تدور التكهنات في مصر في شأن التغيير السياسي المتوقع في مستهل الولاية الرابعة للرئيس حسني مبارك، حول اربعة تصورات تشمل الشكل والمضمون على حد سواء. التصور الاول يتعلق بإحداث تغيير كلي او جزئي في تشكيل الحكومة بإقصاء او إضافة عدد من الوجوه إليها، ودمج بعض الوزارات، خصوصاً وزارتي الاقتصاد والتجارة، وتتضمن قائمة المطلوب تغييرهم، وفقاً لهذا التصور، وزراء الزراعة، والنقل والمواصلات، والاعلام، والثقافة، والتعليم، والبترول، والطاقة، ومجلسي الشعب والشورى، ويطالب اصحاب هذا التصور بإنشاء وزارة للآثار مستقلة عن وزارة الثقافة وأخرى للبحث العلمي والتكنولوجيا مستقلة عن التعليم العالي. اما التصور الثاني فيطالب انصاره بضرورة إجراء انتخابات مبكرة لمجلس الشعب استناداً الى ما يعانيه المجلس الحالي من سلبيات، كظاهرة تغيب الأعضاء، وعدم جديتهم في المناقشات، وظهور قضايا فساد في حق بعضهم، وانتهازية البعض الآخر خصوصا في علاقاتهم بمسؤولي المجالس البلدية. ويطالب البعض في هذا الاتجاه بضرورة إعطاء اختصاصات أكبر لمجلس الشورى. والتصور الثالث، يركز على ضرورة تغيير نظام وقوانين التعددية السياسية والحزبية، أولاً بهدف إفساح المجال لظهور أحزاب جديدة لامتصاص القوى الاجتماعية البازغة ومراكز النفوذ الجديدة كرجال الأعمال، ومواجهة السلبيات التي تعاني منها الحياة الحزبية ومنها ضعف الاحزاب الحالية وهشاشتها، وتوقف دورة تداول القيادة فيها وهامشية وجودها في الشارع المصري، وافتقادها الى الديموقراطية الداخلية، وغيرها من السلبيات التي لن يمكن تجاوزها الا من خلال تشريع يساهم ايضا في إفساح مجال اكبر أمام حركة المجتمع المدني، خصوصا الجمعيات الأهلية كقطاع ثالث في إدارة عملية التنمية الشاملة في أبعادها السياسية - الاجتماعية. كما طرح تصور رابع يركز على ضرورة إجراء تعديلات دستورية معينة، لعل أهمها تنقية الدستور الحالي من النصوص المتعارضة مع فلسفة التنمية الحالية، خصوصا عملية التحول الاقتصادي الى آليات السوق، وإفساح المجال لمزيد من الحريات السياسية، وبناء تعددية سياسية حقيقية وفعالة. وذهب المدير السابق ل "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" السيد ياسين الى ضرورة التحضير لتغيير الدستور بشكل كلي وشامل. وتأتي هذه التصورات في إطار مفهوم أوسع طرحه السيد ياسين باقتدار، وهو مفهوم تجديد النظام السياسي الذي ينطلق من مجمل تفاعلات الواقع السياسي المصري الراهن لإحداث تغييرات ملحة او تطوير مطلوب على نظام قائم، وإن كان لا يصل الى درجة مفهوم التغيير المحمّل بمعانٍ ثورية، ومن ثمّ فهو اقرب المفاهيم من حيث إمكان التحقيق. والمقصود بتجديد النظام السياسي المصري إحداث نقلة نوعية كيفية وكمية في أبنية وقواعد النظام السياسي وهياكله المختلفة، سواء كانت القواعد المنظمة لمجمل العملية السياسية من تشريعات وقوانين خاصة بالتعددية الحزبية والسياسية والحريات العامة، وحركة المجتمع المدني - وصولاً الى الدستور، او في الهياكل الاساسية لمؤسسات النظام خصوصا