سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ديوانه "الأحزان العادية" يصلح ختاماً للرحلة... لكنه يتمنى مواصلة المسير . عبد الرحمن الأبنودي بين احتجاب الالهام وهاجس الموت : الأغنية صارت سلعة رخيصة ولن أخلع ملابسي الصعيدية !
"ليس لنا تاريخ قبل القصيدة"، يؤكّد عبدالرحمن الأبنودي الذي واجه قبل عام متاعب صحيّة، فالتفّت مصر بكاملها حول سرير مرضه. وها هو شاعر العاميّة المصريّة الذي اعتبر محمود درويش أنّه أزال الحدود بينها وبين الشعر الفصيح، يكتشف أن "الشعر يتدلل عليه" فيمضي إلى النثر، وينتظره صاغراً، مسكوناً بهاجس مرور الزمن و"قلة الوقت المتبقي" : "احساسي يجعلني ابلّغ بما في داخلي بنهم قبل الرحيل"، يبوح الشاعر الذي يعشق الثرثرة، ويكره ان يبيت ليلاً وفي خاطره أشياء لم يبح بها! ويشنّ الأبنودي حملة على الأغنية الاستهلاكية الرائجة، التي انسلخت عن أصولها الريفيّة والشعبيّة، وتاهت في المدن الكبرى، فصارت مثل "آلاف السلع المخادعة التي تعج بها الاسواق الانفتاحية في المدن العربية". كما يعبّر عن أسفه لحالة اللامبالاة التي وصلت اليها العلاقة بين المثقّف والسلطة في مصر: "لم يعد احد يعيرك التفاتا، لا توقيف، ولا مساءلة، وكأن السجن قد ألغي الى الابد، وكأنه حلم قديم جميل غير قابل للتكرار.". هكذا حكى الشاعر عن غربته في "عالم منصرف عن الاهتمام... بأموره وأمورك!"... الشعر يتدلل، والنثر ابن حلال يأتيك كلما اردته. اما الاغنية فلم تعد كتابتها متاحة في زمن الايقاع في اللحن والرقص على المسرح وفي الصالة. والسجن يبدو بعيداً جداً. هذا بعض ما قاله عبد الرحمن الابنودي، في الحوار الطويل الذي اجرته "الوسط" معه في منزله الريفي في قرية "الضبعية"، احدى قرى محافظة الاسماعيلية. في هذا المنزل، المحاط بحديقة مزروعة بأشجار المانجو وبعض النخلات - يقيم الابنودي اقامة متصلة تقريبا، منذ ان عاد من رحلته العلاجية في اميركا قبل شهور... فقد نصحه الاطباء بالتشبع بالهواء النقي الجاف الذي تحتاج رئتاه المتضخمتان الى كل ذرة منه. شهادة محمود درويش سائق التاكسي الذي قادنا إلى الشاعر، أوصانا بالسلام على "الاستاذ". وفي المنزل البسيط الانيق كانت هناك اوراق كثيرة - غير مبعثرة - ومجموعة كبيرة من اقلام الرصاص التي يكتب بها الابنودي قصائده ومقالاته. عبثنا في الاوراق عسانا نكتشف مشروع رواية، تصفحنا ما كتب، وحين سألناه: "هل ستتفرغ لها؟" لم يجب! وأمام اصرارنا، قال: افضل عدم الحديث عنها حتى تكتمل، فهي مجرد مشروع. منذ نحو عام لم نقرأ لك قصيدة جديدة لماذا؟ - بعد "النمل"، آخر قصيدة كتبتها، ازداد "سُعاري" للتعبير عن نفسي وعن عالمي نثراً. منذ عامين او ثلاثة، اصدرت اول كتاب نثري لي بعنوان: "اخر الليل". فاحساسي بسرعة مرور الزمن وقلة الوقت المتبقي، وهو احساس عارم عندي، يجعلني ابلّغ بما في داخلي بنهم ما قبل الرحيل. لكن لا تنسَ ان رحلتي في ديوان "الاحزان العادية" اعتبرها نموذجا للهبة التي يمنحك الشعر اياها حين لا تكون لجوجاً، طفيليا، مقتحمآً، توقظه كل يوم وتطلب منه ان يسامرك وان يدعوك الى مائدته. ولا تنسَ قصيدة "يامنة" وما احدثته من "رجة" بالغة في الاوساط الادبية والشعبية معاً، وكأنها كانت عودة للبكارة والتدفق القديم. منذ اسبوعين هاتفني شاعرنا محمود درويش صائحاً، مناقشاً، مبدياً محبة عارمة لهذه القصيدة. وقال ان عمته ايضا