الحل البريطاني - الفرنسي لجنون البقر : إبادة جماعية !

انها المرة الاولى التي يتعرف فيها الفرنسيون على وجه مرض كروتزفيلد - جاكوب، الشكل الانساني لمرض جنون البقر، من خلال رؤيتهم لوجه الشاب أرنو الذي بدا على شاشة التلفزيون في حالة يرثى لها، اذ ظهر نحيفاً جداً، مُنهكاً، وغير قادر على الحراك الا بمساعدة الغير، ولا يتصل بالآخرين إلا عبر الحركات. وأرنو هذا كان بصحّة جيدة قبل سنة، الا ان اعصار مرض جنون البقر ضربه وجعله شخصاً آخر في عالم آخر.
البريطانيون سبق لهم ان "تشرّفوا" بمعرفة مرض كروتزفيلد - جاكوب من خلال الوثيقة التي بثتها قناة "بي. بي. سي" البريطانية والتي اعدتها في المستشفيات ولدى العائلات التي طالها المرض، فبيّنت بالصوت والصورة ان المرض مميت وعوارضه مأسوية. وحالة المريضة الانكليزية باميلا، البالغة من العمر 22 عاماً، كانت مثيرة للهلع اذ بدت تترنح في مشيتها نظراً الى ان دماغها مضطرب وذاكرتها ذهبت الى غير رجعة. وقد توفيت باميلا بعد 6 أشهر من اصابتها لتصبح الضحية الرقم 75 من اصل 83 حالة سجلتها السلطات البريطانية حتى الآن.
مرض جنون البقر يقتل البقر و… البشر، وناره تزداد سعيراً يوماً بعد آخر في اوروبا الغربية، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا، وساحة هذه الاخيرة تشهد حالياً تطورات غير سارة على الاطلاق، فقد استيقظ الفرنسيون من غفوتهم ليكتشفوا ان مرض جنون البقر يتسلل الى صحونهم وبطونهم، اذ لا يكاد يمر يوم الا ويسمعون عن اكتشاف بقرات مصابة بين جيوش البقر المعدّة لاستهلاك البشر.
ودفع اكتشاف بقرات فرنسية مصابة كل يوم الفرنسيين الى التخوف من اكل لحم البقر فعزفت الغالبية العظمى منهم عن تناوله، والمدارس بدأت الواحدة تلو الاخرى تمتنع عن تقديم لحوم البقر الى تلاميذها، حتى ان الرئيس جاك شيراك دخل على الخط وطالب الحكومة بأن تمنع استعمال الطحين الحيواني كعلف لكل الحيوانات، فأمر رئيس الحكومة ليونيل جوسبان بإعداد تقرير عن استعمال الطحين واعطى لجنة الامن الغذائي اربعة اشهر لاعطاء الجواب، مع ان الجواب واضح وهو ان الطحين هو أصل البلاء في استشراء مرض جنون البقر وبريطانيا عانت منه الأمرّين، وكان سبق لها ان اعلنت حظر تقديمه كعلف لكل الحيوانات، فماذا ينتظر الفرنسيون حتى يمنعوه بدورهم؟
الا ان البريطانيين الذين يتبجّحون بأنهم من روّاد الحضارة منعوا الطحين عن حيواناتهم لكنهم سمحوا بتصديره الى الدول الاخرى، وحتى حيواناتهم الملوثة وزّعوها في ارجاء العالم، وكان لعدد من البلدان العربية حصة منها.
في مزرعة بيتشام في جنوب انكلترا وبالتحديد في كانون الاول ديسمبر من العام 1984 سقطت البقرة التي تحمل الرقم 133 على الارض واظهرت حركات واضطرابات بنيوية غريبة، وعندما نفقت في العام 1985 قام المختصون باجراء فحوصات عليها فتبين لهم ظهور معطيات غريبة، لكن المسؤولين فرضوا تعتيماً على الموضوع. وفي نهاية العام 1986 اكتشف الاطباء البيطريون وجود بقرتين مصابتين بالتهاب الدماغ الاسفنجي عرف لاحقاً بمرض جنون البقر. ايضاً هنا التزم المسؤولون الصمت المطبق ومنعوا نشر الاخبار.
