سؤال: تُرى من هو الزعيم الذي اجتمع إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون أكثر من أي زعيم آخر في العالم خلال العام الماضي؟ لم يكن هذا الزعيم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا تزال بلاده تحتفظ بآلاف الصواريخ النووية، أو أحد قادة الصين التي تعتبرها الولاياتالمتحدة أخطر أعدائها المحتملين في القرن الحادي والعشرين. أما زعماء دول حلف شمال الأطلسي مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا، فمن النادر أن يتلقوا دعوات لزيارة واشنطن والاجتماع إلى الرئيس الأميركي. ومن النادر أيضاً أن تظهر أسماء زعماء دول صديقة وحليفة أخرى مثل مصر وتركيا على شاشة الرادار السياسي الأميركي. وحتى ايهود باراك رئيس وزراء إسرائيل لا يستطيع ادعاء هذا الشرف مع أن في وسعه أن يعزي نفسه لأنه يأتي في المرتبة الثانية. إذاً، من هو الزعيم، وبالتالي ما هي القضية التي استحوذت على اهتمام الرئيس كلينتون أكثر من أي قضية أخرى؟ انه ياسر عرفات، وتلك القضية هي القضية الفلسطينية. لكن هذا القدر الفريد من الاهتمام كان بمثابة "نعمة ونقمة" في آن واحد بالنسبة إلى الفلسطينيين وإمكانات الوصول إلى اتفاق على الوضعية النهائية مع الإسرائيليين. فقد كان اهتمام كلينتون نعمة لأن القضية الفلسطينية أصبحت تحتل مرتبة سياسية وديبلوماسية عليا، مما جعل العالم أجمع يشعر بوجوب الالحاح على ايجاد حل لها. لكن اهتمام كلينتون كان نقمة أو لعنة أيضاً، لأن ذلك الاهتمام مكّن واشنطن من العمل على محاولة تطويع القضية وصياغة حل لها بطريقة تعكس نواقص وعيوب الجيل الحالي من الزعامة الأميركية أكثر مما تعكس احتياجات الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم وضرورات التسوية بينهم. السؤال الثاني: ترى من المسؤول عن أعنف موجة من الاشتباكات التي تعيشها الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وإسرائيل منذ أسابيع وبصورة لم تعهدها من قبل على الاطلاق؟ صحيح أن الزيارة الاستفزازية التي قام بها ارييل شارون إلى الحرم القدسي الشريف كانت السبب في خروج المسيرة الفلسطينية الأولى التي تحولت إلى الشرارة التي اشعلت الانتفاضة الحالية. ولكن علينا أن لا ننسى أن زيارة شارون والحسابات السياسية التي أوحت لتلك الزيارة وسهّلت لها كانت جزءاً من الديناميكية الجديدة التي ولّدتها حتمية إقامة دولة فلسطينية مستقلة من جهة، والديبلوماسية الأميركية في كامب ديفيد من جهة أخرى، وهي الديبلوماسية التي كان هدفها الأساسي إجبار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على تأجيل موعد إعلان الاستقلال الذي كان قد حدد له يوم الخامس عشر من أيلول سبتمبر الماضي. وفي واقع الحال، ان التظاهرات العنيفة التي قام بها الفلسطينيون في ذكرى يوم النكبة في شهر أيار مايو الماضي، قدّمت للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني آنذاك، على رغم أنها كانت محدودة النطاق، إنذاراً ودرساً في الوقت نفسه. وأمام احتمال تردي الوضع وتدهوره بصورة عامة، انحنى الرئيس كلينتون أمام رغبات باراك فاستدعى عرفات لحضور قمة كامب ديفيد. وفي ذلك الجو الهادئ وسط أشجار الصنوبر الباسقة في ولاية ميريلاند تحدد المسرح وأصبح جاهزاً لحدوث الفصل الأخير من المواجهات الدموية في العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية. ففي الحادي عشر من تشرين الأول اكتوبر أعلن الرئيس كلينتون أنه لولا قمة كامب ديفيد لكانت الاشتباكات الأخيرة أسوأ كثيراً، ربما، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نعترف بحقيقة أخرى وهي أن قمة كامب ديفيد هي التي أرست الإطار الخطير الذي حدثت فيه الأزمة الراهنة. فقبل بضعة أيام ناشد الرئيس كلينتون كلاً من عرفات وباراك "وجوب تجاوز مرحلة إلقاء كل منهما اللوم على الطرف الآخر". ولكن، من المفارقات أن المقابلة التي أجراها التلفزيون الإسرائيلي مع كلينتون بعد قمة كامب ديفيد اشتملت على إمعان الرئيس الأميركي في إلقاء اللوم على عرفات. وقد جاءت تلك المقابلة لتزيد من اقتناع عرفات بأنه لن يلقى أي مساعدة من واشنطن لإجبار باراك على اجراء أي تغيير في موقفه. وربما كانت أعقد المشاكل والقضايا التي شهدتها قمة كامب ديفيد هي قضية مدينة القدس التي طرحها الأميركيون في الساعات القليلة الأخيرة من