلاماً من هذا القبيل، لكني لم أر شيئاً من ذلك". ويخلص عصمت الى القول: "اننا نذهب الى هناك من أجل حماية الناس، نطلب منهم ان يزوّدونا بالمعلومات، لكنهم يخافون من حزب العمال الكردستاني ولذلك فنحن نخسر دائماً. احياناً يقول لنا القرويون: "ان حزب العمال الكردستاني قادمون"، فينصبون فخاً لنا"! عرض علينا عصمت صوراً فوتوغرافية أخذها اثناء خدمته العسكرية، وفيها نراه واقفاً امام احدى الدبابات حاملاً سلاحه من طراز "ج 3" في جبال كردستان، كما عرض علينا يومياته الشخصية وصورة لأحد اصدقائه الذي قتل اثناء العمليات. وقد كتب بخطّ متكلّف اذ انه لم يتجاوز المدرسة الابتدائية: "أيدين بودن، ولد في ارديسن، قرب رايز على البحر الاسود قام "بخدمته العسكرية" في أروح، منطقة سيرت. في 4 حزيران يونيو 1994. وفي الساعة 16.30. وذات يوم سبت، وعلى قمة الزهرة البرية، أُصيب في صدره برصاصة غادرة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وسقط شهيداً رحمه الله وباركه. عاش الوطن. عاش الذين يموتون اثناء القتال". أما الى جانب صورة صديقه فقد كتب عصمت الشعر الآتي: يحضر الموت فجأة يدهمنا قبل ان نستكمل أحلامنا قبل ان نرتدي ثيابنا ونحمل سلاحنا، قبل ان يتسنى لنا ان نضحك أو نبكي، بل انه يدهمنا دون ان يترك لنا فرصة أخيرة ننظر فيها الى وجوهنا للمرة الأخيرة فؤاد والكوابيس أدى فؤاد خدمته العسكرية في العشرين من عمره، عام 1994. شابٌ متوقد الذهن رغم انه لم يعرف المدرسة إلا خلال السنوات الخمس من الدراسة الابتدائية. "عندما ذهبت لأقوم بخدمتي العسكرية قال لي جدي: "لا تسمع شيئاً، ولا تبصر شيئاً"! لكنني رغم ذلك "سمعت وأبصرت"! وُلد فؤاد في اسطنبول. ورأى رؤساؤه انه مؤهل للالتحاق بفرقة المغاوير، فأرسلوه الى مدرسة مانيسا. هناك كان يتدرب طوال ساعات يومياً في الجبال القريبة، حاملاً كيس أمتعته وبندقيته وذخيرته. كان وزنه 80 كلغ عندما وصل، فهبط الى 65 كلغ بعد 75 يوماً من التدريب. بعد انتهاء الفترة التدريبية جرى استعراض اشترك فيه فؤاد مع 900 من رفاقه، حيث ألقى عليهم أحد الجنرالات كلمة عصماء قال فيها: "لا يسعكم ان تكونوا مغاوير" عندئذ، يقول فؤاد، انطلقت حناجر 9000 جندي في الوقت نفسه صارخة "بلى، بلى، الله" كانت أصداء أصواتنا تتردد في الجبال. كان أمراً مؤثراً!" ثم تابع الجنرال قوله: "اقتلوا او تُقتلوا" كنا فخورين كل الفخر بقبعاتنا الزرقاء". وما ان أُرسل فؤاد الى منطقة سلفان في دياربكر حتى فقد واحداً من رفاقه، لم يعلم ما اذا كان قد توفي من جراء حادث ام انه انتحر": "لقد أصبت بقنوط شديد. فامتنعت عن الكلام، وأخذت أعاني من اضطرابات نفسية خلال مدة معينة. كنا نذهب بصورة منتظمة للقيام بالدوريات: فتذهب سرية من 18 الى 20 مغواراً عند منتصف الليل، ثم تحلّ محلها سرية اخرى بعد ثلاث ساعات. كان ذلك شاقاً جداً في فصل