وسرعان ما اتسعت دائرة الابقار المصابة بمرض جنون البقر في بريطانيا الى درجة انه في العام 1993 كان البيطريون يسجلون اكثر من 800 حالة اسبوعياً، وفي تلك السنة بالتحديد اصيب اثنان من رعاة البقر البريطانيين بمرض كروتزفيلد - جاكوب الشكل الانساني لمرض جنون البقر الامر الذي اثار الخوف والذعر، خصوصاً في صفوف العلماء البريطانيين ومن بينهم العالم ريتشارد لاسي، الذي توقع انفجار المرض على نطاق واسع قبل نهاية القرن العشرين، لأن عدداً كبيراً من الناس يحتضن المرض وسيصاب به عاجلاً ام آجلاً.
هكذا بدأت حكاية مرض جنون البقر في بريطانيا، والايام اللاحقة اشارت الى وجود نوع من الوباء وان الامر خطير للغاية، ومع ذلك فان بعض العلماء المشهود لهم كانوا يبعثون الطمأنينة في قلوب الناس، فالباحث الاميركي بول براون قام بحركة استعراضية اثناء محاضرة كان يلقيها في برلين العام 1993، اذ اخرج من جيبه كيساً من النايلون يحتوي على شريحة من لحم البقر الانكليزي، والتهمها نيئة ليُبيّن للناس انه لا خوف من عدوى البشر بمرض جنون البقر!
وقبل بول براون سبق لوزير الصحة البريطاني جون غومر ان قام بعرض مسرحي لافت في ايار مايو 1990 عندما استدعى المصورين وقدم امامهم قطعة "هامبرغر" لطفلته بهدف تبديد قلق مستهلكي اللحم البريطاني، والى ايصال رسالة مفادها ان التدابير الوقائية كافية لمنع انتقال مرض جنون البقر الى البشر.
لكن الاشهر والسنوات مرت وجنون البقر يستشري بقرياً وبشرياً الى درجة ان مليون بقرة ملوثة دخلت بطون المستهلكين، ويتخوف الخبراء من ان يصل عدد الاصابات البشرية الى 150 الفاً. وحسب تقرير اعده اللورد فيليب اوف ورث ماترافيرز فان الحكومة البريطانية بقيت صامتة امام انتشار الوباء وفضّلت مصلحة حفنة من المنتجين والتجار ضاربة عرض الحائط بصحة المستهلكين البريطانيين وغير البريطانيين.
هذا في بريطانيا، اما في فرنسا فالدلائل والتوقعات تشير الى ان وباء جنون البقر سينفجر كما في بريطانيا، فبعد سنوات من افتخارهم بأن لحوم أبقارهم سليمة، اتضح للمستهلك الفرنسي ان هذا غير صحيح.
لكن ما هو سبب مرض جنون البقر؟
لقد توصل العلماء الى ان العامل الاساسي المسبب لمرض جنون البقر هو "البريون" لكنهم لم يتمكنوا بعد من تحديد هويته بدقة. والعالم الاميركي ستانلي بروزنر هو الذي اكتشف هذا البريون وقال عنه بأنه عامل جديد ينتقل بالعدوى، كما هي الحال في الجراثيم والفيروسات، لكنه يختلف عنها كلياً في طبيعته وطريقة تأثيره.
العامل المسبب للمرض البريون يدخل الجسم الى الدم ومنه الى اللمف والعقد اللمفاوية حيث يتكاثر بشدة، وبعد فترة قد تمتد سنوات يتجه "البريون" الى الدماغ حيث يتكاثر في الخلايا العصبية فيخرّبها مخلّفاً وراءه "حفراً" مميزة تحوّل الدماغ الى ما يشبه الاسفنجة.
