"متحف سرسق" هو المتحف الوحيد في لبنان الذي شرّع أبوابه أمام الحركة التشكيلية اللبنانية والعربية والعالمية. وأصبح "معرض الخريف" الذي يقيمه كل عام أشبه بالموعد السنوي الذي ينتظره الرسامون ليقدموا جديدهم ويرسخوا أسماءهم كأعضاء في هذا المتحف الذي استطاع ان يجمع بين الطابع التراثي والنزعة الطليعية. ولئن أغلق المتحف العريق أبوابه طوال سنوات الحرب المأسوية فهو ظل أقرب الى الموئل اللبناني الذي يلتقي فيه اللبنانيون على اختلاف طوائفهم. فهو ينتمي الى بيروت وهو مثلها في عراقته وفي ما تمثل من انفتاح. في أحد شوارع الأشرفية العريقة التي لم تطاولها جرافات الإعمار، فسحة فنية راقية تكاد تكون الوحيدة من نوعها ليس في بيروت فحسب، بل في لبنان كله، وقد استضافت طوال اعوام تظاهرات فنية متنوعة وساهمت الى حد كبير في تفتح الفنون الجميلة في لبنان والتعريف بكنوز التراث اللبناني والعربي. قبل نصف قرن تقريباً ولد متحف سرسق بمبادرة استثنائية من الثري البيروتي نقولا ابراهيم سرسق الذي طلب في وصيته جعل المنزل الذي كان يسكنه، العقار الرقم 83 في منطقة الرميل، وقفاً للدولة اللبنانية بما فيه المبنى والأثاث وكل القطع التي كانت فيه عند وفاته في 28 كانون الأول ديسمبر 1952 على أن يتم تحويله لاحقاً مع موجوداته متحفاً للفنون القديمة والحديثة اللبنانية والعربية والأجنبية. كذلك أوصى بتخصيص صالة لعرض أعمال الفنانين اللبنانيين على أن يطلق اسمه على المتحف ويشرف عليه رئيس بلدية بيروت. تنفيذ وصية سرسق وهكذا أضحى القصر الأبيض بهندسته التي تدمج بين الطابع الايطالي والأندلسي وبحدائقه التي تسورها الأشجار على أنواعها المتحف الفني لبيروت التي طالما افتقرت الى ما يماثله. بيد أن الدولة اللبنانية لم تنفذ وصية سرسق إلا بعد أعوام عدة على وفاته. ذلك انها اصدرت عام 1953 مرسوماً رئاسياً حولت بموجبه المبنى الفخم قصراً للضيوف تعاقب عليه روساء الدول والزعماء العرب والأجانب الذين جاؤوا الى لبنان في زيارات رسمية حتى عام 1957. وذلك العام كان لا بد للسلطات اللبنانية من الرضوخ للضرورات القضائية بتنفيذ بنود الوصية. وكان رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون وزوجته السيدة زلفا من محبي الفنون، فأوعزا الى رئيس بلدية بيروت عادل الصلح وضع دراسة عن الهيكلية الضرورية للمتحف بالتعاون مع اختصاصيين. ومع تعيين الليدي ايفون سرسق كوكرن رئيسة للجنة المتحف راحت تلك المساحة الفنية تسعى الى ملء المهمات الموكلة اليها مستضيفة فنوناً من الشرق حيناً وابداعات من الغرب أحياناً. وغالباً ما كانت الأعمال المستضافة تتوزع الى جانب المجموعة الدائمة للمعرض التي كانت تضم لوحتين بورتريه لنقولا سرسق الأولى رسمها كيس فان دونغن والثانية للبناني فيليب موراني. فضلاً عن الأعمال الفنية والقطع النادرة التي جمعها سرسق في رحلاته الى مصر وباريس وايطاليا، والقطع الفنية واللوحات التي نالت في ما بعد جوائز معرض الخريف الذي دأب متحف سرسق على إقامته سنوياً. ملامح الصالون العربي منذ انطلاقه العام 