الشتاء. وحتى نخفّف الخطب على أنفسنا كنا نقول في ما بيننا: "بندقيتي هذه، امرأتي، وخنجري هو سلفتي"! "وقبل اطلاق النار كنا نردد ثلاث مرات: ألقوا أسلحتكم واستسلموا". فإن لم يستسلموا أخذنا بإطلاق النار، لم أكن أقاتل من اجل لا شيء. فقد شاهدنا الارهابيين يقتلون نساء واطفالاً في بعض القرى رأيتهم رأي العين. وبكيت طيلة أيام وأيام. لم نكن نكتفي بإيقاع الجرحى في صفوف الارهابيين لأننا كنا ننذرهم بالاستسلام. لذلك لم نكن نتوقف عن اطلاق النار حتى النهاية فالجريح قد يستدرجنا الى كمين او فخّ، فيلقي علينا قنبلة عند اقترابنا منه". "كنت رامياً ماهراً. واشتركت في أربع عمليات كبرى كنا نحن المغاوير في خطوطها الامامية. كنا نذهب الى الجبال لمدة اسبوع او اكثر مع سلاحنا وطعامنا المعلّب. لم نكن نعرف طعم الخبز. ننام في خيام صغيرة كل ثلاثة جنود في خيمة. والجبال في منطقة سيلفان وعرة جداً لا اثر للمياه فيها. احياناً كان القرويون يقدمون لنا شيئاً من الحليب او اللبن. ذات يوم التقطنا اذاعة مجموعة من حزب العمال الكردستاني، وتمكّن ضبّاطنا من تحديد مكان هذا المجموعة بواسطة نواظيمهم، فهاجمناهم وقتلنا ثمانية من أفرادها، بينهم امرأتان. وقد هالنا ما وجدنا معهم من اشياء يحملونها: زيت، سكر، أجهزة راديو، هواتف خليوية، اسلحة، معاطف شتائية، جينزات، جزمات…". "وفي مرة اخرى فقدت سريتنا، خلال احدى العمليات، سبعة من أفرادها. في مثل هذه الحال يفقد المرء مشاعره. يصبح بدون مشاعر يصبح عديم المروءة. بعيداً عن منزله، عن شؤون حياته. لا يرى تلفزيوناً، ولا يقرأ صحيفة. يصبح أشبه بالحيوان. في ختام خدمتي العسكرية أعطوني ورقة: بذلت 18 شهراً من حياتي، وكلّ ما حصلت لقاء ذلك هو هذه الورقة. كنت كمن بذل 18 سنة من حياته"! "لقد رأيت أشياء مذهلة. ذات يوم مات صديقي مصطفى. انفجر به لغم، ونقلوه الى المستشفى حيث لفظ أنفاسه الاخيرة اضطررت لنقل قلبه وعددٍ من اعضائه في كيس من البلاستيك من أجل زرعها في اجساد اخرى. بقيت مصاباً بالسهاد بعد ذلك طيلة ثلاثة ايام، كنت خلالها أدخّن السيجارة تلو السيجارة. كان مصطفى متزوجاً، وكانت زوجته حاملاً، وكان عليّ أنا بالذات ان أنقل اليها خبر مقتله". "في بعض الاحيان يتعرض أحد افراد السرية لخطر الموت. ورغم ذلك فإن هناك من يشيح بوجهه عنه ويمضي في سبيله! نحن في السرية عشرون: اذا أردنا ان لا ننهزم فإن علينا ان نقاتل قلباً واحداً". صحيح ان المرتبات هناك عالية: عندما قمت بخدمتي العسكرية كنت اقبض عشرين مليون ليرة تركية. واليوم يُفترض بهم ان يقبضوا بين 70 و80 مليوناً اي حوالي 160 دولار، وهو مرتب متوسط. ولما سألنا فؤاد عما اذا كان قد شاهد افعالاً فظيعة؟ أجاب: "لقد قال لي احد اصدقائي: كل هذه القصص التي نسمعها كلام بكلام. نحن لسنا مصّاصي دماء". هذا وكانت عودة فؤاد الى الحياة المدنية أمراً شاقاً: "كل يوم عندما استيقظ من النوم، يُخيّل اليّ انني ما زلت في حقل العمليات. احياناً تأتيني احلام وكوابيس ولو أعطوني الملايين فإنني لن أعود ثانية للجيش". غوريس: كردي لقتال الاكراد يشكّل غوريس حالة خاصة: فهو كردي. لكنه رغم ذلك ذهب لأداء خدمته العسكرية في الشرق: أرسلوه الى هناك ليقاتل اخوانه الاكراد… تابع دروسه في مانيسا خلال 45 يوماً بدلاً من الاشهر الثلاثة المعتادة في اواسط العام 1993، مع مجموعة من حوالي الف وستمئة مجنّد، نصفهم من الاكراد. "تلقينا الكثير من التمارين البدنية، ومن المسيرات الاجبارية اثناء الليل في الجبال. ومثّلنا عدداً من المعارك الوهمية. علّمونا كيف نهاجم العدو، وكيف ننجو بأنفسنا. قالوا لنا ما الذي علينا ان نفعله اذا جُرح احدنا او قُتل. اذا وقعنا على جثة احد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، علينا قبل كل شيء ان ننزع منه سلاحه ولكن مع الانتباه الى ان هذا السلاح قد يكون ملغوماً، والامر نفسه يصحّ على جسده: فينبغي ان نربط رجله بحبل وان نطلق النار عليه من بعيد... قمنا بتمارين كثيرة على الرماية. كان ضباطنا يقولون لنا: "انكم اليوم، تقومون بهذه التمارين هنا، لكنكم غداً، ستواجهون العدو على بعد 200 متر. فإذا احسنتم اصابة الهدف كان لكم ان تبقوا على قيد الحياة. وإلا فمصيركم الموت". لقد قصدنا عمداً، انا وأحد اصدقائي، ألا نصيب الهدف، حتى لا نُرسل الى الشرق. فقال لنا الضابط عندئذ: "إتلوا صلاتكما الاخيرة"! "ذات يوم وجد الضابط شعارات مكتوبة على جدران المراحيض مفادها "يعيش حزب العمال الكردستاني" فجمعونا للتفتيش، وقال لنا احد الجنرالات "هناك ارهابيون في صفوفكم… وسوف نعرف كيف نجدهم". بعد ذلك قاموا بتحقيق وسألوا عمن يريد الذهاب الى الشرق. كان هناك حوالي 200 من لا يريدون. ففرزونا على حدة، وتوجّه الينا احد الضباط بلهجة حادة قائلاً: "لماذا لا تريدون الذهاب الى هناك". ولما اجبنا بأننا اكراد، واننا نعلم ماذا يجري هناك. انهال علينا بالشتائم، ووصفنا بأننا اعداء لبلادنا. ثم طرح السؤال من جديد: من يريد الذهاب الى الشرق؟ فلم يُجب احد. فاتخذ قراره بإرسالنا جميعاً الى الشرق! ثم قال في الوقت نفسه انه سيأمر بإرسال رسائل لمخاتير المدن والقرى التي نقيم فيها، يخبرهم فيها بأننا لسنا مواطنين صالحين". خلاصة القول ان غوريس أُرسل الى كارس ثم الى معسكر يضم 300 جندي يقع في قرية صغيرة الى جانب ايلوديري، على مقربة من شيرناك، في منطقة حساسة جداً. كان الضباط يعيشون هناك في ابنية من حجر، بينما كان الجنود ينامون تحت الخيم… "عندما وصلنا سلّمونا عتادنا: خوذة، بدلة عسكرية "للقنّاصة"، خنجر، سترة ذات جيوب خاصة بالذخيرة، بندقية "ج 3" مع امشاطها، كيس للأمتعة، خيمة فردية، فراش ارضي، بطانيات، وسرير ميداني: اي ما وزنه الاجمالي 40 كيلوغراماً! وقّعنا وثيقة نتعهد فيها