اختصر سياسي لبناني بارز، تربطه علاقات طيبة بدمشق، الجدل الدائر حول وجود سورية العسكري في لبنان ودورها فيه بالآتي: "تحميل الوجود العسكري السوري مسؤولية ارتباك الدولة اللبنانية والتعثر الاقتصادي موقف ظالم لسورية لأنه يتجاهل ما قدمته لانهاء الحرب وبناء المؤسسات. واعتبار العلاقات اللبنانية - السورية، بصيغتها التي رسمت في التسعينات، نموذجية وغير قابلة لأي نقاش موقف يتضمن قدراً من الظلم للبنان. الدعوة الى انسحاب الجيش السوري قبل انتهاء النزاع العربي - الاسرائيلي لا تحظى بإجماع في لبنان. والدعوة الى إبقاء الأمور على ما هي عليه لا تحظى هي الأخرى بإجماع". وأضاف: "لا مصلحة للبنان في أن ينقسم اللبنانيون حول وجود سورية العسكري في أراضيهم ودورها في لبنان. ولا مصلحة لسورية في أن يعود وجودها في لبنان ودورها فيه موضع تنازع بين اللبنانيين وبينها وبين بعضهم". ولفت الى أهمية المناخ والنوايا قائلا: "من حق أي طرف لبناني ان يطالب بتطبيق اتفاق الطائف الذي تحدث عن إعادة انتشار القوات السورية. ومن حق السياسيين اللبنانيين ان يطالبوا بإعادة قراءة الاتفاقات الموقعة بين البلدين، لكن المصلحة العليا تقضي بأن يتم طرح ذلك في مناخ من الثقة وانطلاقاً من الحرص على العلاقات المميزة بين البلدين. وإذا خلصت النيات وتوافر مناخ الثقة فإن سورية ستكون مستعدة، على الأرجح، للبحث في هذا الملف". وانتقد السياسي دعاة "الحد الأقصى" الذين لا يأخذون في الاعتبار أهمية توحيد الموقف الداخلي وأهمية الظروف التي تعيشها المنطقة. وحمل الدولة اللبنانية والسياسيين المعتبرين حلفاء لدمشق مسؤولية تجاهل الاشارات المتتالية والتي انتهت بانتقال الملف الى الشارع. ورأى انه "لا بد لسورية من الاعتراف ان شيئا ما تغير في لبنان، فقد جرت ثلاث دورات من الانتخابات النيابية واستكملت إعادة بناء الجيش وانسحبت اسرائيل من جنوبلبنان. وكل هذه العوامل يجب ان تدفع سورية الى اجراء مراجعة لدورها في لبنان وبحيث تغيب الادارة السورية اليومية للشأن السياسي اللبناني، في مقابل مراعاة لبنان للمصالح الاستراتيجية السورية والتي قد تقتضي استمراراً لبعض التجمعات العسكرية السورية في منطقة البقاع". ودعا السياسي اللبنانيين الى الافادة "من وجود قيادة سورية شابة تدرك أهمية تركيز العلاقات على قاعدة المصالح المتبادلة، وهي قيادة منفتحة لن تتردد في الوقت المناسب في المبادرة لانقاذ العلاقات وتصحيحها خدمة للبلدين". أخذ الخطاب السياسي في لبنان منحى تصعيدياً على خلفية العلاقات اللبنانية - السورية، والوجود العسكري السوري في لبنان تحديداً. وجاء هذا التصعيد بعد صدور نداء بكركي 20/9/2000 عن مجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. فقد دعا النداء الى اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه الكامل وذلك تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني اتفاق الطائف. وكانت مداخلات في مجلس النواب إبان جلسات الثقة بحكومة الرئيس الحريري دعا فيها اكثر من نائب الى "اعادة التموضع" أو الانسحاب التام من لبنان. وكان بين ابرز الداعين الى اعادة التوازن الى العلاقات اللبنانية - السورية، وليد جنبلاط وهو ما ردده امام مؤتمر الحزب الاشتراكي الفرنسي في باريس فصدرت اجراءات سورية بحقه بروتوكول الدخول الى سورية. وقام أكثر من طرف بزيارة دمشق لبحث