تاليسكا يُعلق على تعادل النصر أمام الهلال    الهلال يتفوق على سلسلة الأهلي بعد ديربي الرياض    ما حقيقة الاهتمام بضم نيمار من الهلال؟ مدرب إنتر ميامي يُجيب!    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    اتفاقية لخدمات النقل الجوي بين كوسوفا والمملكة لتسهيل نقل الحجاج والمعتمرين    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    دبي.. رسالة «واتساب» تقود امرأة إلى المحاكمة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    مضر والنور يجتازان المحيط والقارة في انطلاق الجولة السادسة من ممتاز اليد    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    الدفاع المدني: استمرار الأمطار الرعدية على مناطق المملكة حتى الاثنين القادم    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    وكيل إمارة الرياض يحضر حفل سفارة جمهورية كوريا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    ما الأفضل للتحكم بالسكري    نقص الصوديوم في الدم يزداد مع ارتفاع الحرارة    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    عن فخ نجومية المثقف    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد عقدين في الامارات يدعو أهلها إلى اعادة اكتشاف ثقافتهم . في العراق علمه السجن السياسي ان فكرة الحرية لا تتجزأ جمعة اللامي : السوط واحد والجلاد متعدد الوجوه !
نشر في الحياة يوم 04 - 12 - 2000

في بلدته أقصى الجنوب العراقي اكتشف الانقسام الاجتماعي الحاد والظلم والفقر... وفي بغداد تعرّف إلى سارتر وتولستوي وكامو وشتاينبك وتروتسكي وغاندي ونجيب محفوظ... وفي الامارات التي لجأ إليها مطلع الثمانينات هرباً من القمع، ها هو يردّد "ليس المهم هو المنفى بل الطريق الى معرفة المنفى". هذا هو الأديب والصحافي جمعة اللامي الذي يعدّ حاليّاً لاصدار ثلاث روايات جديدة هي : "الاسطبل" و"سيفستان" و"بنو بابل في عزلتهم". وهو يلخّص تجربته الانسانيّة والابداعيّة بمهارة حين يتحدّث عن علاقة الترغيب والترهيب بين المثقّف والسلطة. ويؤكّد هذا الأديب العراقي أن مشكلته حرية الإنسان، "بعيداً عن مشاغل الحزبيين وطالبي الوجاهات والمنافع الزائلة". كما يستشهد بمراثي جلجامش المعروفة في صديقه أنكيدو، ليذكّر أن العراقي "كان سبّاقاً إلى اكتشاف سلطة الموت على الإنسان"، ومن هنا الحزن الطاغي على ابداعه... وهو يعتبر ان المشهد الثقافي العراقي "خاضع لسطوة الخطاب السياسي، نظاماً ومعارضة، وفيما النظام يواصل انتاج شعرائه ومثقفيه، تستمر الأحزاب المعارضة في نشر ثقافة السلطة المؤجلة... وهكذا يتم التشويه".
أعلن العراق قبل أشهر عن اجراء يوقف هجرة المبدعين العراقيين. على تنوع اهتماماتهم، الى الخارج، وقرر صرف حوافز مالية لهؤلاء تبين بعدها ان قيمتها لا تتخطى العشرة دولارات لكل منهم... في الوقت الذي نشرت فيه الصحافة الرسميّة لائحة بأسماء أكثر من 190 مثقّفاً "مرتدّاً". واعتبرت القائمة بمثابة "إنذار أخير" لهؤلاء، ومنهم شعراء وكتّاب ومبدعون في عالم السينما والمسرح والتشكيل وكتّاب صحافيون ينتشرون في كل أنحاء العالم. هكذا يجد المثقّف أو المبدع العراقي نفسه اليوم، محاصراً بين نارين، يطارده الرعب إلى أقصى المنافي. وفي هذا المناخ المتوتّر، إلتقت "الوسط" القاص والروائي جمعة اللامي المنتمي لواحدة من أكبر قبائل الجنوب العراقي، يزيد عدد أفرادها عن الأربعة ملايين عراقي ينتسبون الى طيء. ويعيش هؤلاء ملحمة جلجامش الحزينة بنبل أخلاقي منذ موت انكيدو صديق الملك الذي أراد البحث عن سر الخلود من أجل صديقه.
