كان من نتائج تقدم العلم الحديث الرياضيات والفيزياء خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ان تبلورت في القرن الثامن عشر، مع نيوتن خاصة، النظرة الآلية للطبيعة التي زعزعت كامل النظام المعرفي السائد وخلخلت سائر التصورات العلمية والفلسفية السابقة، مما كانت نتيجته قيام ما عرف ب"عصر التنوير والعقل". لقد صاغ نيوتن كما هو معروف نظرية الجاذبية العامة في صورة قانون رياضي عقلي جعل نظام الطبيعة ونظام العقل مظهرين لحقيقة واحدة، فأصبح مفهوم "الطبيعة" يعني لا الأشياء الجامدة المعروضة امام الانسان، بل اصبح يعني "النظام العقلي للأشياء بوصفه نظاماً كلياً يشمل كل ما في الطبيعة بما في ذلك الانسان نفسه". ونتيجة لذلك صار الناس يطابقون بين ما هو طبيعي وما هو عقلي: بمعنى ان ما في الطبيعة يخضع لنظام دقيق خضوع اجزاء الآلة للآلة ككل، مما يجعل تلك الاجزاء قابلة لادراك العقل وفهمه. وبالمثل: كل ما يبدو معقولاً، اي مبرراً في نظر العقل، فهو طبيعي، اي انه متسق او لا بد ان يكون متسقاً مع الطبيعة. من هنا بدأت فكرة القانون الطبيعي تغتني وتكتسي دلالات جديدة واضحة. لقد ألف الفيلسوف الانجليزي كرستيان وولف كتاباً يحمل عنواناً ذا دلالة خاصة: "القانون الطبيعي مدروساً حسب المنهج العلمي" 1754 والمقصود بالمنهج العلمي هنا المنهج الاستدلالي الرياضي. يقوم هذا المنهج على النظر الى القانون الطبيعي على انه جزء من الطبيعة الانسانية المغروزة في كل فرد بشري. وعلى أساسه يتم التمييز بين الحق والواجب. ذلك لأن فكرة "ما هو شرعي - قانوني - وما هو لازم يجب القيام به"، اي فكرة الحق والواجب، هي فكرة من صميم الجوهر الانساني نفسه، ومن هنا كانت هذه الفكرة كلية عالمية. يقول: "ان الحق الطبيعي، اعني الفطري في الانسان، هو حق مشتق من الزام طبيعي بحيث انه متى فرضنا هذا الالزام وجب وجود هذا الحق. وبما ان الطبيعة، او جوهر الانسان، تفرض بعض الواجبات والالزامات فهي بالنتيجة تقرر بعض الحقوق. وبما ان الطبيعة، او جوهر الانسان، شيء مشترك بين جميع الناس فإن كل قانون طبيعي هو قانون كلي عالمي، لم يكتسبه الانسان بل يحمله معه مع مجيئه الى هذا العالم". في اطار هذا المنهج "العلمي" كتب المفكر الفرنسي المعروف البارون دو مونتسكيو كتابه الشهير "روح القوانين". يقول في مستهل هذا الكتاب: "ان الكائنات الخاصة المزودة بالعقل والذكاء يمكن ان تتوفر لها قوانين سنتها لنفسها، ولكن يمكن ايضاً ان تكون لديها قوانين لم تسنها هي. وقبل ان توجد كائنات عاقلة، كان من الممكن ان توجد هذه الكائنات، وكان يمكن ان تقوم بينها علاقات وبالتالي قوانين ممكنة. إذاً قبل ان تكون هناك قوانين موضوعة وضعية كانت هناك علاقات عادلة ممكنة. اما القول بأنه لم يكن هناك شيء عادل او غير عادل الا ما يأمر به او تحدده القوانين الوضعية فهو كالقول بأنه قبل رسم الدائرة لم تكن شعاعاتها متساوية. يجب إذاً الاعتراف بوجود قوانين عادلة سابقة للقانون الوضعي الذي يقررها". هكذا اصبحت مهمة العقل هي الكشف عن الجانب الطبيعي، اي المعقول، في كل ميدان، والإلقاء بالتالي عرض الحائط بكل ما هو غير طبيعي، اي بجميع الزيادات والاضافات التي تراكمت عبر العصور نتيجة تصورات ترجع الى التقليد، والاعتقاد في أمور من دون استعمال العقل. وإذا كان القانون العلمي الذي يجمع شتات الظواهر في علاقة كلية ثابتة مطردة، هو القانون المعبر عن حقيقة الطبيعة، فإن هناك في الحياة الانسانية ما هو بمثابة طبيعتها وقانونها الكلي: انه الطبيعة الانسانية وأيضاً المثل العليا التي تتصف ب"العالمية" والتي يجدها الانسان في