بأننا مسؤولون عن كل هذا العتاد الذي ينبغي لكل منا ان يحمله معه". بعد وصولنا الى المعسكر ارسلونا كحرّاس لمراقبة احدى الطرقات التي تصل المعسكر بقرية مشبوهة. انطلقنا قبل غياب الشمس بقليل، وبقينا نقوم بالحراسة حتى شروق الشمس. كنا نسير كل اثنين معاً، في ظل جدران صغيرة، ومزوّدين بمناظير صغيرة لمراقبة الجوار. تلقينا أمراً بعدم مخاطبة القرويين باعتبارهم جميعاً من "الارهابيين" كنا معزولين تماماً: لم يكن ثمة هاتف، ولم يكن بوسعنا الاتصال بعائلاتنا الا عبر الرسائل. هكذا تلقيت اول جواب من عائلتي بعد مرور ثلاثة اشهر. وكان الضباط يقرأون رسائلنا. فلم يكن بوسعنا والحالة هذه، ان نعبّر عن حقيقة مشاعرنا وافكارنا. "ذات يوم سألني قائد السرية عن رأيي بحزب العمال الكردستاني في ذلك الوقت، لم اكن مُسيّساً، ولا كنت ناشطاً. فأجبته بصراحة. قلت انني اتعاطف معهم لانهم يقاتلون في سبيل حرية الشعب الكردي. فسألني عندئذ: "اذا نشبت معركة مع حزب العمال الكردستاني، فهل تنقلب علينا لتقتلنا"؟ قلت: "لا. لكنني لن اقتلهم". فلم يحر جواباً، ثم انه قال لي: "لا تقم بأعمال مؤذية لنا. تقيّد بالانظمة، ولا تتسبب بمشاكل" ثم ذهب. وخلال الاشهر الستة التي قضيتها هناك، لم يعد يتوجه اليّ بالكلام. لقد راودتني فكرة التخلص من تلك الورطة منذ ان وصلت الى هناك. وذات يوم ارسلونا الى جبل يعلو 1800 متراً لنتولى حراسة قافلة عسكرية، كنت وحدي على مسافة 3 كيلومترات من الآخرين. وقلت في نفسي ان هذه اللحظة هي اللحظة المناسبة لأتخلص مما انا فيه، واجد قرية اختبئ فيها: مشيت مسافة كيلومترين او ثلاثة، وفجأة سمعتهم ينادونني. لم يكن هناك سوى الجبل. لا اثر للقرى، ولا للبيوت. كان امراً شاقاً، بكيت قليلاً ثم عدت ادراجي. فاستجوبوني وسألوني الى اين ذهبت. فزعمت انني ضللت الطريق، لكنهم لم يصدّقوني، وقالوا انني كنت احاول التخلّص من الخدمة. فنزعوا مني بندقيتي، واحتجزوني في خيمتي عشرين يوماً". "لم نكن نقوم بعمليات، بل بالحراسة وحسب، بوصفنا خفراً. وذات يوم هوجم معسكر آخر اثناء الليل. هرب الجنود وأصيب احد الضباط بجروح. سمعناه يطلب النجدة على الراديو. لكن احداً منا لم يذهب لنجدته. وقبيل الفجر سمعناه ينادي زوجته، ثم لم نعد نسمع شيئاً سوى الصمت". "وذات ليلة هوجم معسكرنا حوالي العاشرة ليلاً. فاختبأنا انا وبعض رفاقي في احد الملاجئ، بينما ذهب جنود آخرون للقتال في الصفوف الامامية. كان الرصاص ينهمر من كل صوب. لم يكن بوسعنا ان نُطلق النار على هدف محدد، لأن حزب العمال الكردستاني كان يهاجما من كل الجهات. فأخذنا نطلق النار في الهواء كي تنفد ذخيرتنا ويتسنى لنا في اليوم التالي ان نقول لضبّاطنا اننا قاتلنا جيداً.. في الصباح، تبيّن لنا ان حزب العمال الكردستاني قد استولى على تسعة من مواقعنا الصغيرة، قرب القرية. وقد انسحب حزب العمال الكردستاني