أعلن العراق قبل أشهر عن خطة للإبقاء على من تبقى من المبدعين العراقيين داخل بلدهم، بتقديم حوافز مادية وتحسين أوضاعهم المعيشية لكن قيمة الحوافز لم تتعد العشرة دولارات. هل تستطيع مثل هذه المبادرة وقف هجرة العقول العراقية؟ وكيف تنظر إلي ظاهرة الهروب الجماعي للمفكرين العراقيين؟
- هذه الخطة او الخطوة الحكومية لا تعنيني، لأنها دعاية سياسية... تماماً مثل اي خطة تطلقها فئة سياسية عراقية في الخارج، لأغراض سياسية ايضاً وان تخفّت بأردان ثقافية. ان المشهد العراقي في الداخل كما في الخارج مفضوح أمام أنظار العالم. ربما تجد تلك الخطة الحكومية صدى ما داخل العراق، فلا يزال ثمة من ينتهز الفرص والمكافآت. كما ان هناك من يصر على العيش على لحم مصارينه. هؤلاء أعرفهم بالأسماء، وهم يكابرون مشقات ترتقي الى مصاف المصائب وهؤلاء هم المسكونون بالثقافة الوطنية العراقية والابداع في بلدنا. سيهاجر او يهرب المئات من الأدباء والفنانين والعلماء خارج وطنهم، اما طلباً لرد غائلة الجوع عن أنفسهم وعائلاتهم، او أملاً في منفى يعتقدون بأنه سيوفر لهم حرية مصادرة داخل العراق. لكنّ المسألة الأساسيّة المطروحة على المثقفين العراقيين في الداخل والخارج تتمثل في نظرتهم الى ممارسة حريتهم في الحياة والعمل ايضاً.
ثمة قامات عراقية في الشعر والقصة والرواية والتشكيل والمسرح والبحث العلمي اختارت، او لنقل أجبرت على العيش خارج العراق. وبعضهم مات وعاش ودفن في أرض غير عراقية. وبصرف النظر عن الخيارات السياسية للمثقفين العراقيين، فإن نتاجهم هو القضية الأهم : الجواهري، البياتي، مصطفى جمال الدين، بلند الحيدري، فائق حسن، نوري جعفر... هؤلاء غادروا الوطن ودفنوا في أرض أخرى، وهذا حقّهم. وهناك أسماء لا يمكن الا التوقف عندها، مثل عبدالرزاق عبدالواحد ويوسف الصائغ وأحمد خلف ومحمد خضير وعبدالخالق الركابي وعزيز السيد جاسم وغيرهم من الذين اختاروا البقاء في الداخل، او أجبروا على ذلك. هذه مسؤوليتهم وعليهم تحمل نتائجها! لا يرفع من شأن الثقافة العراقية الا ناسها، ولا يسيء إليها الا من يضطهد المبدعين العراقيين، أو يغمض عينه عن ذاك الاضطهاد. وبصرف النظر عن الجغرافيا فإن السوط واحد والجلاد متعدد الوجوه والأردية. ان المشهد الثقافي العراقي خاضع لسطوة الخطاب السياسي، نظاماً ومعارضة، وفيما النظام يواصل انتاج شعرائه ومثقفيه، تستمر الأحزاب المعارضة في نشر ثقافة السلطة المؤجلة... وهكذا يتم التشويه.
صياد وطريدة
استقطاب الأنظمة السياسية في الوطن العربي لبعض الرموز الفكرية مسألة محيرة... فهل يعني ذلك ان للمبدع العربي دوراً مهمّاً على المستوى العام؟
- استطاع النظام العربي اعادة انتاج نموذجه المحلي مرات عدة، وها هو الآن يدخل ألفية ثالثة بأقنعة جديدة ومؤسسات مستحدثة. وباستثناء قلة قليلة من الأنظمة التي لا مجال أمامها للخروج من أزماتها المعقدة الا بالوقوع في أزمات مركبة جديدة، فإن بقية مفردات "النظام العربي" تبدو مسترخية ومستريحة تماماً. النظام السياسي ينصب دائماً شباكه في انتظار الطريدة، وبينما نجد بعض الأدباء والفنانين منساقاً الى تلك الشباك بإرادته لدواع وأسباب لم تعد مخفية على أحد، فهناك آخرون يختارون طرقاً تبعدهم عن تلك الشباك ولو بالصمت أحياناً! نعم النظام العربي يعرف أهمية المبدع، لذلك تكثر في عالمنا العربي المهرجانات الشعرية واللقاءات الفكرية الدورية والجوائز والمنتديات التشكيلية والمسرحية والموسيقية. أما المبدعون العرب الذين يعرفون أهمية دروهم في اعادة بناء الانسان، فيعرفون كيف يصونون كرامتهم، ويرفعون صوتهم عالياً وسط هذا الخراب العظيم.