هذه الموضوعات، ومجمل العلاقات بين البلدين، وربما لإقامة جسر حوار بين سورية وبكركي. من أبرز هذه الشخصيات وزير الخارجية اللبناني السابق فؤاد بطرس. وكانت المبادرة الأخيرة على يد رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي زار بكركي ضيفاً على البطريرك وأعلن من هناك ان سورية شرعت منذ نيسان ابريل الماضي بتجميع قواتها وهي ستستكمل ذلك في وقت قريب. وردت مصادر سورية على ذلك بالنفي واعتبرت كلام الرئيس بري بأنه مجرد "مبادرة شخصية" ارتكب فيها خطأين: "الأول كلامه عن استكمال اعادة الانتشار وهو موضوع رئاسي، والثاني تركه الانطباع بأنه مكلف من دمشق لاعلان ما أعلن وهو غير حاصل". اما الرئيس بري فاكتفى بالقول: "اللهم إني قد بلّغت"! هل يمكن القول، بعد هذه التطورات، ان العلاقات اللبنانية - السورية هي على المفترق؟ أولاً: العلاقات الصعبة: منذ بداية هذا القرن والعلاقات اللبنانية - السورية في شبه تأزم دائم. ويرجع ذلك الى وجود تيارات سياسية مختلفة ومتباينة ومتناقضة على ساحة البلدين منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وخلالها وبعدها، وفي مرحلة نشوء الكيانين خلال زمن الانتداب الفرنسي وصولاً الى مراحل الاستقلال في الاربعينات والموقف من الاحلاف في الخمسينات وقيام الوحدة السورية - المصرية وانعكاسها على لبنان في أواخر الخمسينات. ثم اشتدت الأزمات بين البلدين بعد حرب حزيران 1967 وتدفق الفدائيين الفلسطينيين الى لبنان بعد أحداث الأردن ايلول 1970. وما سبقها من إلزام لبنان بتوقيع اتفاقية القاهرة 1969 التي تسمح للفلسطينيين القيام بأعمال فدائية ضد اسرائيل عبر حدود لبنانالجنوبية، الى ان اندلعت الحرب في لبنان عام 1975. في جميع هذه المراحل شهدت العلاقات اللبنانية - السورية صعوداً وهبوطاً. أزمات وانفراجات، متأثرة بالواقع الاقليمي وباستراتيجيات الدول الكبرى في المنطقة. وهو ما أدى في العام 1976 الى دخول الجيش السوري الى لبنان. ومع ان أسباب هذا الدخول ومبرراته تصاغ وفق الحالات والجهات: تارة بطلب من المسيحيين الجبهة اللبنانية ودفاعاً عنهم، وتارة بطلب من المسلمين قمة عرمون ودفاعاً عنهم، وتارة دفاعاً عن الثورة الفلسطينية، وتارة بدافع أخوي وليس بطلب من احد. مع كل هذه "المبررات"، فإن الدخول العسكري السوري الى لبنان كان في الدرجة الأولى استجابة لمصالح سورية الاستراتيجية الحفاظ على النظام وتوسيع النفوذ وبدعوة من الولاياتالمتحدة لأسباب استراتيجية. وهذا الأمر حسمه موريس ديبر مساعد هنري كيسنجر آنذاك لشؤون الشرق الأوسط، اذ قال: "نحن دعونا السوريين للدخول الى لبنان، ولولانا لما دخلوا، وأنا شاركت في قرار ادخالهم وفي التفاهم الذي دخلوا بموجبه" الوطن العربي عدد 360 في 12/8/1984. هذا الكلام من مصدر اميركي يؤكد الحقيقة القائلة ان الرئيس الراحل حافظ الأسد هو أحد أبرز رجال الفكر السياسي الاستراتيجي العربي على امتداد نصف قرن. فالرئيس السوري على عكس الرئيس العراقي يدرك تماماً ان ادخال جيشه الى لبنان من دون موافقة اميركا التي هي بدورها ستنسق مع اسرائيل حول آلية هذا الدخول، كان سيؤدي الى حرب مباشرة بين سورية واسرائيل. وقد اقنع كيسنجر الدولتين بأن قيام تحالف فلسطيني - يساري مسلح في لبنان يشكل تهديداً لأمن سورية واسرائيل على السواء متمثلاً بخطر قيام دولة راديكالية تهدد في الوقت ذاته