البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    منع تهريب 1.3 طن حشيش و1.3 مليون قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حفلات موسيقية يقف بعض جمهورها . موسم "برومز" اللندني : هيستيريا قومية أم فن رفيع ؟
نشر في الحياة يوم 27 - 09 - 1999

قبل ان يستأنف قيادة اوركسترا بافاريا اثناء تأديتها سيمفونية بروكنر الثامنة في سياق موسم "برومز" السنوي، استدار المايسترو الهندي الأصل زوبن ميهتا مخاطباً العشرات الذين احتشدوا وقوفاً على بعد خطوات من منصة صالة "رويال ألبرت هول" اللندنية: "يجب ان تجلسوا، فالعزف سيستغرق وقتاً طويلاً". سرت همهمات وضحكات مكبوتة بين جمهور اكبر وأعتق مهرجانات الموسيقى الكلاسيكية في العالم. غير ان الصخب الهادئ لم يلبث ان صمت نهائياً حين ارتفعت عصا المايسترو الصغيرة متراقصة في حركاتها البهلوانية فانطلقت آلات الفرقة الألمانية تشدو بلحن يجمع بين الغنائية والتراجيدية. صحيح ان "معاكسة" المايسترو الذي طلّق الطب، موضوع تخصصه الأكاديمي، في سبيل الموسيقى، جاءت على سبيل المزاح. لكن من يدري، لربما سمع الدكتور الذي قادته نجاحاته الى اسرائيل حيث عاش خلال حرب الخليج وقاد فرقتها الاوركسترالية المعروفة، اصوات هؤلاء الصاخبين خلال الاستراحة؟ وكان بعض الواقفين رفعوا عقيرتهم اثناء الفاصل القصير ساخراً ممن جلس في المقاصير طالباً منهم على نحو حازم ألا ينبسوا ببنت شفة! هذا الفصل "المسرحي" الذي شهدناه قبل أيام فيما موسم "برومز" يلفظ أنفاسه الأخيرة، يضيء طبيعة المهرجان الموسيقي العريق وصلته الجوهرية بالثقافة البريطانية. لا بل، من حق المراقب المشاغب ان يجد في هذه الواقعة دليلاً الى فشل "برومز" في تحقيق احد اهدافه الأساسية: رأب الصدع بين الذين يملكون والذين لا يملكون، فها هم اصحاب المقاعد الوثيرة التي قد يكلف احدها ما يزيد على 50 جنيهاً على خصامهم التقليدي مع اولئك الذين يضطرهم ضيق ذات اليد الى الاستماع للموسيقى وقوفاً.
غير ان "الفقراء" ليسوا مظلومين تماماً في حفلات "برومز" وهل يمكن اعتبارهم مشاهدين من الدرجة الثانية او الثالثة، وهم يحتلون مواقع الصدارة بين الجمهور؟ والأدهى ان المهرجان اختُرع اساساً قبل مئة عام ونيف لارضاء الناس العاديين، لذا أُفرد لهم دائماً قلب الصالة المواجه للمنصة حيث يقفون كل ليلة كالأصنام التي لا تدب فيها الحياة الا لماماً لأن التمايل يمنة ويسرة قد يكون أشبه بمغامرة يتجنبها احدهم كي لا يصطدم بجاره او جارته. لكن ما ضرّ اذا تحمّل المرء بعض المشقة في سبيل الاستماع الى انبل الموسيقى الكلاسيكية بجزء زهيد من الثمن الذي يدفعه "الميسورون".