خروجك من العراق والتريث في العودة اليه هل هو قرار شخصي ؟ ولماذا اخترت الامارات ؟
- غادرت العراق أكثر من مرة بين عامي 1970 و1979، لكنني كنت أعود اليه لاعتقادي أن وجودي بين أهلي ربما يكون مفيداً، على الرغم من أني كنت أعيش عند الحافة القصوى للخطر، خصوصاً بين 1977 و1979، اثر تقديمي الى محكمة ثورية بناء على أمر الرئيس السابق أحمد حسن البكر. ان مغادرة الوطن أمر خطير جداً بالنسبة إلى أولئك الذين يعرفون أنفسهم وأوطانهم جيداً. وقد أقدمت على اتخاذ هذا القرار، بعد أن أدركت أني معرض للقتل لا محالة عقب مقال نشره خير الله طلفاح الذي صار في ذمة الله، في جريدة "المحاربون القدامى" توعدني فيه بالتصفية الجسدية تماماً مثلما حدث بحق الشيخ الماشطة والشهيد سلام عادل، لذلك آثرت مغادرة العراق حراً، ومحطتي الأولى كانت بيروت حيث كان هناك مربع صغير يلجأ اليه العراقيون، غير اني وجدته لا يختلف كثيراً عما أعانيه في بلدي. فمثقفو السلطة المؤجلة المعارضة يشبهون إلى حدّ بعيد السلطة التي يعارضونها. هكذا لممت وجهي باتجاه الإمارات العام 1980. ومن حسن الحظ انني مارست مهنتي كصحافي، مديراً لتحرير احدى الصحف الخليجيّة البارزة، فالناس في الإمارات يعرفون الأصيل ويقدرون مواقفه. مشكلتي حرية الإنسان أخلاقياً وسياسياً، بعيداً عن مشاغل الحزبيين وطالبي الوجاهات والمنافع الزائلة. هذا ما تمسكت به داخل العراق وخارجه.
طفولة الظلم
حدثنا عن انتمائك وتكوينك الفكري وهاجس الاتصال بالجذور وتجربة الترحال بين المنافي...
- ولدت ونشأت في جنوب العراق حيث الانقسام الاجتماعي الحاد، والظلم والفقر والحزن المتصل في البيوت وبساتين النخيل والمساجد والأسواق، والمظاهرات الطلابية والعنف المضاد، والمطاريد والفتوات ومشاجرات الصيادين ومعارك العشائر... في وقت مبكر من مرحلة الدراسة الابتدائية، كنت أكتب مواثيق الاحلاف بين العشائر والقبائل، ورأيت بأم عيني كيف يظلم الفلاح الجنوبي، والتباين والتمايز بين العرب الصرحاء وأبناء القوميات الأخرى من البلدان المجاورة. كما لاحظت الحياة السرية لعدد من العوائل التي نزحت من شبه جزيرة العرب واستوطنت جنوب العراق، وميسان تحديداً في محافظة العمارة. تأثرت كثيراً بتقاليد عاشوراء والمنابر الحسينية، وراقبت كيف يسافر أهلي لزيارة المراقد في كربلاء والنجف وبغداد وسامراء. وقفت مشدوهاً أمام موت اخواتي والنساء اللاتي يخترن حياة الرجولة. وصاحبت المغنين الجوالين والعشاق، وكنت أنجذب الى الرقص الغجري في الأفراح. عشت تجربة الدفن الموقت لموتانا في العمارة أيام فصل الشتاء، تمهيداً لنقل رفاتهم الى النجف حين تجف الأرض، وتعلّمت كثيراً من الحكايات الأسطورية عن الأهوار. وشدني الحديث غير المتقطع عن ذلك "المنتظر" الذي سوف يظهر في آخر الزمان ليخلص العالم من الظلم. ودخلت منازل المسيحيين وأكلت الطعام مع عوائل يهودية في العمارة. وعشت تقاليد وطقوس الصابئة... وكان يحزنني أولئك الزنوج وهم يتعرضون الى العزل والاحتقار.
