يسود الساحة الفكرية، في معظم الأقطار التي كانت تصنف من قبل ك"عالم ثالث"، شعار يكاد يكون الشعار السياسي الوحيد الذي لا اعتراض عليه، شعار "التحول إلى الديموقراطية". وهو شعار يضمر شعاراً آخر: "الديموقراطية هي الحل". ومع أن هذا الشعار ليس جديداً، فإن ما يلفت النظر ان استعادته اليوم تتم بنوع من "التعلق" شبيه بذلك الذي يحظى به عادة "الخاتم السحري" الذي يحل جميع المشاكل، وفي مقدمتها مشكلة هذا "الخاتم السحري" ذاته. ذلك لأنه لا أحد يطرح المشاكل الخاصة بهذا "الخاتم"، بل هي تلغى إلغاء وتسقط من الحساب تماماً، بمجرد ما يبدأ التعلق به. "الديموقراطية هي الحل"! هي الحل لمشكل حقوق الإنسان ولمشكل الحريات العامة، ولمشكل التعسف في السلطة، ولمشكل استغلال النفوذ، ولمشكل البطالة، ولمشكل الفقر... الخ. ولكن هل الديموقراطية هي الحل لمشكل "الديموقراطية" نفسها، حضورها أو غيابها؟ وهل إذا تحقق قسط منها خفت الحاجة إليها كلها؟ وأين تبتدئ وأين تنتهي الديموقراطية؟ وإذا ما تحققت، فهل تغني عن غيرها من الشعارات والمطالب؟ ثم من أين يجب ان تبدأ عملية التحول إلى الديموقراطية؟ أسئلة متناسلة لا حصر لها! ومهما يكن الجواب، فإن الشيء الوحيد الذي يستطيع كاتب هذه السطور تقريره وتأكيده هو ان التجربة المغربية في مجال التحول نحو الديموقراطية قد أثبتت، إلى حد الآن على الأقل، أنه يمكن أن يكون هناك قدر كبير من الحريات العامة، حرية التعبير وحرية التجمع وحرية تكوين الأحزاب وحرية الاحتجاج، وقدر أكبر من الكلام عن الديموقراطية والتنويه بها من القمة إلى القاعدة... الخ، الخ، ومع ذلك تبقى الديموقراطية مطلوبة، وأكثر من ذلك يبقى سؤال، بل أسئلة، "الانتقال إلى الديموقراطية" مطروحة ربما بحدة أكبر! إذاً ستكون هذه الأسئلة مدار القول في هذه الحلقات. وأسئلة الانتقال إلى الديموقراطية ثلاثة رئيسية تتفرع عنها أخرى ليس من الممكن ولا من المفيد احصاؤها، فهي تتوالد وتتناسل كجميع الأسئلة التي تخص شأناً من شؤون الحياة، ولذلك سنقتصر منها على ما يطرح نفسه علينا ونحن نخوض في الأسئلة الرئيسية التي نحددها كما يلي: بما ان الأمر يتعلق بموضوع حصرناه في صيغة "الانتقال إلى الديموقراطية"، فواضح ان المفهوم المركزي في هذا الموضوع هو "الانتقال". ومن البين بنفسه ان الانتقال، أياً كان، يطرح ثلاثة أسئلة جوهرية، هي: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ أما سؤال "إلى أين؟"، بخصوص موضوعنا، فالعنوان يجيب عنه. ولكن يبقى أن نحدد مضمون هذه "الديموقراطية" التي نريد الانتقال إليها. وأما "من أين؟"، فهذا هو المسكوت عنه غالباً، باعتبار ان الانتقال يكون من الوضعية التي "نحن فيها"، والتي من المفروض أنها معروفة. غير أن هذا السكوت يصبح غير محتمل، بل غير ممكن، عندما يطرح السؤال الثالث نفسه: "كيف؟"، إذ كيف يمكن تحديد كيفية الانتقال من دون معرفة دقيقة وصحيحة للوضع الذي يكون منه هذا الانتقال؟ وتزداد المسألة تعقيداً عندما تكون المسألة بين الوضع الذي يراد الانتقال إليه والوضع الذي يراد الانتقال منه تفتقد عناصر الاتصال التي تقيم جسوراً بين الوضعين، مما يجعل من "الانتقال" إشكالية نظرية وعملية وليس مجرد مشكل. ويبدو أن نوعاً من التدرج يفرض نفسه عند طرح أي مطلب. ففي المرحلة الأولى، عندما تكون القضية هي المطالبة نفسها، فقد يكفي تعيين المطلب. والشعارات السياسية هي في الغالب مطالب من هذا النوع، على الأقل في بدايات طرحها، فهي تركز على "المطلب" الذي يقع في جواب "إلى أين؟" وتغيّب، لسبب أو آخر، السؤالين الآخرين: سؤال "من أين" وسؤال "كيف"! أما عندما يكون المطلب بصدد تجاوز مرحلة المطالبة إلى مرحلة الانجاز، فإن سؤال "كيف؟" يفرض نفسه. وواضح ان تحديد الكيفية التي يتم بها الانتقال يتطلب المعرفة بالمعطيات التي يكون عنها. إن طرح سؤال "من أين؟" يغدو حينئذ ضرورياً. والوضع الذي يقع في جواب "من أين؟" صنفان: صنف قائم أصلاً وهو الذي يراد تغييره، وهو في حال مطلب الديموقراطية "الوضع اللاديموقراطي". وصنف لم يتحقق لكونه بقي سؤالاً أو مطلباً صرف النظر عنه بصورة أو أخرى، ولسبب أو لآخر. ذلك ان أي سؤال جديد إنما يقوم في أعقاب سؤال قديم، كما ان أي اختيار جديد هو في الغالب بديل لاختيار سبقه لم يتحقق، أو لم يعد يفي بالمطلوب. والحق ان المطلب الوحيد الذي يبقى صالحاً في كل وقت لا وجود له في الواقع، فما يوجد فعلاً هو جملة مطالب تتوالى، يحل بعضها محل بعض ويقوم بعضها بديلاً لبعض، سواء تحقق من السابق شيء أم لم يتحقق. قد يكون الانتقال من مطلب إلى مطلب راجعاً إلى ظهور صعوبات تجعل تحقيق المطلب السابق أمراً صعباً، وقد يكون بسبب أن الوسائل غير كافية، أو أن الظروف قد تغيرت بصورة تستوجب تغيير المطلب أو الوسيلة، أو كليهما... الخ. نقول هذا ونحن نفكر بصورة خاصة في المطلب الذي كان سائداً قبل مطلب الديموقراطية السائد اليوم. ولكي يأخذ شبابنا، من الجيل الذي لم يعانق مطالب الأمس، صورة واضحة عن المسألة التي نحن بصدد طرحها، نرى من المفيد سرد المعطيات التالية التي أصبحت جزءاً من التاريخ. لنرجع قليلاً إلى الوراء، إلى الوقت الذي كان فيه شباب اليوم في عالم الغيب، أو مجرد صبيان لا مطالب لهم غير المطالب الجسمية المباشرة... لنرجع إلى الوراء ثلاثين أو أربعين سنة لنقارن بين "الانتقال" الذي كان مطلوباً آنذاك و"الانتقال" المطروح اليوم. إن عبارة "الانتقال إلى الديموقراطية" تستدعي اليوم - في أذهان الذين عانقوا في الستينات والسبعينات الماضية ما كان سائداً من قضايا ايديولوجية - عبارة مماثلة كانت تلخص الاشكالية المطروحة آنذاك، أقصد عبارة: "الانتقال إلى الاشتراكية". وما يهمنا هنا ليس التأريخ لهذه الاشكالية، بل تبيان نوع العلاقة التي يمكن إقامتها بينها وبين إشكاليتنا اليوم. إن ذلك سيعيننا على تحديد مضمون الأسئلة الثلاثة الرئيسة التي يدور حولها موضوعنا. كان "الانتقال إلى الاشتراكية"، يلخص "قضية" العالم الثالث في الستينات والسبعينات، وقد صيغت آنذاك صياغة إشكالية كما يلي: "كيف يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد متخلف"؟ كان الجواب السائد يتلخص في كلمة واحدة: "الثورة". وبما أن الأمر يتعلق ب"بلد متخلف"، فلم يكن وارداً أن تقوم بالثورة طبقة عاملة صناعية مهيمنة البروليتاريا، كما كان يُنتظر ان يحدث ذلك في أوروبا في أواخر القرن الماضي، وكان ذلك هو جوهر الماركسية، ماركسية ماركس وإنجلز. ولم يكن وارداً أيضاً أن يقوم بالثورة في البلدان المتخلفة "تحالف العمال والفلاحين"، كما حدث في روسيا التي قاد لينين ثورتها فأصبح ذلك التحالف جوهر اللينينية، أو كما حدث في الصين