السلطات التنفيذية، والتشريعية والقضائية، وتحقيق الرقابة المتبادلة في ما بينها بشكل فاعل وحقيقي لخلق مناخ إيجابي من خلال هذا التجديد يساهم في تحريك موقع مصر على المسار الديموقراطي من نقطة الى اخرى أكثر تقدماً. فهناك مجموعة من الحقائق في الحياة السياسية المصرية تفرض نفسها كمتطلبات ملحة او ضرورات لتجديد النظام السياسي المصري، خصوصا أن مصر مرت خلال العقود الخمسة الأخيرة بتحولات ضخمة أفرزت كماً هائلاً من المشكلات في ظل غياب الوعي بحركة التاريخ وإهمال مفهوم الرؤية الشاملة. وهذا ما يدفع الى وضع مبررات هذا التجديد وضروراته امام الرئيس مبارك وهو مُقدم على الولايات الرابعة، لبعث الحيوية في النظام السياسي المصري على نحو يدعم فرص المشاركة الشعبية ويكفل العبور الى القرن 21. ومن اولى هذه الضرورات ما يعانيه المجتمع المصري من الأبعاد المختلفة لظاهرة نزع السياسة من المجتمع، فعدد المصريين الأعضاء في أحزاب سياسية 14 حزباً لا يتجاوز 4،8 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم 63 مليوناً، كما جاء في استطلاع أجرته صحيفة "الاهرام" ونشر في 26 أيلول سبتمبر 1998، وانصراف الجماهير العريضة عن الاهتمام بالشؤون العامة 7،40 في المئة، وضعف التصويت في الانتخابات الدورية 40 في المئة على الأكثر. وتزداد مشكلة نزع السياسة من المجتمع في مرحلة تغيير اجتماعي عميق تفرض على معظم الشباب المزيد من السعي وراء الرزق، ومن ثمّ العزوف عن العمل العام. ذلك لأنه من خلال تصدي النظام الحاكم للمعارضة، تصدى معها للسياسة ذاتها بما تعنيه من اهتمام المواطن بقضايا وطنه ومشاركته في تقرير السياسات واساليب العمل واختيار القيادات، وبما ساهم في إضعاف المشاركة السياسية ذاتها، وهي اولى ركائز التحول الديموقراطي، ولم تصحح التعددية المقيدة ذلك الاختلال الناجم عن نزع السياسة من المجتمع، بل ربما فاقمته لأنها أعطت انطباعاً سلبياً عن الأحزاب والحزبية عموما ترسخ في الثقافة السياسية بفعل السعي الدؤوب لوسائل الاعلام الحكومية الى ترسيخ صورة المعارض في الثقافة السياسية المصرية بأنه عدو للحكومة وللنظام، وأحيانا مصدر تهديد لأمن المجتمع، وأدى ذلك الى صرف الكثير من المواطنين عن الانضواء تحت لواء أحزاب المعارضة خوفاً من الوصم بهذه الصفة او التعرض لاضطهاد إداري او سلطوي. وترتب على ذلك ايضا ضعف الاحزاب المصرية وعدم تمثيلها جموع المواطنين. وحتى الحوار الفكري والسياسي داخل هيئات الحزب الحاكم، اللاعب الوحيد في الفضاء السياسي المصري، لا يجري سوى في أضيق الحدود، واتسم التجنيد والتوظيف السياسي داخل الحزب ومن خلاله في مؤسسات الحكم بعدم الاستناد الى معيار القدرة على بلورة سياسات الحزب والدفاع عنها، ولكن بالتعويل على معايير اخرى أهمها ألا يشغل العضو نفسه بالسياسة وألا يزعج القائمين عليها بالمناقشة. وأفرز هذا الاسلوب في ادارة الحياة السياسية ظواهر غياب الوزير السياسي، والنائب الشعبي، ورجل الدولة بالمعاني المعروفة في تجارب دولية اخرى. وحين تغيب السياسة يمكن