ولئن ارتفع ثمن بطاقة الدخول 5 بنسات الى احدى حفلات الموسم حوالي ألف مرة مع مرور 104 سنوات على ولادته، فهو لا يزال يحتفظ بكثير من معالمه الأصلية. وعلى عادته الأولى، يفرد المهرجان الذي تستغرق حفلاته اليومية قرابة شهرين، مركز الصدارة للراغبين في الوقوف. وهؤلاء الذين منحوه اسمه "برومز" اختصار لكلمة Promenade Concert التي تعني الحفلة التي يقف عدد من حضورها هم بمنزلة القلب من المهرجان. عدا انهم يحتشدون ليلة اثر ليلة في مركز الصالة في حيز دائري واسع تحده المنصة من المقدمة، فهم على عهدهم القديم يؤججون المكان بالتصفيق والهتافات الطريفة اثناء الفاصل او تحية لفرقة او عازف. وهل يملك المهرجان ان يعبث بشكل العلاقة العريقة مع هؤلاء الوقوف، ووجودهم هو الذي يميزه عن اي موسم حفلات موسيقية قديمة او جديدة في العالم؟ في الحقيقة، الزمن لم يرحم هذه الصداقة الحميمة، التي تغيرت قليلاً او كثيراً وإن بقيت صفاتها الجوهرية على حالها عبر هذه السنوات كلها. ارتفعت اسعار البطاقات واختُزل زمن الحفلة الواحدة من ثلاث ساعات ونيف الى قرابة ساعتين عموماً. وفضلاً عن هذا وذاك، كان لا بد من فرض قواعد جديدة تحظر تناول الطعام او التدخين في الصالة، خلافاً للسنوات الأولى حين اكتفى المنظمون بتوجيه رجاء خاص للمدخنين كي يمتنعوا عن اشعال اعواد الكبريت خلال فقرات غنائية خوفاً من ان يُحدث ذلك ضجة مفاجئة تطغى على الموسيقى او تُفقد المطرب تركيزه.
هذا الحنو على المدخنين، كتلك الرأفة بأصحاب البطون الفارغة، يمثل جانباً من جوانب الرعاية - أو قل الدلال - التي شمل بها المهرجان جمهوره، خصوصاً انهم كانوا سر وجوده في وقت لم تكن الموسيقى الكلاسيكية تحظى برواج واسع في بريطانيا. وإذا ولد موسم حفلات "برومز" من رحم محاولة تعريف البريطانيين بسحر الموسيقى العالمية، فقد تمت الولادة الناجحة على يد قابلتين: متعهد الحفلات روبرت نيومان والمايسترو هنري وود.
ذات صباح ربيعي في العام 1894 التقى نيومان المايسترو الشاب وود لاستمزاج رأيه بفكرة تنظيم سلسلة حفلات ليلية في لندن لتدريب العامة على تذوق الموسيقى الكلاسيكية وفق مراحل يتشكل في نهايتها جمهور قادر على التعاطي مع الالحان الرصينة العالمية. ولم يطل الأمر بالشريكين حتى باشرا وضع الخطط العملية للموسم الأول في صيف 1895. وشيئاً فشيئاً، أخذ وود يرفع معايير الحفلات والأداء بشجاعة حفزتها شعبية ال"برومز" والاقبال المتزايد الذي حظي به سنة بعد سنة. ومع انه حافظ على التقليد الذي سنّه في البدايات بإفراد ليلة الاثنين لموسيقى فاغنر والجمعة لمواطنه العظيم بيتهوفن، فقد شذب وود برامج الحفلات وخلصها تدريجاً من المقطوعات الخفيفة الرائجة. وفي غضون أعوام قليلة، اخذ وود يلتفت الى الموسيقى الحديثة وقتذاك. وتمخضت هذه الرعاية التي شمل بها المايسترو مجايليه ومعاصريه من ملحنين احياء وأموات، عن تقديم عيون الموسيقى العالمية لأبناء مدينته الذين لم يعرفوا من قبل أياً من اعمال ريتشارد شتراوس وديبوسي ورحمانيوف ودفوراك ورافيل وسترافينسكي، ناهيك بألحان مواطنيه الموهوبين مثل فون وليامز وادوارد الغار.