اسمها "يامنة" واني نسفت المسافة بين العامية والفصحى، واثبت انه ليس هناك "شعران" بل شعر واحد، سواء بالفصحى ام بالعامية، وانه كان ينوي ان يكتب عن عمته "يامنة" فأبطلته "يامنة" عمتي، وقلت له: اكتب هذا الاعتراف فلقد تعبت من الاعجاب الشفاهي، ووعد بذلك. ان الشعر كما تعلم هو الرداء والملامح ولون البشرة، وهو تاريخنا، اذ ليس لنا تاريخ قبل القصيدة او بعدها، فعصارة العمر هي مداد القصيدة. وبالتالي ليس احب للشاعر من ان يخرج على الناس بقصيدة جديدة، فاذا تدلل عليه الشعر، او تباطأ، او سلك كالحكام سطوة وقسوة وتكميم افواه وقطع صلات، فاننا لا نملك الا ان ننتظره صاغرين، حتى وإن لم يأت. سلعة استهلاكية أنت غائب عن ساحة الاغنية أيضاً... - انا غائب عن تلك الساحة، لأن أفكاري ليست على الموضة. أعتبر أن الاغنية أداة فنية شديدة التأثير في المجتمعات، بالغة القدرة على التغيير. الاغنية فن جميل، خفيف، ينتقل في حرية الطيور، ويتعقبك اني حللت. والغناء فن يحتفي بالوطن ايضا، كما لا تستطيع اداة اخرى ان تسبقه في هذه المهمة النبيلة، ولنا تجربة طويلة منذ الستينات في هذا المضمار. تقصد أن الأغنية السائدة لا تتناسب مع خياراتك؟ - الأغنية اليوم سلعة استهلاكية، شأنها شأن آلاف السلع المخادعة التي تعج بها الاسواق الانفتاحية في المدن العربية. صارت وسيلة للبيع والشراء، للكسب، سقطت في ايدي التجار وحملت منهم سفاحاً وتشوهت خلقا واسما وطبعا، ضاعت هائمة في المدن الكبرى بعيدا عن اهلها الاصليين في القرى والمدن الصغيرة النائية. ان اي اغنية تدعوك الى التفكير لثانية واحدة تعوق تدفق "الايقاع" الذي اصبح صاحب الحظوة والسطوة، وقذف بالنص ليحتل المركز الثالث او الرابع في طابور اولويات عناصر الاغنية. ولن ترضي لي او لغيره من الشعراء الذين يحترمون اقلامهم، او الملحنين المتبقين من طابور الجدية القديم ان نصبح "كمالة عدد"، او نشارك في تزييف هذا الفن الذي احببناه دائما. ومساهماتي الاخيرة في ساحة الغناء التي يصفها البعض بأنها تأتي على استحياء، تتمثل في اننا ما زلنا نكتب اغنيات درامية للمسلسلات التلفزيونية، وبعض الافلام الجدية، غير الناجحة جماهيريا. فهذه المجالات لا تنال منك، ولا تعتدي على كرامتك، وحرية التعبير عن عواطفك وافكارك. واظن انني في السنوات الاخيرة شاركت في صنع بعض الغناء الجيد في مسلسلات: "ابو العلا البشري"، و"عبد الله النديم"، و"ذئاب الجبل". و"خالتي صفية والدير" و"السيرة العاشورية" حرافيش نجيب محفوظ. وانا قانع بهذا، ولست على استعداد لخلع ملابسي الصعيدية، والخروج على الناس ب "شورت". سرّ حبّ الجماهير قد يفهم من كلامك أنّك بتّ تنظر إلى الجماهير نظرة سلبيّة! لكننا رأينا الجماهير تغمرك بحبها في ازمتك الصحية الاخيرة، فما تفسيرك لكل هذا الحب؟ - بصراحة أصابتني الدهشة مما جرى، ورحت أسأل نفسي: متى تمت هذه الصلة مع الجماهير؟ وعبر اي انتاج بالذات؟ هل هو الشعر؟ الاغنية؟ السيرة الهلالية التي بثت ليليّاً من الاذاعة طوال عام كامل ؟ هل هي احاديثي التلفزيونية والاذاعية؟ ام هل هي مواقفي السياسية؟ انا لا استطيع تحديد اي من هذه العوامل، ولا استطيع القول إنني لا استحق ذلك الحب الغامر الذي لم يعطه الشعب المصري لشاعر من قبل. ودعني اقول: ان اهتمام العالم العربي بي ايضا، خلال تلك الازمة لم يكن ضئيلاً... ذلك أنني لم افرّط في حب الوطن الكبير على الرغم من طول العلاقة والمفاجآت والمباغتات التاريخية والسياسية والحياتية، ولكني رأيت - بلا شك - مناضلين افضل مني بكثير، وادباء اهم، ضحوا اعمارهم من اجل شعوبهم ولم ينالوا هذه الحظوة وهذا الحب لدى جماهيرهم. تكتب عمودا صحافياً اسبوعياً، الا تعتقد ان هذا الشكل من الكتابة جعلك اقرب الى متابعة أحوال الناس؟ - يتعامل معي الناس، غالباً كشاعر. لكنني لست شاعراً طوال الوقت، فأنا مواطن مقيد في قوائم وزارة التموين، واعاني من المواصلات، وتؤذيني جدا انباء العالم وكوارثه، ويتملكني الفزع على طفلتيّ الصغيرتين آية ونوره اللتين انجبتهما "على كبر"، وكل هذا ليس في القصيدة متسع له. ويمكن أن أقول الشيء نفسه عن زياراتي لقريتي، وحواراتي وخناقاتي وموداتي مع اصدقائي، وكلّها لا تحملها القصيدة... الا حين يموت واحد منهم فأرثيه، ما عدا ذلك فأنا اعشق الثرثرة، واكره ان ابيت ليلا وفي خاطري أشياء لم ابح بها. لي ملاحظات على ما يدور في الدنيا والتغيرات التي تصيب المجتمعات العربية والعالمية والتي تصيبنا كأفراد. ولو جلست الى مكتبي منذ الطفولة حتى الآن اكتب شعرا لما انهيت كل ما اريد البوح به. والشعر يتدلل، كما قلنا، وله منطقه الخاص في الرحيل والوصول، اما النثر فهو "ابن حلال". يكفي ان تصنع لنفسك كوباً من الشاي وتجلس امام اوراقك لتكتب ما اردت من امور الدنيا نثراً، والمثقفون فوجئوا قبل القراء، بلياقتي النثرية، وربّما كان هناك ما يشبه الحبر الشعري السري الذي يشحن كتاباتي في امور الاقتصاد والسياسة والفلسفة والادب. ولا شك في انني كنت اتمنى لو لم يكن قلمي يكتب سوى القصيدة، ولكن النثر ساهم في اكتشاف جوانب اخرى مهمة في وعيي، واكد لجمهوري ان الامور لا تأتي من فراغ. لم تعد وراءنا جيوش ! في زاويتك الصحافية تعمد الى "الانتقاد" لا "الهجوم"، و"تناوش" من دون ان "تشاغب". هل فقدت الرغبة في "الصدام"؟ وهل هذا السبب في اننا لم نعد نراك قيد التحقيق او في السجن؟ - تستطيع الحكومة دائما ان تلغي موقفك بمجانية حديثة، اساسها التجاهل والابتسامة الهادئة الهازئة. القاعدة اليوم هي تغييب الجمهور، ومسح ذاكرته، وقد بدأت هذه السياسة منذ سنوات كثيرة ماضية. لم يعد احد يعيرك التفاتا، لا توقيف، ولا مساءلة، وكأن السجن قد ألغي الى الابد، وكأنه حلم قديم جميل غير قابل للتكرار. فجأة اصبح قلب الدولة كبيرا يتسع لكل انزلاقات ألسنتنا ورؤانا المخالفة وقصائدنا ومقالاتنا المضادة، بل والمعادية أحيانا. ذلك انه لم تعد وراءنا جيوش او قوى منظمة، وانما اصبحنا كأسماك صغيرة تقفز وتتقلب في طين البرك بعد انسحاب الماء. لكننا نرى صحافيين ما زالوا يخضعون للتحقيق والسجن... - انا لست صحافيا، ولم اعتد التركيز على شخص بعينه وبإسمه وبصفته لأوجه إليه قذائف مدافعي. الاديب المواطن ينتقد اوضاعاً ويضئ مشاهد بأكملها، قد تغيب عن الجمهور، ويكشف تناقضاتها، ويضع ايدي الجميع على الخطأ. وليست المبالغة من طبعي، وإنما أفزع فيفزع الاخرون بصدق. كما تعلم الدولة ان ليس لي يد ثالثة ممتدة في الخفاء الى اي جهة، وبالتالي فإن معاركي الخاصة/ العامة التي اقودها قد تضئ مواقف وساحات معارك الآخرين، ولكني أظل مستقلاً دائماً. وفي ما يخص سجناء الرأي، فانني دائماً جندي متواضع في معاركهم، وان كنت لا اتبع بالضرورة الاساليب نفسها التي يتبعونها: قضية الديموقراطية هي قضيتنا جميعا، ولا يمكن