كل مكان، في الشرق وفي الغرب، لدى الشعوب المتحضرة كما لدى الشعوب البدائية. ومن هنا تلك الظاهرة التي عرفتها الثقافة الأوروبية يومئذ، ظاهرة نقد المجتمع الأوروبي بواسطة رسائل "فارسية" و"صينية" وما يكتب عن "الرجل البدائي". كل ذلك لابراز قيم "عالمية" تحدد المثل الأعلى الذي يجب السعي الى تحقيقه. ذلك انه كما أدى تقدم البحث في العلوم الرياضية والطبيعية الى المطابقة بين ما هو عقلي وما هو طبيعي، فلقد أدى اتساع اطلاع مفكري اوروبا على حياة المجتمعات المختلفة الشرقية والبدائية الى المطابقة بين ما هو طبيعي وما هو بدائي اولي - فطري - في الحياة البشرية، مما كانت نتيجته قيام تصورات ل"عصر ذهبي للبشرية كان الناس فيه على دين طبيعي قبلوه لأنه معقول في جوهره" - دين الفطرة بالتعبير الاسلامي - لكن القائمين على السلطتين الدينية والسياسية من "الكهنة المتآمرين والملوك في العصور التالية افسدوه وانتهوا به الى الخرافات من اجل منفعتهم". انها فرضية "حالة الطبيعة" التي سننتقل الى الحديث عنها الآن. فعلاً، افترض فلاسفة الفكر السياسي الحديث في أوروبا القرن السابع عشر والثامن عشر وجود "حالة طبيعية" للانسان، بعضهم جعلها واقعاً بشرياً سابقاً للتنظيم الاجتماعي والسلطة السياسية، بينما أراد منها آخرون التعبير فقط عما يمكن ان يكون عليه الانسان اذا هو لم يخضع لفعل التربية ولا لسلطة قانون او حكومة. وإذا كان جميع فلاسفة الفكر السياسي الحديث في أوروبا قد وظفوا بصورة او بأخرى فرضية "حالة الطبيعة" هذه، فإن الفيلسوف الانكليزي جون لوك 1632 - 1704 هو الذي عمل اكثر من غيره على بناء هذه الفرضية بالصورة التي تجعلها قابلة لأن تكون مرجعية تؤسس فكرة "الحرية والمساواة"، وهي الفكرة التي ستتأسس عليها حقوق الانسان كافة. يقول: "لكي نفهم السلطة السياسية فهماً صحيحاً ونستنتجها من اصلها يجب علينا ان نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عليها جميع الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم افعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون انه ملائم لهم، ضمن قيود قانون الطبيعة، من دون ان يستأذنوا انساناً او يعتمدوا على ارادته، وهي ايضاً حالة المساواة حيث السلطة والتشريع متقابلان لا يأخذ الواحد اكثر من الآخر، اذ ليس هناك حقيقة اكثر بداهة من ان المخلوقات المنتمية الى النوع والرتبة نفسها، المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب ايضاً ان يتساوى بعضهم مع بعضهم الآخر". "حالة الطبيعة" اذا هي حالة الحرية والمساواة التي يكون عليها الناس قبل ان تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستهما - اعني الحرية والمساواة - غير "قانون الطبيعة" نفسه، القانون الذي يرمي الى "حفظ الجنس البشري وضمان سلامته والذي يؤول امر تنفيذه الى كل انسان". ولم تكن فرضية "حالة الطبيعة" مجرد فكرة تعتمد على الوهم والخيال بل كانت تستند على التصور الجديد الذي شيده العلم الحديث عن "الطبيعة"، كما رأينا. وهكذا فالمقصود ب"الطبيعة" في عبارة "حالة الطبيعة" ليس الأشياء الجامدة المنفصلة عن الانسان، بل المقصود، كما قلنا هو: "كامل النظام الفعلي للأشياء بما في ذلك الانسان الذي هو جزء منه"، الانسان الذي هو من عمل الطبيعة: موجود فيها وخاضع لقوانينها". والناس في هذا سواسية وأحرار، بعضهم ازاء بعض، لأن حق الانسان في الحرية والمساواة هو حق طبيعي له، من عمل الطبيعة. ومن هنا تلك المطابقة بين مفهوم "حقوق الانسان" وعبارة "الحقوق الطبيعية": حقوق الانسان هي حقوق طبيعية له. وواضح ان الاحالة الى "الطبيعة" هنا