لكن الاحلام الكبيرة لا تتحقق دونما عناء وصعوبات. وعن هذه الاخيرة التي اعترضت طريق ال"برومز" حدّث ولا حرج. عدا سخط النقاد والمعلقين والعازفين الذين اخذوا على وود "جديته" الموسيقية المفرطة، على حد تعبيرهم. كانت الحرب العالمية الأولى بالمرصاد لموسم الحفلات اللندنية. ومع استفحال الشعور المعادي للألمان، مورست ضغوطات كثيرة على نيومان ووود لمقاطعة الألحان التي كتبها بعض "الأعداء" قديماً أو حديثاً. الا ان الشريكين قاوما هذه المحاولات بعناد واصرار لأن الموسيقى التي كتبها بيتهوفن وفاغنر وشوبرت، مثلاً، كانت في رأيهما عينات من تراث فني انساني لا يملكه بلد بعينه بل ينتمي الى العالم بأسره. لكنهما اضطرا الى الانحناء امام المشاعر القومية المتفجرة، فسمحا برفع اعلام الحلفاء في الصالة، ودأبا على بدء الحفلة كل ليلة بعزف الأناشيد الوطنية لشركاء بريطانيا في الحرب. ومع ذلك فإن اندلاع القتال عاد على موسم ال"برومز" ببعض الفائدة اذ ساهم في ادخال شيء من التعديل على صورته الذكورية. وانشغال الرجال بالحرب على الجبهة أدى الى زيادة عدد العازفات في الفرقة الاوركسترالية.
وقبل ان تهدأ طبول الحرب كادت الأزمات المالية تخنق المغامرة الشابة. ودفعت الديون المتراكمة بروبرت نيومان الى التنحي لشركاء آخرين لم يلبثوا ان اخلوا مكانهم العام 1927 لهيئة الاذاعة البريطانية الناشئة. وعندما اسست الهيئة فرقتها السيمفونية بعد ثلاث سنوات، ترسخت علاقتها بالمهرجان الموسيقي الذي غدا ابن المؤسسة الاعلامية النافذة بالتبني. هكذا لم يعد النوم يجافي هنري وود، الذي واظب على لعب الدور الأول في حياة موسم الحفلات الموسيقية. وكيف لا ينام قرير العين، اذ تكفلت الهيئة بإبعاد الدائنين وإنقاذ عنق ال"برومز" من الأزمات المالية التي كادت تزهق روحه مراراً. والأهم، ان الحفلات صارت تصل فعلاً الى العامة الذين ابتُكرت لأجلهم، بفضل الهيئة التي دأبت على بث وقائع سهرات ال"برومز" ليلة تلو ليلة. الا ان سعادته لم تكن تكتمل، فقد قرعت الكارثة ابوابه مرة اخرى. وبعد ثلاثة أيام من اعلان بريطانيا الحرب على المانيا، اعلنت هيئة الاذاعة انها عاجزة عن تقديم دعمها المعتاد للموسم الموسيقي. ومع ان هنري وود تدبر امر النفقات المالية بفضل سمعته وعلاقاته في اوساط رجال المال والصناعة، فقد اضطرته الحرب الى تقليص موسم حفلات العام 1940 التي استغرقت 4 أسابيع فقط. وبعد اشهر قليلة، انهمرت القذائف على صالة "كوينز"، التي كانت مقر ال"برومز" منذ انشائه، وحولتها اثراً بعد عين. استطاع المايسترو ذو الارادة الحديدية ان يعثر على بيت جديد لحفلاته هو صالة "رويال ألبرت هول". وهذه بناء أنيق له شكل دائري نهض العام 1871 قبالة حدائق هايد بارك الرحبة حيث تقوم قصور ملكية سكنت احدها الأميرة الراحلة ديانا حتى ايامها الاخيرة. والصالة التي تستوعب 6500 شخص خضعت لترميمات تمخضت عن تعليق "اطباق طائرة" في سقفها،الذي يأخذ هيئة القبة، لتحسين مناخها الصوتي بحيث يمكن للحضور ان يسمع الموسيقى على نحو أفضل. وبعد سنة من انتقال المهرجان الى البيت الذي لم يبرحه بعد، هبت هيئة الاذاعة البريطانية للأخذ بيده من جديد. ومع ان الأب الروحي لحفلات "برومز" هنري وود انطفأ في 1944، عام الاحتفالات بعيد ميلاده الخامس والسبعين واليوبيل الفضي لل"برومز"، فإن المهرجان حافظ على موعده السنوي مع جمهوره الواسع.