مصالح اميركا في المنطقة. لذا كان التفاهم الذي عُرف بنظام "الخطوط الحمر" فوق لبنان والذي وضع لبنان عملياً في وضع الكوندومينيوم أي الدولة المحكومة من دول خارجية. ولا سيما سورية في مختلف مناطق لبنان مع استثناء منطقة الجنوب الممتدة على 40 كيلومتراً من الحدود الاسرائيلية. منذ ذلك التاريخ والمحاولات اللبنانية جارية، من جهات مختلفة، وضمن آفاق مختلفة لاستعادة لبنان سيادته واستقلاله. غير ان لدى اللبنانيين مفهوماً "قدرياً" وهو الاستعانة بأجنبي لإخراج أجنبي آخر، وسرعان ما يجدون انفسهم بحاجة الى أجنبي جديد لاخراج الاجنبي الآخر... وهكذا! ولعل المحاولة الوحيدة التي تمت لاخراج الاجنبي بالقوى الذاتية وفشلت كانت محاولة العماد ميشال عون. ثانياً: وثيقة الوفاق الوطني: تعتبر وثيقة الوفاق الوطني خطاً فاصلاً في مسار الحروب في لبنان. وعلى عكس ما يقول السفير الاميركي في بيروت ديفيد ساترفيلد 28 - 11 - 2000 بأن الطائف ليس "شأناً داخلياً بين لبنان وسورية". فقد غاب عن السفير وعن غيره من المعنيين بالموضوع ان هذه الوثيقة ذات طابع دولي شدد عليه البطريرك الماروني نصرالله صفير. فهي وثيقة وفاق بين اللبنانيين وافقت عليها الجامعة العربية والأسرة الأوروبية والجمعية العامة للامم المتحدة وأيدها وذكرها مجلس الأمن خمس مرات، وهو ما لم تحصل عليه أية وثيقة وطنية في العالم. غير ان ما حجمّ مفاعيلها الثمن الذي طلبته سورية من الرئيس جورج بوش في حرب الخليج الثانية اي الهيمنة على لبنان وهو ما ذكره صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات". في حين حصلت مصر للسبب نفسه على إلغاء ديونها الخارجية ومقدارها عشرون مليار دولار... وهكذا أصبح لبنان في وضع تجديد الوصاية عليه كل عشر سنوات. يدرك اللبنانيون، ويرون بأم العين الوسائل المستعملة للتأثير على حياتهم السياسية والاقتصادية. ولكن وجود الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب لم يكن يسمح بطرح مسألة الوجود السوري في لبنان. ومع انسحاب اسرائيل من الجنوب بفعل ضربات المقاومة الشيعية، ثم كسر المعادلة التاريخية معادلة الكوندومينيوم لعام 1976 الذي أصبح قائماً على جهة واحدة هي سورية. انتقلت المسألة لدى الاميركيين من ضرورة احتواء منظمة التحرير والفصائل اليسارية الى احتواء "حزب الله" والفصائل الاسلامية. وتم اعطاء سورية مهلة محددة كي تساهم في ذلك! وهي مهلة على وشك الانتهاء كما يبدو! ثالثاً: مخاطر الثنائية المارونية - الدرزية: مع ان العديد من الشخصيات اللبنانية دعا الى اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان ومن ثم انسحابه نهائياً، فقد دهشت الأوساط للموقف القاسي بل التهديدي الذي وجه الى النائب وليد جنبلاط الذي دعا الى مجرد اعادة تموضع للقوات السورية وبالتالي الى اعادة التوازن للعلاقات السورية - اللبنانية. لكن المدركين للمعاني الجيو - استراتيجية لموقف جنبلاط يعرفون تماماً لماذا كان رد الأوساط السورية بهذه القسوة: انها المخاطر التي يشكلها قيام الثنائية المارونية - الدرزية. فوضع اليد على الكيان تمر أول ما تمر بطوائف الكيان وهما الموارنة والدروز. ان الجبل هو السلسلة الفقرية للكيان والموارنة والدروز هما طائفتا الكيان ونواته بامتياز. فإعادة الروح الى التحالف الماروني - الدرزي تعيد الروح الى الكيان! لذا فإن قوة الطرح البطريركي - الجنبلاطي ترتكز على مقومات عدة: 1- إحراج سورية بحيث تكشف أهدافها الحقيقية في لبنان. 