آخذاً معه كل الاسلحة والذخائر والقنابل: لم يتركوا شيئاً". "عندئذ طوّقنا القرية. لكننا لم نعثر على احد باستثناء بعض النساء والشيوخ. فتّشنا كل بيت، ثم قلنا للناس، ان يغادروا القرية في غضون 48 ساعة. وعندما أخلوا القرية المؤلفة من خمسة عشر الى عشرين بيتاً، أشعلنا النار فيها وحرقناها، أنا لم أفعل، ولم اذهب الى القرية". "بعد ذلك، ارسلونا الى منطقة في اقصى الشمال الشرقي من تركيا، قرب الحدود الارمينية. في شتاء 1994 قمنا بعملية واسعة في جبال تندورك. طوّقنا الجبل، وكان هناك جنود ودرك و"قوات خاصة" مغاوير من البوليس مزوّدون بالطوافات والدبابات. لم نشارك مشاركة فعلية بالعمليات. بل كان علينا ان نطوّق الجبل وان نقتل كل الذين يفرّون منه، كنا منفصلين تماماً عن المجموعات الاخرى، ولم تكن لدينا اية وسيلة للاتصال بها. وكانت حياة الجنود في تلك الفرق اشد بدائية من الحياة في سريتنا، اذ انهم كانوا طوال الوقت في اعالي الجبل. دامت العملية شهراً ونصف، كان البرد قارساً. وكنا نشكو من سوء التغذية، والقمل يملأ اجسادنا. وفرّ معظم مقاتلي حزب العمال الكردستاني الى ايران وقيل انهم فقدوا 55 قتيلاً. لكنني من جهتي لم أرَ جثة اي مقاتل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني". حاولنا ان نراعي هويتنا كأكراد. كنا زهاء 40 كردياً في غرفة واحدة وكنا نتحاشى الاحتكاك بالجنود الاتراك. كان احد أعزّ اصدقائي من منطقة سيرت. وكان له اخ بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وذات يوم قال لنا احد الضباط الكبار ممن كانوا على علم بهويتنا: "ستكون هذه آخر عملية تقومون بها"، مما يعني بعبارة اخرى: "سوف تلاقون حتفكم عما قريب"! ولكن لماذا يصرّ الضباط الأتراك على ان يرسلوا الى كردستان جنوداً اكراداً يعلمون حقيقة مشاعرهم. ويعرفون انهم سيمتنعون عن القتال؟ يجيب غوريس: "لأنهم يأملون بتغييرنا وهم ينجحون في ذلك احياناً. ثم انهم لا يريدون ان يفقدوا ابناءهم الاتراك. عندما كنت في جوار شيرناك، كان هناك موقع متقدم يُفترض بجنوده ان يكونوا بإمرة ثلاثة ضباط لكن القيادة لم تكن ترسل اليه في كثير من الاحيان الا مجرد جنود. فقد كان الضباط يبررون عدم ذهابهم اليه بالقول ان لديهم مسؤوليات عائلية". ويقول غوريس: "عادة، لا يُرسل المرء للاشتراك في عملية عسكرية عندما يشارف على انهاء خدمته. لكنني اعرف شخصاً يدعى نظام الدين كيليك من كيزيلتيب، ارسل الى الخطوط الامامية قبل نهاية خدمته بأثني عشر يوماً. فانفجر به لغم وفقد قسماً من رجله. كان قد رفض الذهاب، لكن احد الضباط أكرهه على ذلك!". وعندما سألنا غوريس عما اذا كانت هذه الخدمة العسكرية قد غيّرت فيه اموراً كثيرة، اجاب: "ان غوريس الذي عرفته قبل خدمتي قد مات. قبل ذلك كنت أكنّ بعض المشاعر الانسانية، كنت اعتقد ان الامتين التركية والكردية تستطيعان ان تبنيا