ولكن كيف وصل "البريون" الى طعام الانسان؟
في بريطانيا، وبعد الحرب العالمية الثانية، ابتدع الانكليز طريقة لإنتاج دقيق اعتباراً من مخلّفات الاجسام الحيوانية واستعملوه كعلف للحيوانات. ويعتقد العلماء ان مرض الهزاز الذي يضرب الخراف شبيه بمرض جنون البقر انتقل الى البقر بسبب استخدام نعجات موبوءة في صنع الطحين. وخطيئة البريطانيين الكبرى انهم عالجوا المخلّفات الحيوانية بدرجة حرارة منخفضة الامر الذي ساهم في الحفاظ على "البريون" الذي وجد طريقه سالكة الى البقر، ومنها الى البشر. ومنذ العام 1988 اتضح ان طحين الاجسام الحيوانية هو الناقل الرئيسي لمرض جنون البقر، ومع ذلك فإن دولاً اوروبية سمحت به لكل الحيوانات ما عدا البقر. والآن ترتفع الاصوات لحظر اعطائه لكل الحيوانات، بل ان الحكومة الفرنسية حظرته كلياً قبل أيام وأمرت باتلاف الكميات المخزنة منه.
وعلى رغم حظر استعمال الطحين للبقر فإن التحريات اشارت الى ان هذا الطحين يُهرّب ويُستعمل بشكل غير شرعي، والادهى من ذلك كله ان المستودعات الحاوية على الطحين المشبوه متناثرة هنا وهناك في اوروبا بشكل لا يدعو الى الاطمئنان، فالطحين موجود في مخازن غير مغلقة جيداً تعبث به الرياح والامطار حاملة اياه الى الاراضي والانهار المجاورة، واذا عرفنا بأن "البريون" قادر على العيش في الطبيعة لسنوات عدة لأدركنا ماهية المخاطر المترتبة على ذلك
استفهامات
لماذا أصاب مرض جنون البقر اشخاصاً من دون غيرهم على رغم وجود صفات مشتركة خصوصاً من الناحية الغذائية؟ الجواب على ذلك مجهول، وبعضهم يرجح دور العامل الوراثي
هل تناول المرضى المصابون كثيراً من لحم البقر؟ ليست هناك معطيات اكيدة جازمة بذلك، ولكن اللافت ان بعض المرضى كانوا نباتيين ما يعني ان مصدر المرض قد يكون البقر وغير البقر!
ما هي كمية اللحم الملوث المؤدية للإصابة بالمرض؟ لا أحد يستطيع الاجابة على هذا السؤال.
متى يظهر مرض جنون البقر بعد تناول اللحم الملوث؟ لا احد يملك جواباً قاطعاً شافياً حول هذا الامر. ان فترة حضانة المرض أي الفترة الواقعة بين دخول العامل الممرض وظهور العوارض هي فترة طويلة نوعاً ما وتقدر ب5 الى 10 او 20 سنة، ولكن ما دامت الفترة طويلة فلماذا نرى المرض عند الاطفال؟ لا احد يملك الجواب.
اذا كانت البقرة حاملة للمرض من دون ان تعاني منه فهل لحمها ناقل للمرض؟ لا احد يعلم بالضبط، ولكن اذا كان الجواب نعم فلا مفر امام الاوروبيين من ذبح ابقارهم عن بكرة أبيها والا تكون العواقب وخيمة للغاية.
ما هو كروتزفيلد جاكوب ؟
مرض كروتزفيلد - جاكوب هو علّة وصفها على التوالي الطبيبان كروتزفيلد في العام 1920 وجاكوب في العام 1921 ولهذا حمل اسمهما. يتواجد هذا الداء بأشكال عدة، ثلاثة كلاسيكية معروفة منذ سنوات كثيرة ورابع عرف حديثاً في العقد الاخير من القرن العشرين:
- الشكل الفردي، ويطال الجنسين معاً ويصيب عادة الاشخاص بين 50 و75 عاماً.
- العائلي، وهو يضرب بشكل ابكر من "ابن عمه" الفردي، اي يحصل ما بين الرابعة والثلاثين والرابعة والخمسين من العمر.