1957 مر متحف سرسق بمراحل عدة تأثرت خلالها نشاطاته مباشرة بالظروف التي كانت تعصف بلبنان. وكثيراً ما كانت مجموعته الدائمة تُنقل الى الطبقات السفلى أيام الحرب اللبنانية. فبعد الأحداث الأليمة التي عصفت بلبنان العام 1958، بدأ متحف سرسق يضطلع بالمهمات الموكلة اليه وذلك تحت اشراف لجنة عينها "المتولي" فشهد مواسم صاخبة منذ العام 1961 بدأت بتنظيم "معرض الخريف" الأول الذي صار في ما بعد موعداً سنوياً منتظراً يستقطب عشاق الفنون الجميلة وهواتها. وشاء القيمون على المتحف أن يكون المعرض الأول بعنوان "أعمال رسامين ونحاتين لبنانيين" مكرسين بذلك ارادة نقولا سرسق بجعل هذه الفسحة الفنية منبراً للفنانين اللبنانيين وأعمالهم. وتواصل تنظيم معرض الخريف حتى العام 1970 فشهد أول انفتاح على أوروبا المعاصرة العام 1963 باستضافة أعمال 34 فناناً ألمانياً. ثم كان أول انفتاح على العالم العربي العام 1965 بأعمال 31 رساماً عراقياً. وراحت تتعاقب بعد ذلك أعمال الفنانين العرب خصوصاً السوريين فضلاً عن الفنون المكسيكية والاسبانية والبلجيكية والمنحوتات التشيكوسلوفاكية. وتمكن معرض منسوجات جان لورسا العام 1967 من رفع متحف سرسق الى مصاف المتاحف الأوروبية. ويتذكر رواد متحف سرسق العام 1969 معرض الايقونات من سورية القديمة وبلاد ما بين النهرين. أما "الثروات اللبنانية" فكان لها حصتها أيضاً في المتحف، إذ نظمت منذ 1963 سلسلة نشاطات لعرض الكتب القديمة والطوابع والمخطوطات النادرة فضلاً عن قطع السجاد القديم. وتكمن أهميةالنشاطات الفنية التي استضافها متحف سرسق وفي مقدمها "معرض الخريف" في التناقضات التي كانت تجمعها ولا تزال. فالزائر يستطيع أحياناً المقارنة بين التيارات الفنية الأشد اختلافاً وحتى المتناقضة أحياناً، الأمر الذي أكسب المتحف دينامية استثنائية حتى ضاقت المساحة بطموحات اللجنة المكلفة شؤون المتحف. فالمبنى المشيد أصلاً ليكون منزلاً غير عادي لم يستطع تلبية حاجات متحف للفن الحديث الأمر الذي تطلب ادخال بعض التعديلات على أقسامه الداخلية استغرق انجازها اربعة أعوام. ولئن حرصت اللجنة المكلفة شؤون المتحف على عدم تغيير ملامح الصالون العربي ومكتب نقولا سرسق ومكتبته حرصاً على الحفاظ على الجو العام للمبنى، فإن تعديلات أدخلت على الصالونات الأخرى وغرفتي الطعام والجلوس لتكييفها وفقاً لمتطلبات المتحف فحولت الى مكاتب وصالات عرض ومؤتمرات فضلاً عن غرف للتخزين. استراحة المحاربين أعيد افتتاح المتحف العام 1974 بالزخم ذاته الذي رافق انطلاقته العام 1961، فاستضاف معرضاً للفن الاسلامي في المجموعات اللنانية وتضمن يومها الرسالة التي وجهها النبي محمدص الى ملك الفرس كسرى والتي كان يملكها هنري فرعون. ومع اندلاع الحرب اللبنانية العام 1975 نظم متحف سرسق "معرض الخريف" الأخير قبل أن تسرقه المعارك من رواده فيعلق نشاطاته ويقفل أبوابه امام الرواد. وحدها التظاهرة الفنية التي نظمت العام 1984 في ذكرى الشاعرة نادية تويني كانت بمثابة خرق للحظر الذي فرضته الحرب اللبنانية ليس على متحف سرسق