في السجن
وكيف كان لقاؤك ببغداد؟
- حين زرت بغداد كان الأمر مدهشاً بالنسبة إلي: أحياء معزولة للفقراء، الأطفال الأكراد الذين يعملون ماسحي أحذية، الآشوريون العاملون في الحانات، الكتابات السياسية على جدران منازل حي "البتاويين"، الصحف البغدادية وهي تنشر نبذ السياسيين لأحزابهم. أخبار المعتقلات وموسكو وبكين وعبدالناصر، وفهد والشهيد عطا والجادرجي. وقبل أن ينبت الزغن الأصفر فوق شفتي العليا، تشكل لدي وعي اجتماعي حاد. وبدأت أتحدث عن تيتو وماركس وأبي ذر الغفاري وعلي بن أبي طالب ويوسف سلمان يوسف وحسين الرضوي... كنت أرى في هؤلاء جميعاً طلاب عدالة يستحقون الاحترام. ثم وقعت طريدة للنقاد الرسميين في الحزب الشيوعي العراقي بعد بروز معالم تجربتي القصصية الجديدة. فقد اعتبروني داعية لليأس، بينما كنت أحارب "الستالينية" و"الجدانوفية" وحيداً. أحببت عبدالناصر لأني عروبي، واحترمت ماركس لأن أستاذي ممدوح الألوسي الذي اغتيل أمامي عند بوابة "مدرسة النضال" في بغداد، كان من أشياعه. واحترمت أبو موسى الشيوعي العراقي لأني كنت أعي مظالم الفلاحين. وفي نهاية العام 1959 عندما انتقلت الى بغداد هرباً من تنكيل الشيوعيين، انفتح أمامي باب لا حدود لضخامته أدخلني الى دارة لا نهاية لها، فكثفت قراءاتي : تعرفت الى سارتر وتولستوي وكامو وشتاينبك وتروتسكي وغاندي ونجيب محفوظ. وأخذت بارتياد دور السينما وعروض المسرح، وأتنقل بين الحانات وأنام على أرصفة بغداد. ودخلت السجن مطلع العام 1963 لمدة خمس سنوات ونصف، تنقّلت خلالها بين جميع سجون العراق. وفي أواسط الستينات اكتشفت بول نيزان ومالرو، واشعار البياتي والجواهري وأدونيس.
اختيار المنفى
وماذا علّمك السجن، وبعده المنفى؟
- علمني السجن السياسي ان فكرة الحرية لا تتجزأ. فبدأت أتحدث عن الظلم الذي تعرض له السياب وجريمة اغتيال بول نيزان واضطهاد الآخرين، وهذا لم يعجب اليساريين والمحافظين على السواء، حتى انني كدت أقتل على يد أحد الشيوعيين، فقد عشت سجن السلطة وسجن المعارضة أيضاً. وهكذا بدأت أكتب عن الجلاد الرسمي والجلاد المناضل، فخرجت رواية "من قتل حكمة الشامي" التي بقيت 5 سنوات في أسر الرقابة، لاعتراض الرقيب على قصة قصيرة عنوانها "وثائق للوحش" تم نشرها في صحيفة "النهار" اللبنانية، وقد علق عليها عصام محفوظ واصفاً اياي أنني "الكاتب العربي الأول الذي يكتب كما أبولينير". إن الطلقات التي اخترقت رأسي بول نيزان الشيوعي الفرنسي وممدوح الألوسي العراقي ما تزال تؤرقني. الآن، وقد تجاوزت الخمسين، عندما أستعيد شبابي أتذكر "غاستبي العظيم" وعذابات سكوت فيتزجيرالد، واشتياقات الحلاج والموت الصامت للسهروردي الشهيد وجنون بيتهوفن وعزلة جمال حمدان. أقول لست منفياً، لقد اخترت المنفى، منفاي ليس الجغرافيا انه "زينب" المرأة والحبيبة والوطن والعدالة والصعود الى ملكوت الله، كما عبرت عنه في "مجنون زينب"، إذ ليس المهم هو المنفى بل الطريق الى معرفة المنفى!