في يوم من الايام ان اقف مع الدولة ضد كاتب او صحافي او مناضل أو مبدع أو صاحب رأي. لكن، لا تنسَ، في المقابل، اننا اصبحنا حالات حقيقية في حياة شعوبنا، واصبحت محاولات تهميشنا او تعطيلنا نوعاً من العدوان المباشر على الناس. وفي مثل حالتي أصبح من الصعب تكبيلي او الالقاء بي في غياهب السجون. كما أن تجاربنا مع الاحزاب التي دخلناها، واكتشفنا أن قياداتها لا تستطيع ان تثبت انها اشرف من الحكومات المتوالية، جعلت الواحد منّا يضع رأسه على كفه متحملا مسوؤلية وعيه، مدافعا عنه بفردية تتكئ على تاريخه الخاص وسمعته ودرجة ارتباطه بمحيطه الذي يشكل سورا حصنيا من حوله... لكنّ كل ذلك لا يلغي غربتك في العالم المنصرف عن الاهتمام... بأموره وأمورك! معركة "السيرة الهلالية" ويبدو ايضا ان رغبتك في الابتعاد عن المعارك الشخصية، جعلتك تتجاهل الانتقادات التي وجّهت إليك، حول جمعك "السيرة الهلالية"... - لا اظن انك تتجاوز الستين من العمر وتظل محتفظاً بكل الناس كأصدقاء. نحن لسنا انبياء، فهناك من يعتقد انني اخذت اكثر من حقي، وهناك من يستكثر عليّ حب الناس، ومن يرى انني لا استحقه، من الأساس... وكلها امور تخضع لطبائع البشر. وبعيدا عما يقال، دعنا نتتبع ما قمت به مع "السيرة الهلالية" منذ البداية. حين بدأت اهتمامي بسيرة بني هلال كان عمري عشرة اعوام. كنت احضر مولد "سيدي عبد الرحيم" الذي كان ظاهرة متألقة، وكان أشبه بكرنفال فني وادبي عظيم. بل كان المولد المذكور اقرب الى "سوق عكاظ"، اذ يأتيه معظم الشعراء الشعبيين من ارجاء مصر، ليتباروا فنيا وادبيا وموسيقيا. وكان دائما لديك فرصة لاختيار الشاعر الذي تحب، وقد تعجب به لجمال صوته او لروعة عزفه او لأهمية ما يقول. هكذا اتيح لي طوال عقدين أو أقل، أي قبل ان احضر الى القاهرة، ان اتشرب "السيرة"، وان اتدرب على فك طلاسمها، ومصادقة ابطالها، وترتيب حوادثها، والاحاطة الشاملة بجميع الطرائف والصياغات وأشكال الاداء. وهكذا عندما لبيت النداء الفطري وقمت بجمع أجزاء ونثار هذا العمل العبقري، كنت صالحاً للمهمة، طاهر الغرض، طيب القصد. قمت بنوع من التوفيق، إذ أردت أن اجمع الياذة العرب قبل ان تندثر، إذ ان التلفزيون أخذ يهدّد كل التراث الشفهي الشعبي، وليس "السيرة" فحسب. ولم يكن معي المال الكافي ذلك الوقت لتحقيق مشروعي، من امتلاك الادوات اللازمة، وتغطية تكاليف الرحلات الطويلة والاقامة المديدة ايضاً في اماكن بعيدة... واذكر بالخير هنا مساعدة الفنان عبد الحليم حافظ، اذ انه اشترى لي جهاز تسجيل متطوّر رافقني لفترة طويلة. بينما اهداني الموسيقار كمال الطويل اول مجموعة شرائط لأبدأ الجمع. وقد انطلقت فعلاً في تحقيق مشروعي بعد النكسة مباشرة، وهو تاريخ يتوافق مع رواج السيرة على مر العصور، اذ انها كانت تنشط في اوقات الهزائم والاحتلال كزاد للنضال والمقاومة. ولولا ذلك النداء الخفي الذي دفع بي الى جمع "سيرة بن هلال" لما ظللت على قيد الحياة حتى الآن. وبعد بثها عبر الاذاعة وتحقيقها ذلك النجاح الشعبي العارم، ونشري بعض الدراسات والنصوص الشعبية، بدأ الالتفات اليها مسرحياً وتلفزيونياً، واستحضرت الفرق من الجنوب والشمال لتقيم الليالي والمهرجانات. اما انا فأكملت المسيرة الى السودان، ثم الى تونس حيث اقمت فترات طويلة، ورافقت الطاهر غيغة الذي جمع والده عبد الرحمن غيغة اول سيرة تونسية... وفي ضوء كلّ ذلك أؤكّد لك أنني لست طرفاً في تلك المعارك التي تهب بقيادة الاكاديميين العجزة الذين انشأت لهم الدولة "مركز الفنون الشعبية"، و"معهد الفنون الشعبية"، واقساما للادب الشعبي في الجامعات. وعلى الرغم من ذلك لم يحققوا هدفاً، ولم ينجزوا شيئاً. جمعت السيرة كاملة لكنك لم تنشر منها سوى أجزاء. لماذا؟ - أصدرت حتى الآن خمسة اجزاء إضافة إلى دراسة بالفرنسية ترجمها الطاهر غيغة، حين كان وكيلاً لوزارة الثقافة التونسية. واستعد الآن لإصدار عشرة اجزاء جديدة، وان كان المشروع برمته يحتاج الى جهد دولة، ولا يمكنه أن يقوم على جهد فرد واحد، كما هو حاصل ! وانا - كما هو واضح - لم أتكسب من السيرة، بل لقد استنزفتني ماديا والتهمت اجمل سنوات العمر 25 عاماً. لم أتكسب منها، وانما يتكسب منها الآخرون الذين نقلوها إلى التلفزيون او إلى المسرح، أو الذين باعوا الآثار التي جمعوها للجامعات الاميركية والاوروبية... فالتراث الشعبي الشفهي يوازي في قيمته الآثار الحجرية. ولا بدّ هنا من ردّ الفضل الى اهله، فلولا جمال الغيطاني الذي كان مسؤولاً احد فروع النشر في مؤسسة اعلاميّة مرموقة، لما اهتمّ احد بالاستماع إليّ، وتسهيل مهمّتي، كي تجد السيرة طريقها إلى القرّاء والدارسين. ختام لرحلة شاعر لعلّك تعوّض من خلال نشر أجزاء جديدة من السيرة، عن شعور بالنقص من جرّاء انحسار الانتاج الشعري؟ خصوصاً أننا وقعنا في ديوانك الاخير "الاحزان العادية"، على قصائد سبق نشرها في دواوين سابقة... - يعتبر "الاحزان العادية" بقديمه وجديده ديواناً جديداً، فقد راجت بعض قصائده سماعاً، وأنت تعلم أنني مهتم بمسألة الاداء و"توصيل الشعر الى مستحقيه". وهي خاصية اساسية من خصائص تكويني الشعري، تعلّمتها من الشاعر الشعبي الذي يلتحم بجمهوره من خلال الاداء مثل شعراء السيرة الهلالية... فمعظم ذلك الجمهور امي لا يتعامل مع الكتب. ولما كان مثل هذا الشاعر هو ابي الروحي واستاذي الاول، اصبحت قضية الاداء عندي بالغة الاهمية، واصبحت اهتم جدا بعقد علاقة مشابهة او قريبة من علاقته بالجمهور. لذا فان "الاحزان العادية" و"الجزر والمد" قصيدتان شديدتا الشهرة لدى الجمهور. لكن من النادر ان تعثر عليهما منشورتين. لذا فقد جاء تضمينهما ديوني الاخير نوعاً من الحرص على عدم فقدانهما. اذ ان التدوين هو وسيلتنا النهائية لتأمين التواصل مع المستقبل. وما دمت قد فتحت سيرة "الاحزان العادية"، فيجب ان تعرف انه على كثرة ما اصدرت من دواوين شعرية، فان هذا الديوان "من الشعر الخالص"، يصلح أن يكون ختاماً لرحلة شاعر. وان كنت اتمنى ان اعيش وان اكتب وان انشر كثيراً. دور المريض هناك من تأفف من الضجّة الاستعراضيّة التي رافقت رحلة علاجك في العام الماضي... - ما ذنبي إذا كنت محبوباً من الناس؟ لست سعيداً بلعب دور المريض، خصوصا انني وارث لحيوية افخر بها دائماً. ولكن المرض هو مبطل الحيوية الاول، وله منطقه الذي يفرضه. انا مريض بالرئتين، وهما متضخمتان، قالوا لي ان عليّ أن أعيش مع هذا المرض حتى الرمق الأخير، لانني كنت ادخن بين الثمانين والمئة سيجارة يومياً، وهو شيء غبي مارسته بجهل واستهتار، مع انني كنت مدركاً لسوء العاقبة! وها أنا الآن اعيش على "البخاخات" الطبية، وينقطع نفسي عند اول جهد امارسه. لقد جربت الطب الاميركي، لكن الاصدقاء الاطباء في فرنسا يصرون على ان يفحصوا رئتي بأنفسهم، ولا أجد مفراً من الرضوخ لأصرارهم