- الشكل المتعدد الاسباب، وهذا يحدث اثر التلوث نتيجة اجراء عمل جراحي او عملية زرع او عقب العلاج بهرمون النمو المأخوذ من جثث المصابين او غير ذلك من الاسباب.
- الشكل الجديد، وهذا تم الافصاح عنه في مجلة "لانسيت" الطبية في 6 نيسان ابريل العام 1996، عندما نشر الباحثون الانكليز عشر حالات من مرض كروتزفيلد - جاكوب ضرب اشخاصاً بريطانيين لم يتجاوزوا الثلاثين، وقد اطلقوا على المرض الشكل الجديد لداء كروتزفيلد - جاكوب والمعروف على المستوى الشعبي باسم مرض جنون البقر عند البشر.
اسئلة واجوبة
هل يمكن كشف مرض جنون البقر عند الانسان؟
- لا يوجد حتى الآن اي اختبار قادر على كشف المرض عند الانسان. وللاسف فان المرض لا يُعرف الا بعد ظهور عوارض وعلامات كالشلل والخرف واضطراب التوازن وصعوبة النطق وغيرها، والتشخيص الاكيد للآفة لا يتم الا بالخزعة وبعد وفاة المصاب. ومن جهة اخرى، حاول العلماء في كل من فرنسا وبريطانيا واميركا ايجاد آثار بيولوجية للمرض في الدم فلم يفلحوا، وحتى لو استطاعوا ايجاد الاختبار المنتظر الذي يكشف المرض عن طريق الدم، فإن العلاج غير متوافر بتاتاً.
هل يمكن كشف مرض جنون البقر عند البقر؟
- نعم، هناك ثلاثة انواع من الاختبارات لكشف المرض عند البقر، ولكن اياً منها لا يستطيع ان يعطي جواباً قاطعاً اذا كان الاختبار سلبياً بأن البقرة سليمة من المرض. فالاختبار يسمح برصد المرض قبل اربعة الى ستة اشهر من بروز العوارض الاولى، اما قبل ذلك فالبقرة تبدو سليمة مع انها تكون حاملة للمرض، ومن وجهة نظر الاختبار فهي صالحة للأكل مع انها قد تكون غير ذلك بتاتاً.
هل ان طهي اللحم يقضي على العامل المسبب للمرض؟
- المعروف حتى الآن ان بالإمكان في المختبر انقاص "عدوانية" العامل المسبب البريون، بتعريضه لدرجة حرارة 133 درجة مئوية وتحت ضغط 3 بار ولمدة 20 دقيقة. ولكن بالنسبة الى قطعة اللحم المصابة فلا توجد اي وسيلة طبخ فعّالة ومعقولة تسمح بالقضاء على العامل الممرض وتعطي طعاماً صالحاً للأكل.
ما هي الاقسام الصالحة للاكل في البقرة؟
- الحليب واللحم الاحمر العضلات والكلى والقلب غير خطرة. الكبد والرئة خطرهما ضعيف. الدماغ والنخاع الشوكي والغدة الصعترية والامعاء والعقد البلغمية واللمف واللسانات ولوزة العجل خطرها كبير جداً.
هل يمكن اكل "الستيك" من دون خوف؟
- المعطيات العلمية حتى الآن جاءت مطمئنة. فاعطاء عضلات بقر ملوثة لم تؤد الى انتقال المرض الى الحيوانات التي بلعتها. ولكن اعطاء غرام واحد من الدماغ يكفي لنقل الاصابة.
ويقول خبراء منظمة الصحة العالمية ومنذ العام 1990 ان العضلات لا تحتوي على "البريون" وهي لا تنقل المرض، لكن قطعة "الستيك" البقرية، لا تحتوي على عضلات وحسب، بل توجد فيها اعصاب وعقد بلغمية لمفاوية وهذه ناقلة للمرض! ثم ما الذي يضمن عدم تلوث قطع اللحم السليم بالاجزاء الاخرى غير السليمة؟
حالياً تجرى في بريطانيا دراسات موسعة على هذا الموضوع، ولكن بانتظار الجواب وبانتظار اتضاح الحقائق على المستهلك الحذر.