ومن على المنصة التي يحرسها تمثال المؤسس الأول هنري وود، اطل عدد من كبار الملحنين والعازفين وقادة الاوركسترا في هذا القرن. والمهرجان الذي كان بريطانياً بحتاً، بمعنى ان فرقة هيئة الاذاعة البريطانية تؤدي مقطوعات شتى بقيادة مايسترو بريطاني، لم يلبث ان فتح نوافذه لرياح العالم. وفي بادرة غير مسبوقة، استضافت صالة "رويال ألبرت هول" فرقة راديو موسكو بقيادة المايسترو غينادي روجديستفينسكي في احدى ليالي ال"برومز" العام 1966. ومنذ ذلك الحين لم تبق المنصة حكراً على بنجامين بريتين وادريان بولت ويهودي مينوهن وفرقة هيئة الاذاعة البريطانية او فرقة لندن السيمفونية... وأخذ جمهور موسم الحفلات اللندنية يتعرف على الفرق الاجنبية البارزة، بدءاً بفرقتي برلين وفينيا الفيلهارمونيتين ففرقة امستردام الى فرق بوسطن ونيويورك وشيكاغو... وتسللت الاوبرا شيئاً فشيئاً، اثر الغناء، الى برامج الموسم، منذ اوائل السبعينات.
وصالة "رويال ألبرت هول" التي رددت اصوات نجوم الاوبرا مثل بلاسيدو دومنيغو وبافاروتي، كانت على موعد مع ايقاعات وألحان مغايرة خلال "ثورة" السبعينات. ففي 1971 شهد الموسم وجمهور انعطافاً تاريخياً حقيقياً، حين ظهر على منبره الموسيقي الهندي ايمرات خان، الذي أدى لون "راغا" المحلي في السهرة الليلية المتأخرة امام جمهور اخذت به الدهشة. وفي العقود الثلاثة الأخيرة، واصلت التظاهرة خطواتها الثابتة بعيداً عن "السجن" البريطاني وتعزز حضور الموسيقى الاجنبية على برامج الحفلات الصيفية. وفضلاً عن موسيقى شبه القارة الهندية، استمع رواد ال"برومز" الى مقطوعات من تايلاند والصين وأندونيسيا واليابان... ومع ان جمهور ال"برومز" لا يزال ينتظر الفرصة السانحة للتعرف على الموسيقى العربية الأصيلة، فقد تذوق ايقاعات وميلوديات قادمة من بلاد بعيدة.
والعربي الوحيد الذي وقف على خشبة "رويال ألبرت هول" على حد علمنا، كان اللبناني -الفرنسي ناجي حكيم، تلميذ الموسيقار الفرنسي الراحل ميسيان الذي أوصى أن يخلفه على منصب كبير عازفي الأرغن في كنيسته الباريسية. وكان حكيم أدى قبل سنوات قليلة في احدى حفلات ال "برومز" مقطوعات كتبها للأرغن، وقدم باقة من الأناشيد الدينية التي لحنها.
ومن جهة اخرى، لم تعد ابواب المهرجان موصدة دون الالحان "الشعبية" والألوان الموسيقية التي لا ترقى الى منزلة الأعمال الكلاسيكية الرفيعة. وصار لموسيقى الجاز، والالحان الشعبية، من ايرلندية واسكتلندية وغيرهما، مواقعها الثابتة على روزنامة التظاهرة. وارتفع عدد جمهور الليلة الأخيرة لل"البرومز" ما يزيد على 35 الفاً منذ سنوات حين دأب المنظمون على بث وقائع الحفلة الى مستمعين غصت بهم حدائق هايد بارك. ويتابع هؤلاء ما يجري ضمن صالة "رويال ألبرت هول" بفضل شاشات عملاقة، كما يصغون الى برنامجهم الخاص خلال الفاصل الذي يستغرق قرابة نصف ساعة. وكانت هذا العام مطربة الأوبرا العالمية كيري تي كاناوا في مقدمة فنانين اطلوا على جمهور حفلة حدائق هايدبارك. ونظراً للنجاح الذي لقيه هذا التقليد، فقد نظمت حفلتان مماثلتان لنقل وقائع الليلة الأخيرة الى جمهور مدينتي سوانزي في ويلز وبرمنغهام في وسط انكلترا.