شيئاً مشتركاً. لكنني الآن اشعر بالكره تجاه الاتراك. فبالنسبة للاتراك، لا اهمية لمن تكون، في حال كونك كردياً. ذات يوم جاء الى معسكرنا احد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وهو سوري الاصل، مستسلماً، رافعاً ذراعيه في الهواء استجوبوه، ثم اقتادوه الى الجبال وقتلوه". بعد ان قمت بخدمتي العسكرية كنت مستعداً للانضمام الى حزب العمال الكردستاني لكي أكفّر عن خطيئة خدمتي في الجيش التركي. لكنني قضيت الايام الاخيرة من خدمتي في السجن. فلم استطع ان ارافق صديقي الأعزّ الذي نجح، هو، بالفرار من الجندية والالتحاق بحزب العمال الكردستاني. حسين ورغبة الانتقام تابع حسين دروس مدرسة مالايتا مدة شهرين عام 1997 أُرسل بعدها الى الشرق، الى موتكي، وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من بتليس، حيث قضى ثلاثة عشر شهراً. اكتشف حسين في تلك المنطقة عالماً لم يكن يعرف عنه شيئاً، عالم الاكراد: "كل شيء كان مختلفاً، اللغة، طريقة العيش، طريقة اللبس، ومستوى الحياة المتدني جداً". أُرسل حسين باستمرار للاشتراك بالعمليات وهوجم مرات عديدة من قبل حزب العمال الكردستاني: "كنا ننام اثناء النهار، وننطلق الى العمليات اثناء الليل. نقبع في كمائننا ثلاثة ايام او اربعة او اكثر. أسوأ ما حصل لي؟ اصابة احد اصدقائي - وجاري في السكن - بجروح. نقلته طوّافة من طراز سيكورسكي الى احدى المستشفيات حيث توفي. تابعت كل شي عبر الراديو. وعرفت كل التفاصيل. ونشأت عندي منذ ذلك الحين رغبة بالانتقام. لقد قتلنا بعض مقاتلي حزب العمال الكردستاني اما الاسرى فكانت "القوات الخاصة" هي التي تهتم بهم. هل قتلت انا شخصياً واحداً من حزب العمال الكردستاني؟ لا ادري. لم يحصل لي ان اطلقت النار على شخص معيّن. في معظم الاحيان يعمد الجنود الى اطلاق النار كالمجانين وفي كل الاتجاهات. يطلقون النار احياناً على الصخور. عملياً لم يرَ احدنا اياً من الارهابين في وضح النهار اما الذين رأيتهم امواتاً فهم بالنسبة اليّ، باعتباري جندياً، عبارة عن اعداء. عن ارهابيين. كنت أخوض ضرباً من الحرب الاهلية من اجل حماية التراب التركي". استغرق حسين، بعد عودته الى الحياة المدنية، قرابة الستة اشهر حتى استعاد نومه الطبيعي: "لقد علق في ذهني الكثير من الذكريات المؤلمة. لم اكن أقوى على النوم. كنت أفكر في كل ما جرى. ولم أكن أقوى على الكلام عنه. فكّرت بأصدقائي الذين تركتهم هناك. وكنت أخاف ان أقع ضحية لهجوم ما".. عندما سألني حسين عما اذا كان قد ارتبط بصداقات مع أكراد المنطقة خلال الاشهر الثلاثة عشر التي قضاها في منطقة بتليس، قال: "لم يكن ذلك ممكناً على الاطلاق. كان محظّراً علينا ان نتحدث مع المدنيين. طوال مدة خدمتي العسكرية لم اذهب الى اي حانوت في موتكي. ولم أذهب إلا مرة واحدة الى أحد حوانيت بتليس. ليست لديّ أية فكرة عن الأكراد"