فحسب، بل على كل ما له علاقة بأدنى حقوق الانسان طوال 15 عاماً. وكان متحف سرسق استأنف اعماله منذ 1982 فنظم معرض الخريف العاشر مستغلاً الفترات التي كانت تستريح خلالها المدافع، وبقيت نشاطاته متقطعة حتي العام 1987 حين راحت تتسارع التظاهرات الفنية للفنانين والنحاتين الفرنسيين والألمان الذين عرض بعضهم اجمل أعماله في لبنان مطلع التسعينات فيما حمل آخرون لوحات رسموها خصيصاً لبلاد الأرز احتفاء بعودة السلام اليه ودعماً للحملة التي هدفت الى اعادة تأهيل المتحف الوطني الذي كان أقفل منذ 1975. وقد شكل المعرض الذي نظم العام 1992 في ذكرى الرسام اللبناني الراحل جان خليفة كبرى التظاهرات التي أطلقت برنامج تكريم الفنانين. وقد أصبح هذا البرنامج فرصة للتعريف بأعمال كبار الفنانين اللبنانيين الراحلين. وفي هذا الاطار نُظِّم العام 1997 معرض لأعمال ا لفنان عمر أنسي ضم نحو 256 زيتية ومائية ورسماً ومنحوتة. تمكن متحف سرسق بعد الحرب من استعادة ديناميته بسرعة من دون أن يفقد طابع النخبوية الذي ميز مناسباته الفنية ذلك أن اللجان التي تعاقبت على ادارة شؤونه حرصت، على رغم الصعاب، التي واجهتها على إبقائه فسحة ثقافية نخبوية تغني الفكر والعين معاً، فبقي "معرض الخريف" أشبه بجولة على أجمل فنون العالم. وقد رافق معرضي الخريف الحادي والعشرين والثاني والعشرين اللذين نظما في 1997 و1998 سلسلة معارض للرسوم الايطالية والفنون البرازيلية المعاصرة فضلاً عن رسوم لوزير الثقافة المصري فاروق حسني وبعض الرسامين الايطاليين المستشرقين. على صعيد آخر، تزامنت النشاطات الفنية التي افتتحت موسم 1999 بحدث مهم تمثل بتوقيع اتفاق تعاون في 4 آذار مارس بين متحف سرسق ومركز جورج بومبيدو الباريسي للتبادل الثقافي والفني بغية تثبيت التوجهات الثقافية للمتحف أكثر فأكثر. وفي خطوة أولى في هذا الاتجاه، نظمت في المتحف ندوة بعنوان "حب اللغة" ضمت كبار الكتّاب الفرنكوفونيين ومنهم: الطاهر بن جلون وآلان روب غرييه وأمين معلوف... ومهدت الطريق أمام الاحتفال الذي أقيم تكريماً للشاعر جورج شحادة في الذكرى العاشرة لغيابه. وفي حدث لا يقل أهمية عن تكريم شحادة ويكرس أيضاً مفهوم التكامل بين الفنون والآداب، نظم أواخر 1999 في المتحف معرض لرسوم جبران خليل جبران وضم للمرة الأولي في بيروت 180 لوحة رسمها مؤلف "النبي" بين 1900 و1930. مرة جديدة يضيق متحف سرسق بطموحاته فيقبل على القرن الحادي والعشرين بمشروع طموح جداً يهدف الى ترسيخه مركزاً فنياً وثقافياً يستقطب مزيداً من النشاطات المحلية وينفتح أكثر على التبادلات الثقافية مع الدول الأجنبية. ولهذه الغاية تقرر بناء جناح أمامي للمتحف يضم صالات تحت الحديقة بما يسمح بالإفادة من مساحات جديدة تتيح عرض المجموعة الخاصة للمعرض في شكل دا ئم. واحتفاء بالمتحف النادر أقدمت ادارته أخيراً على إصدار كتاب فني يؤرّخ للمتحف بالنصوص والصور ويقدّم لمحات عن مراحله والنشاطات التي شهدها، علاوة على مجموعته الفنية الكبيرة. كتب مقدمة الكتاب رئيس لجنة المتحف الصحافي غسان تويني