الحزن يليق بالعراقيين
لماذا يبدو الإبداع العراقي، في معظمه، مسكوناً بالحزن والتداعيات المؤلمة ؟
- الحزن ظاهرة انسانية عامة وقديمة في حياة الأمم والشعوب. وتحفل أساطير البشرية الاغريقية والهندية والفارسية على سبيل المثال بأسماء الحزانى والحزينات من الملوك والأبطال التاريخيين والقديسين وحتى الناس العاديين. وتذكر الكتب المقدسة للديانات التوحيدية الثلاث الحزن بصفته عنصراً مترابطاً مع شخصيات مقدسة، أو ذات صفة جبروتية... والنموذج الأقرب الينا ما ورد في القرآن الكريم حول حزن النبي يعقوب على ابنه يوسف.
أما العراقيون فالحزن يليق بهم. العراقي يعبر عن حزنه باكياً وضاحكاً في آن. وفي المدونات العراقية التي يعود تاريخها الى نحو 7 آلاف سنة، وكذلك في الأدب العراقي المعاصر، يتجلى الحزن والبكاء حتى أكاد أقول إن الحزن موغل في أعماق الشخصية العراقية، ربما يعود هذا الى مرجعية أخلاقية، إذ كان العراقي سبّاقاً إلى اكتشاف سلطة الموت على الإنسان، كما تشير مثلاً مراثي جلجامش المعروفة في صديقه أنكيدو. ومن الملفت ان هذه المراثي ارتبطت ببحث جلجامش عن سر الخلود الذي هو النقيض لسطوة الموت. كما ان الكوارث الطبيعية المهلكة وطغيان دجلة والفرات في مواسم الفيضان، والمصير التراجيدي للقامات العالية في تاريخ العراق القديم والحديث على حد سواء، جبلت العراقي بالحزن والبكاء.
ويعبر الناس في بلادي عن أحزانهم بأساليب لا قبل للبشرية بها. فالمرأة العراقية العاشقة عندما يحال بينها وبين حبيبها لا تقص شعر رأسها فقط بل تحلقه كاملاً تعبيراً عن الحزن كطريقة للاحتجاج الصامت، ولكنه الصمت البليغ، في حين يعبر آخرون عن حزنهم لفقدان الأحبة والشخصيات التاريخية بطريقتهم الخاصة.
انه الحزن العراقي المترفع. أليس من حقي القول ان الحزن يليق بالعراقيين؟!
المداحون الكذبة!
بعض المثقفين الإماراتيين عاتب على الأقلام العربية التي مارست نوعاً من "التشويش" على التنامي الثقافي في المنطقة لكثرة الاطراء والمديح. فما رأيك وأنت تقيم وتعمل هنا منذ عقدين؟
- من حق المثقفين والأدباء الإماراتيين أن يغضبوا من الأقلام العربية الوافدة أو تلك التي تزور البلاد في مواسم معلومة. وأعتبر هذا الغضب دليل صحوة حقيقية وان اتسم أحياناً بالحدة، أو حتى بالتجريح الشخصي. خلاصة الكلام ان بعض الذين تعاملوا مع تجليات الساحة الثقافية - الأدبية، لم يتصرفوا من منطلق الموضوعيّة والتعقل والمسؤولية مع أسماء ورموز اماراتيّة معروفة. أذكر على سبيل المثال حادثة كنت شاهداً عليها في بيت الراحل سلطان بن علي العويس، مؤسس وصاحب الجائزة التي تحمل اسمه. فقد جمعتني المصادفة بأحد أساتذة الأدب العربي حول مائدة غداء في منزل الشاعر الراحل. وانبرى أستاذ الأدب للتحدث عن فتوحات سلطان في مجال الشعر، وقال انه بصدد تأليف كتاب ضخم حول الرجل وشعره... ولاحظت علامات الامتعاض على وجه سلطان العويس. فهو المعروف بأدبه الجم وصمته البليغ، لم يرغب في مقاطعة الأستاذ الممالئ ووضع حدّ لسيل مدائحه. لقد كان العويس نفسه يعرف، قبل غيره، قدراته الشعرية وحياته، فهناك شعراء عموديون أهمّ منه، لكن أيّاً من الوافدين لم يقترب منهم أو من نتاجهم الشعري. هكذا بدا الأستاذ المذكور في موقف سخيف إذ كان، في نهاية الأمر، لا يكذب إلا على نفسه!