للمجتمع ان يرتد الى ما قبلها، فينشغل بانتماءات اولية تساهم السياسة في الحد من تأثيرها، كالانتماءات الدينية والعائلية، والعشائرية والجهوية، تعويضاً عن انتماءات سياسية محظورة. ويساهم هذا الركود السياسي واحباطاته، في تهميش القضايا الحقيقية المتعلقة بالديموقراطية والتنمية والتقدم في جدول اعمال الجماعة السياسية، ويساهم ايضا في تقييد تطور الثقافة السياسية المصرية نحو قبول مفاهيم الديموقراطية وما يرتبط بها من سلوكيات. وبالاسلوب نفسه أدارت الحكومة علاقتها بالبرلمان بمجلسيه، فاحتكرت عملية التقدم بمشاريع القوانين، ومن خلال فكر وأسلوب مدرسة الحزب الواحد والالتزام الحزبي لم يلعب مجلس الشعب سوى دور محدود في صنع السياسة، يقتصر على تمرير ما تراه الحكومة، ومن ثم حدث اختلال جوهري في اداء مجلس الشعب لوظائفه وسلطاته خصوصا دوره الرقابي على اعمال السلطة التنفيذية. ومن الظواهر السلبية التي تعاني منها أيضا الحياة السياسية في مصر حاليا اختلاط الأدوار وتبدلها في ما بين النقابات المهنية والعمالية 20 نقابة والجمعيات الاهلية 15 ألف جمعية والاحزاب السياسية، اذ انصرفت هذه وتلك عن طبيعة عملها المهني او التطوعي او السياسي، ذلك لأن كلاً منها لم يفلح في المجال الذي وجد من اجله بسبب ظاهرة نزع السياسة من المجتمع والركود السياسي. ويحدث هذا ايضا لأن مبدأ التعددية السياسية الذي تم إقراره منذ 1976، أقر بشكل كمي وليس بشكل كيفي، وانعكس ذلك على تركيبة ودور التنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي اصبحت ساحة لممارسة السياسة بين مختلف التيارات السياسية في المجتمع، خصوصا أن هذه التنظيمات تخاطب الرأي العام وتعمل في إطاره. وهذا ما جعل الحكومة تعمل على تقييد أنشطة هذه التنظيمات وإضعاف استقلاليتها، وجاء هذا التقييد في سياق يختلف عن السياق الذي بدأت فيه محاولات الاصلاح السياسي في منتصف السبعينات، بل وحتى في الثمانينات، فلا شك ان ذلك الإصلاح أوجد أوضاعاً جديدة في المجتمع لا تتفق مع التقاليد عميقة الجذور في جهاز الدولة المصرية، وهو تطور إيجابي، إلا انه بدلاً من التكيف مع هذه الأوضاع الجديدة فإن بعض قيادات جهاز الدولة آثرت إفراغ اصلاحات السبعينات والثمانينات من مضمونها، وبدأت خطوات التراجع عن هذه الاصلاحات منذ اوائل التسعينات في صور مختلفة، منها تعيين عمداء الكليات، وتعديل بعض نصوص قانون العقوبات والإجراءات الجنائية، وإنشاء محاكم أمن الدولة، وإصدار قانون موحد لانتخابات النقابات المهنية، وتعيين العمد في الريف، وغيرها من الإجراءات، وهو مناخ منافٍ لروح الاصلاح. ولعل المشكلة الحقيقية ليست في مدى ابتعاد مصر عن الممارسة الديموقراطية الناضجة بقدر ما هي في عدم ثبات تقدمها الديموقراطي. وتدل على ذلك مؤشرات عدة منها نتائج الانتخابات العامة، والموقف الراهن لحركة المجتمع المدني وقضايا الحريات العامة التي شهدت تراجعاً واضحاً خلال التسعينات. ولما كانت هناك علاقة قوية وايجابية بين التحول الديموقراطي واقتصاديات السوق، كما تثبت ذلك