2- الاستجابة لرأي عام لبناني ينسحب على القوى السياسية كافة. 3- انسحاب اسرائيل وبالتالي انتفاء الذريعة التي يمثلها وجودها في جنوبلبنان. 4- التشديد على ضرورة تطبيق وثيقة الوفاق الوطني الطائف خصوصاً موضوع اعادة الانتشار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. 5- مصداقية البطريرك نصرالله صفير وبخاصة في: - مسألة تهميش الطائفة المارونية كمدخل الى تهميش بقية الطوائف. - التزامه الشخصي باتفاق الطائف ورفض ان يكون شاهداً على "الخديعة". - دور البطريركية التاريخي بالمحافظة على لبنان سيد حر مستقل. - طرح الصوت لمناسبة قيام قيادة جديدة شابة ومنفتحة في سورية وقيام مجلس نيابي وحكومة جديدين في لبنان. هذا الخطاب الماروني - الدرزي اعتبر في نظر بعضهم في سورية بمثابة ناقوس خطر على الوجود السوري في لبنان. وازداد خطره بانضمام قوى اسلامية غير معلنة اليه. لذا كان رد الفعل على مواقف جنبلاط "متشنجاً". فمن السهل تسويق نظرية "الانعزال الماروني" ولكن من الصعب تسويق نظرية "الانعزال اللبناني" بمختلف فئاته وطوائفه! رابعاً: المفترق: يمكن القول، ومن دون مبالغة، ان العلاقات اللبنانية - السورية هي اليوم على المفترق. وهذا يعني انها ستكون أمام خيارات اساسية وصعبة لدى الجانبين في هذا الاتجاه أو ذاك اي بوضوح: نحو مزيد من الحلحلة وبالتالي ارخاء القبضة السورية على الوضع اللبناني. اما نحو المزيد من التشدد وبالتالي تقوية القبضة على لبنان. ذلك ان المطروح، على عكس ما يتحدث به سياسيون لم يقرأوا يوماً كتاباً في الفكر السياسي وخصوصاً حول مصير الدولة - الحاجز، هو الجواب على مسألة فلسفية يطرحها الوضع اللبناني الدولة والكيان وهي النظرة السورية الى لبنان في ذاته... ونظرة الآخرين ايضاً! هذه النظرة هي التي ستحدد أمرين اساسيين ترتكز عليهما كل الأمور الباقية: الأول: هل ان لبنان في ذاته هو كيان سياسي كامل وله الحق بالحياة الحرة المستقلة باعتباره حقيقة جغرافية وتاريخية؟ الثاني: أم ان لبنان في ذاته هو جزء من كيان سياسي أشمل سوري أو عربي أو اسلامي وليس له الحق بالسيادة والاستقلال باعتباره خطأ جغرافياً وتاريخياً؟ الخلاصة: على رغم كل الأدبيات السورية، والمتسورنة، فإن فريقا من اللبنانيين يرى أن النظرة السورية الى لبنان لدى السلطات والمؤسسات وحتى الأفراد انما هي النظرة الثانية: اي ان لبنان جزء من سورية ويجب ان يعود الى حضن الوطن الأم. لكن أصحاب الأمر في سورية، وخصوصاً في هذه المرحلة ينقسمون بين فئة التشدد وفئة اللين وان كانت الأهداف البعيدة واحدة أو متقاربة، وهذا ما عكسه الموقف السوري من مبادرة الرئيس بري التي لم تكن لتحصل لولا "تكليف" من جهة سورية ما، وهو تكليف جرى تجاوزه فيما بعد ربما بسبب ضغوط وحسابات معينة... ولكنه محرج للطائفة "الممتازة" الطائفة الشيعية. ان الاستحقاقات اللبنانية والاقليمية تضع الجميع على المفترق: سورية على مفترق الخيارات القريبة والبعيدة! ولبنان على مفترق الخيارات الصعبة! وكلاهما قد يؤدي الى انعكاسات سلبية على لبنان وسورية في آن. أجل، على اللبنانيين ان يدركوا ويضعوا في حساباتهم، ان سورية ليست مؤسسة خيرية! وعلى السوريين ان يدركوا من جانبهم ويضعوا في حساباتهم ان لبنان ليس كرماً على درب!.