ماذا عن المثقفين الاماراتيين أنفسهم؟
- هذا هو الجانب الأهمّ من القضيّة. إن الحركة الثقافية والإبداعية في الإمارات لم تنتج ناقدها المحلي بعد. وهذا أمر يدعو للاستغراب حقاً، إذ ان العديد من مثقفي البلاد يكتبون عن العولمة وما بعد الحداثة، ولكننا لا نجد كتابات تستحقّ الاهتمام حول الأدب الاماراتي. فإما ان الابداع الاماراتي لا يستحقّ الاهتمام، وهذا غير صحيح، وإما أن بعض النقاد والمثقّفين لا علاقة تاريخية له بالمكان... إن الثقافة الإماراتية في حاجة الى اعادة اكتشاف نفسها من قبل أبنائها، وبالتالي من قبل المثقفين العرب والأجانب. هذه هي القضية البالغة الحساسية الآن. قبل عقد سألت شاعرة اماراتية عن علاقتها بابن ظاهر، وهو من الشعراء الفطاحل في جنوب الجزيرة العربية عاش في الإمارات قبل ثلاثة قرون ويعتبر رائد القصيدة النبطية في المنطقة. لم أسمع جواباً شافياً، بل لم أسمع جواباً على الاطلاق.
نسمع أكثر من كاتب اماراتي يتكلّم عن "مفهوم الثقافة الوطنية في الإمارات"، في حين انّه يجهل تماماً تاريخ الحركة الثقافية في بلاده. فهل المخزون الثقافي هو نتاج المرحلة التي تلت نشوء الدولة والاتحاد أوائل السبعينات فقط؟ وهل ننسى أن الأدب الشفاهي في الذاكرة، ثم المدون بعد ذلك، أقدم بكثير من ذلك التاريخ ؟ إن المصادر الموجودة بين أيدينا عن ذلك التراث الغني محدودة جداً للأسف، ومعظمها رسائل وأطروحات جامعيّة، تكتب من دون جهد ميداني استقصائي، ومن دون اعادة اكتشاف شخصية المكان. ومعظم المصادر المستعان بها كتبت بدوافع تسويقية خاصة، لا استناداً الى أخلاقيات الكتابة المسكونة بالصدق والموضوعية. وأزعم ان مثقفي الإمارات إذا خرجوا من عباءة جمعيّات النفع العام، قادرون على انجاز المهمة بصرف النظر عن الزمن. هناك قلة من الأدباء العرب والمثقفين ممن يعملون بصمت هنا، وهؤلاء يستحقون التحيّة، وهي مسؤولية القيّمين على الشأن الثقافي.
سقوط الشعارات
كيف تنظر إلى المشهد الثقافي العربي، بعد انهيار الايديولوجيات، وخفوت بريق الأحزاب، وتساقط الشعارات التي استأثرت بالمبدعين في الزمن الغابر؟ ما هي آفاق المرحلة المقبلة؟
- الإيديولوجيات التي انهارت مطلع التسعينات، كان لها تأثير كبير على المثقفين الخليجيين طوال الثمانينات. فلو تصفحنا عناوين أطلقت على المجموعات الشعرية أو القصصية أو المسرحيات أو حتى اللافتات التي جرى تنظيم فاعليات تحتها، لوجدنا حضوراً قوياً للشعارات التي سقطت تماماً وأصحابها اليوم أول من يحاول نسيانها. كنت قد حذرت المبدعين الإماراتيين من خطورة هذا النهج المدمر للثقافة، وكتبت كثيراً عن الموضوع في الصحافة المحليّة، وقلت انها "ثقافة صوتية لا حياة فيها ولا مجد من ورائها"، ولم يصدقني إلا القلة. والآن، بعد افتضاح الأنظمة والأحزاب التي حسبت على الإيديولوجيا القومية عربية والايديولوجيا العالمية اليسارية، هناك من يعمل على الافادة من هذا التراكم بكونه خبرة، وهناك من عاف الثقافة والإبداع إلى غير رجعة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.