التي قاد ماوتسي تونغ مسيرتها الثورية الطويلة. ذلك لأن الهيمنة على المجتمع في "البلدان المتخلفة" - أو التي هي في "طريق النمو" - لم تكن لا للعمال ولا للفلاحين، ولا لهم مجتمعين، ولم يكونوا مجتمعين ولا منظمين. في "البلدان المتخلفة" التي سميت فيما بعد ب"العالم الثالث"، كما وصفت "تأدباً" ب"البلدان التي هي في طريق النمو"، ومعظمها خرج من الاستعمار في الخمسينات والستينات لتشكل دولاً "حديثة"، في هذه البلدان، إذاً، كانت القوة المنظمة الوحيدة هي الجيش الذي بادر فعلاً في كثير من البلدان إلى تغيير الوضع مع الفجر ليواصل الحكم في الغالب من خلال حزب وحيد ينشئه انشاء. وقد رافق ذلك بطبيعة الحال تغييب الديموقراطية السياسية، ليس فقط بالإعراض عنها، بل أيضاً بالقدح فيها وفي جدواها، خصوصاً بعد التجارب التي عرفتها بعض هذه البلدان التي نخرها الفساد نخراً، كما حدث في مصر وسورية وغيرهما من البلدان بعد الاستقلال وقبل "ثورة" العسكر. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي وفشل التجارب الاشتراكية في العالم الثالث عموماً، حل شعار "التحول إلى الديموقراطية" محل شعار "الانتقال إلى الاشتراكية". وهذا بعدما كان شعار الديموقراطية، وإلى عهد قريب، من الشعارات التي كانت تعتبر متجاوزة وبالتالي تصنف ضمن أشياء الماضي. ذلك ان شعار الديموقراطية قد ارتبط في التاريخ الحديث بما كان يعرف، في الخطاب الماركسي خاصة، ب"الثورة البورجوازية" بوصفها "ثورة على الاقطاع" وجسراً إلى الثورة الاشتراكية. ومن منظور الخطاب اليساري أو التقدمي عموماً كان ينظر إلى القرن العشرين - في أوروبا خاصة - على أنه قرن "الانتقال إلى الاشتراكية"، الشيء الذي يعني الانتقال من الديموقراطية السياسية البورجوازية إلى الديموقراطية الاجتماعية العمالية. وعندما قامت الثورة الروسية إثر الحرب العالمية الأولى، ونجحت إثر الحرب العالمية الثانية في تشكيل معسكر دولي حولها واستقطاب معظم الحركات الاشتراكية في العالم، صار الحديث عن "الديموقراطية" يعتبر عند هذا المعسكر انحرافاً يمثل ردة ايديولوجية وموقفاً سياسياً معادياً. أما اليوم، ومنذ سقوط المعسكر الشيوعي قبل عقد من الزمن، وانفراد خصمه المعسكر الرأسمالي بالعالم، فقد انقلب الوضع رأساً على عقب: فبدلاً من شعار "الانتقال إلى الاشتراكية" صار المطروح هو "الانتقال إلى الديموقراطية"، وبدلاً من اعتبار الحديث عن الديموقراطية ردة ايديولوجية وموقفاً معادياً، صار الحديث اليوم عن "الشيوعية" شبه مستحيل. أما شعار "الاشتراكية" فلم يعد يقبل إلا إذا خصص بالديموقراطية ليصبح "الاشتراكية الديموقراطية"، وهو نفسه الشعار الذي كانت "الشيوعية" تعتبره انحرافاً يستوجب الطرد والعقاب. وأكثر من هذا صار اليوم عدم تبني حكومة ما ل"خيار الديموقراطية"، أو تلكؤها في تبنيه، يعرضها لعزلة أو عقوبات اقتصادية وغيرها، يفرضها عليها ما يطلق عليه اليوم اسم "المجتمع الدولي": "المجتمع" الذي يتكون أساساً من مجموعة الدول التي كانت تعرف في النصف الأول من هذا القرن ب"الدول العظمى"، والتي اطلقت على نفسها بعد الحرب العالمية الثانية اسم "العالم الحر"، بينما اطلق عليها خصومها اسم "الامبريالية العالمية". اسماء وشعارات كانت بالأمس القريب تملأ الساحة في كل مكان، أما اليوم فقد صارت مجرد ذكريات!