المفاوضات. إذ أن منظمي الاجتماع والمفاوضات وضعوا قضية "الحرم الشريف" على مائدة المحادثات بصفتها وهذا غير صحيح طبعاً "العقبة الوحيدة الأخيرة" التي تحول دون التوصل إلى اتفاق. وهكذا سمح الأميركيون لكل من الطرفين بوضع قضية القدس والسيطرة على منطقة الحرم القدسي في إطار ديني، مما يضمن بكل تأكيد تفجير العواطف. وقد ندد شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق علانية بهذه الاستراتيجية مثلما شجبها آخرون من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ولكن بأصوات خافتة. وهكذا، بعدما جمعت إدارة كلينتون الطرفين في كامب ديفيد، وبنت الآمال الشعبية بالتوصل إلى اتفاق شامل سمحت لهما بمغادرة كامب ديفيد من دون الاتفاق حتى على الشروط اللازمة لتحقيق هذا الهدف النبيل. بل وقد حدث عكس ذلك تماماً. إذ أن الطرفين لم يتفقا حتى على ما وصفه وزير الخارجية الإسرائيلي بالوكالة شلومو بن عامي ب"وحدة الذاكرة لما جرى في كامب ديفيد". ومع انتهاء المحادثات عاد الجانبان بعد فترة قليلة إلى اطلاق التصريحات المتشددة التي تركزت كلها على السيطرة على الحرم القدسي الشريف وما تنطوي عليه من رمزية دينية. وبكلمة أخرى، بعدما تبنت إدارة كلينتون صياغة الاتفاق في كامب ديفيد، أخفقت تلك الإدارة نفسها في تنفيذ الاتفاق بعد انتهاء المحادثات وفي تحمل المسؤولية عن الاتفاق الذي كانت قد احتضنته. ومع انقضاء أيام شهر أيلول سبتمبر ومع بدء استعداد الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للمواجهة العسكرية تبددت الآمال التي كانت معلقة على الإدارة الأميركية لطرح وثيقة جديدة تقرب بين وجهتي نظر الطرفين. وسرعان ما اتضح للجميع أن زمام القيادة الذي تولاه الأميركيون برعايتهم محادثات كامب ديفيد أفلت من أيديهم، وأن الرعاية الأميركية للمحادثات والقيادة التي أظهرها كلينتون من خلال تكريس طاقته ووقته الطويل لحل المشكلة لم تكن سوى سراب. وعندما حانت الساعة كي تتحمل واشنطن مسؤولياتها التي ترتبت على رعايتها المحادثات أثبتت الإدارة الأميركية عجزها الكامل عن تحمل تلك المسؤوليات الجسام. وفي خضم هذا الفراغ القيادي سارع الكثيرون من اللاعبين الأقل شأناً إلى توجيه الأولويات طبقاً لهواهم. وكان في مقدمة أولئك اللاعبين ارييل شارون. لكنه لم يكن الوحيد، وإنما هناك كثيرون غيره وبينهم بعض المقربين من عرفات ممن خاب أملهم. لقد تميزت الديناميكية التي أرستها الديبلوماسية الأميركية في كامب ديفيد بتأجيل إعلان الاستقلال الفلسطيني أولاً وتأجيل تنفيذ المرحلة الثالثة والأخيرة من إعادة انتشار القوات الإسرائيلية مثلما نصت على ذلك اتفاقات أوسلو الثانية، وبزعزعة الثقة الفلسطينية في جهود الوساطة الأميركية، والارتياب في النيات الإسرائيلية، وبتفاقم الغضب الإسرائيلي والأميركي من عدم استعداد الفلسطينيين لتقديم التنازلات التي طلبتها إسرائيل وأميركا منهم، وبطرح واشنطن وجهة النظر الإسرائيلية مما تريده إسرائيل للوصول إلى اتفاق، طرحها على الساحة السياسة الأميركية الداخلية، وأخيراً عجز إدارة كلينتون عن صياغة أي اتفاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إن هذه الديناميكية التي انطلقت من تلك العوامل مجتمعة هي التي هيأت الظروف للانفجار الأخير، أكثر مما هيأه أي شخص أو اجراء آخر. وما على أي شخص يريد معرفة الثمن الباهظ لفشل الديبلوماسية التي قادتها أميركا - من كامب ديفيد حتى شرم الشيخ - إلا أن يستمع إلى الاذاعات أو يشاهد شاشات التلفزيون هذه الأيام. ولا بد للرئيس كلينتون من أن يتحمل شخصياً، مع آخرين، تبعة هذا الفشل الذي ظهر بأوضح صورة في رفض الرئيس الأميركي التعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بصفته أكثر من صراع قائم على مجرد بناء الثقة، وفي سوء فهمه للواقع والحقائق السياسية الداخلية في فلسطين وإسرائيل، وفي عدم قدرته على استخدام أي من سلطاته وصلاحياته الهائلة لإغراء كل من الفلسطينيين والإسرائيليين، أو للضغط والإكراه إذا ما لزم الأمر. ولا بد من الافتراض بأن مهندسي الديبلوماسية الأميركية كانوا يدركون، بل وقبلوا أيضاً، أن هناك ثمناً يجب دفعه إذا ما فشلت كامب ديفيد وإذا ما فشل الرئيس الذي رعاها. ولكن من الواضح أنهم ما كانوا يتخيلون ان يكون الثمن باهظاً إلى هذا الحد أو أن يحين موعد دفعه بهذه السرعة