الخبرات المختلفة، فإن الحالة المصرية ليست بعيدة عن هذا الاتجاه اذا تمت مواجهة سلبيات المرحلة الراهنة. فالديموقراطية في عصر ثورة المعلومات ليست ترفاً سياسياً او كمالياً يمكن الاستغناء عنها، فهي جزء من منظومة التطور العالمي التي لا فكاك من التكيف معها، لجهة ان مكانة الدولة في القرن المقبل ستقاس بمدى صدقية الممارسة الديموقراطية فيها. أن كل هذه الأوضاع، كما يرى السيد ياسين، بإيجابياتها وسلبياتها، إنما تعبّر عن مرحلة وصلت الى منتهاها وتتطلب وضع رؤية لتجديد النظام السياسي، فهذه الضرورات تجعل العزوف عن الاتجاه الى تعددية سياسية حقيقية وكاملة أمراً صعباً في المستقبل، إذ أنها رغبة شعبية صارمة، ويؤكد ذلك ان 7،68 في المئة من المصريين، كما جاء في استطلاع "الاهرام" الذي سبقت الإشارة اليه، يرغبون في نظام ديموقراطي، وفي هذا أقوى تفنيد لأنصار تقييد التطور الديموقراطي باسم التدرج في التطبيق. والحلقة الأساسية الحاكمة لمستقبل التجديد السياسي في مصر، هي ضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس الشعب يتوفر لها قدر من الضمانات يفوق ما أتيح في الانتخابات السابقة، بحيث تفرز برلماناً اكثر تمثيلاً من الناحية الفعلية لشرائح المجتمع المصري بكل توجهاتها، وأكثر استعداداً لاداء دوره، خصوصا في جوانب الاصلاح السياسي والاقتصادي التي ستعبر بها مصر الى القرن ال21. وهنا يرى كثيرون ضرورة إنشاء لجنة قومية مستقلة من الخبراء في شؤون الانتخابات ودائمة لمتابعة الجوانب المختلفة لهذه العملية في الانتخابات الوطنية كافة. والحلقة الاساسية الثانية في عملية التجديد هي التحضير لتعديل الدستور الحالي من خلال حوار وطني شامل يضم كل القوى الوطنية بلا استثناء، خصوصاً ان الدستور الحالي لا تتفق فلسفته مع طبيعة المرحلة، وهذه العملية لابد ان تتم وفق القواعد الديموقراطية المعروفة عالمياً ومحاطة بكل الضمانات الدستورية والقانونية، وأن تمثل في لجنة صياغة مسودة الدستور التيارت السياسية كافة. كما ينبغي ثالثاً مراجعة خريطة التعددية السياسية المقيدة بكل تفصيلاتها وجوانبها التنظيمية للقضاء على ظاهرة نزع السياسة من المجتمع وتوابعها، كما ان الأحزاب السياسية مدعوة الى مراجعة شاملة لبرامجها ووضع اسس حقيقية لتداول السلطة والقيادة داخلها، من خلال انتخابات حزبية حقيقية تشرف عليها اللجنة القومية الدائمة للانتخابات على ان تنعكس هذه الأفكار في قانون جديد للأحزاب يصدره مجلس الشعب. والحلقة الرابعة هي الأخذ في الاعتبار ضرورة استشارة الرأي العام وتبني توجهاته، ويتم ذلك من خلال، ليس فقط المؤسسات التقليدية للرأي العام كالصحافة ووسائل الاعلام، ولكن من خلال مراكز متخصصة في قياسات الرأي العام والتي تفتقدها مصر حالياً. ولاشك ان تحقيق المزيد من الديموقراطية في مصر من شأنه ازدياد التقدير العالمي لمصر وللرئيس مبارك باعتباره اول رئيس مصري يجمع بين القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية تهييء لمصر المكان اللائق بها في نظام القرن ال21 العالمي