وفي الليلة الأخيرة، وقف على خشبة "رويال ألبرت هول" الممثل جيريمي ايرونز ليؤدي دوراً لم يألفه من قبل: غناء مقطوعة قصيرة ساخرة لنول كوارد عن لندن. وعلى رغم حشرجة الحنجرة التي غزاها النيكوتين ولم تترك فيها السيجارة اي اثر لعذوبة او نقاء، نجح حامل الاوسكار في اثارة الجمهور وحثه على اطلاق قهقهات مدوية. والصخب هو عادة سيد الموقف في الليلة الاخيرة. حتى ان المايسترو يضطر احياناً الى توجيه رجاءات حارة للجمهور كي لا يطلق البالونات او يستعمل المفرقعات حرصاً على أدنى درجة من الهدوء الضروري لاستمرار العزف.
وإذا اصغى الجمهور لنداءات المايسترو، وقليلاً ما يفعل، فالانضباط لا يدوم طويلاً. ولا تلبث الصالة ان تضج بالهرج والمرج، قبل ان يبدأ الجمهور بمرافقة الاوركسترا والكورس لتأدية الأناشيد التقليدية الثلاثة: "المارش 1" إلغار و"احكمي يا بريطانيا" توماس آرني و"القدس" كلمات وليام بليك وألحان هوبرت باري. وهذه الأناشيد ترسم صورة زاهية لبريطانيا وتهيب بها، وهي معقل المجد والعظمة وأم التاريخ، ان تحكم الدنيا وتسود مصائر الناس الموزعين في انحاء العالم. هكذا، من الطبيعي ان يأخذ الحماس القومي بالحاضرين الذين يهتفون بحياة بلادهم في صالة يزدحم فضاؤها بالاعلام البريطانية. وبسبب هذه "الهستيريا" القومية المفرطة، اعتذر المايسترو اندرو ديفيز عن قيادة الاوركسترا في الليلة الاخيرة العام 1990، مؤكداً عجزه عن الاشراف على مجموعة من المنشدين وهم يؤدون "أرض الأمل والمجد، ام الأحرار ... فلتتسع حدودك اكثر فأكثر/ وليجعلك الله الذي خلقك جبارة، اكثر قوة وبأساً"، فيما حرب الخليج توشك ان تندلع. والقومية المفرطة تكاد تكون التهمة التي توجه دائماً الى حفلة الليلة الاخيرة، خصوصاً ان هذه الطقوس الحماسية التي يسميها البعض "شوفينية" أو "عنصرية" صارت صفة ملازمة للمهرجان على رغم تناقضها الجوهري مع طموحاته العالمية.
والنزعة العالمية كانت النسغ الذي وهب برنامج حفلات العام الحالي حياتها وتميزها. طموح الانسان الخالد وسعيه للارتقاء بنفسه والارتفاع فوق الكوارث والمآسي والحدود، كان موضوع عدد من الأعمال التي استمع اليها جمهور ال"برومز" فمن هذه العناوين العريضة نسجت اعمال ملحنين عظام من قماشة بيتهوفن السيمفونية الخامسة والتاسعة وماهلر السيمفونية الثانية والثالثة وشومان مشاهد من فاوست وهايدن مقطع "الفوضى" المأخوذ من "الخلق" وآخرون ممن عُزفت موسيقاهم هذا العام في "رويال ألبرت هول". والى جانب ارتقاء الانسان، مثلت الموسيقى الفرنسية على امتداد 6 قرون المحور الرئيسي الآخر لموسم هذا الصيف. وقد غطت الحفلات المكرسة للموسيقى الفرنسية التي قاربت عددها 35 حفلة، اعمال ملحنين قدماء ومعاصرين ممن تشبثوا بالعادات والأساليب المحافظة أو امعنوا في التجديد والابتكار. ثمة محور ثالث تجدر الاشارة اليه، وهو الالحان التي كتبها اصحابها وهم على قاب قوس او أدنى من الراحة الأبدية. بين هؤلاء الذين احتفى موسم ال"برومز" بأعمالهم الأخيرة بيتهوفن وموتسارت وبروكنر وماهلر وآخرون. هؤلاء العظام رحلوا... وبقيت موسيقاهم تغسل التعب عن قلوب أرقها انتظار فجر ال"برومز" كل صيف جديد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.