في كتابه "تاريخ الفكر الاقتصادي - الماضي صورة الحاضر" الصادر ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتيّة تعريب: أحد فؤاد بلبع، يعاود البروفسور الاميركي كينيث جالبريث الذي رشح لنيل جائزة نوبل، كتابة التاريخ الفعلي لتطور الفكر الاقتصادي من وجهة نظر تغاير السائد. ويرى جالبريث الى التاريخ الفعلي لذلك الفكر، بالارتكاز اولا الى طبيعة البيئة الاقتصادية الاجتماعية التي كتبت فيها الافكار. ففي غيبة التبادل السلعي والاقتصاد النقدي، كيف يمكن لمفكر في اثينا القديمة ان يصوغ رؤية حول الأسعار والفائدة، حتى لو كان فيلسوفاً كأرسطو ؟ لكن ليس بالاقتصاد وحده يكون الفكر، بل بالذهنية السائدة في مكان وزمان محددين. وهكذا فإن "التراث الكلاسيكي العظيم صيغ في ذروة الثورة الصناعية التي طرحت الاسئلة الاساسية حول السلع وعلاقات الانتاج والريع والاقتصاد المالي والمواد الاولية ومكونات السوق وتوزيع الثروة ومفهوم الدولة"، وخلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر. وقد ابتدأ التراث الكلاسيكي، كما يذكّرنا جالبريث، بكتاب آدم سميث "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الامم"، ثم استكمل على أيدي دافيد ريكاردو و توماس مالتوس، وتلك اسماء بريطانية يتوافق اسهامها مع مرحلة الهيمنة البريطانية في العالم آنذاك. وتبدو رؤية جالبريث كأنها تتوافق مع المقولة المأثورة "الانسانية لا تطرح على نفسها الا الاسئلة التي تستطيع الاجابة عنها"، وبهذا يبدو الفكر الاقتصادي جزءاً من رؤية العالم في كل مجتمع. وهكذا، اغفل التراث الكلاسيكي اياه دور الدولة كمستثمر مالي ضخم، مع العلم أن هذا الدور هو شرط التوازن الاقتصادي في ظل البطالة الناجمة عن استحالة العمالة الكاملة، واستمرار نمو الطلب من دون توقف. وتلك الامور طرحها "الكساد العظيم" للاقتصاد الرأسمالي الصناعي التقليدي في الثلاثينات، و اجاب عنها الاقتصادي المعروف جون ماينارد كينز عبر مقولة "دولة السويّة الاجتماعية" Welfare State. وفي هذه الاستمرارية، يكون الماضي هو الصورة التي تؤسس الحاضر، تماماً كما أن الحاضر هو الرحم الذي يتكوّن فيه المستقبل.