معناها تأسيس تلك الحقوق على مرجعية سابقة على كل مرجعية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي، فهي مرجعية كلية مطلقة، والحقوق التي نتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك. * * * على ان "حالة الطبيعة" لا تعني الفوضى، بل هي حالة يسري فيها، كما قلنا، قانون الطبيعة. ولما كان من المحتمل جداً ان تقوم نزاعات بين الناس عند ممارسة كل منهم حقه الطبيعي، فلقد صار من الطبيعي كذلك ان يعملوا على تأويل وتطبيق "قانون الطبيعة" بالصورة التي تضمن حقوق كل فرد، وهذا لا يتأتى الا ب"اقامة ضرب من الاتحاد بينهم يحمي شخص كل واحد منهم ويمكنه من ممارسة حقوقه ويسمح لكل منهم، وهو متحد مع الكل، بأن لا يخضع الا لنفسه، وبالتالي يبقى متمتعاً بالحرية التي كانت له من قبل". ومن هنا فرضية "العقد الاجتماعي" التي تفسر كيفية الانتقال من "حالة الطبيعة" الى "حالة المدنية". أجل، اذا كان جون لوك قد اهتم بتقرير "حالة الطبيعة" اكثر من غيره، فإن جان جاك روسو 1712 - 1778. كان اكثر فلاسفة القرن الثامن عشر تقريراً لفرضية "العقد الاجتماعي"، وهي الفرضية التي تقرر كيفية الانتقال من "حالة الطبيعة" الى "حالة المدنية" مع ممارسة الانسان حقوقه الطبيعية. وملخص هذه الفرضية ان الانسان بطبعه لا يستطيع ان يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه. ولما كانت اراداتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال الا اذا كان مبنياً على "تعاقد" في ما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي اليها، والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم حقوقهم، وبذلك تتحول تلك الحقوق الطبيعية، الى "حقوق مدنية"، وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق. وهكذا فتنازل الناس عن حقوقهم للارادة الجماعية، التي تجسمها الدولة، بموجب هذا العقد الاجتماعي، هو تنازل شكلي، الغاية منه اقرار الحق في الحرية والمساواة على اساس اجتماعي، ولا شيء غير هذا يسوغ قيام الدولة. اما القوانين التي تضعها هذه الاخيرة فهي تكتسي شرعيتها من كونها تعبر عن الارادة العامة للناس، وهي الارادة التي تلتمس المصلحة المشتركة وتسعى الى الخير العام. وهكذا تجد "حقوق الانسان الطبيعية" مجال تحققها من خلال تحولها الى "حقوق مدنية" تؤسسها مرجعية عامة كلية مطلقة هي الارادة العامة التي تعلو جميع الارادات في الوقت الذي تعبر عنها جميعاً: الارادة التي لا يحركها الا المصلحة المشتركة والخير العام. واضح ان هذا النوع من التأسيس لحقوق الانسان الذي قام به فلاسفة اوروبا في العصر الحديث يتجاوز الخصوصيات الثقافية، انه تأسيس يرجع بحقوق الانسان الى "البداية"، الى ما "قبل" كل ثقافة وحضارة، الى "حالة الطبيعة"، ومنها الى "العقد الاجتماعي" المؤسس للاجتماع البشري، وبالتالي للثقافة والحضارة. * * * كان الهدف من هذه الهوامش بيان كيف ان فكرة حقوق الانسان لم تترسخ في الذهنية الأوروبية من دون مجهودات فكرية. لقد تطلب الامر وقتاً، وتطلب فرضيات كانت تبدو علمية في وقتها. ان انتصار الجديد على القديم لا يتم عبر مجرد الكلام او مجرد الدعوى والادعاء. انه لا بد من مجهود فكري حقيقي يقوم به مثقفون مؤمنون بالقضايا التي يدافعون عنها. وأيضاً يتحملون التضحيات الضرورية في سبيلها. وجل المفكرين الأوروبيين الذين ذكرنا في هذه الهوامش - وهناك آخرون كثيرون مثلهم - خاضوا معارك للصدع بقناعاتهم وآرائهم فتحملوا النفي والاعتقال والتهميش الخ... بسبب افكارهم تلك، هذه الافكار التي ننقلها عنهم نحن اليوم مجاناً ونروج لها بالمجان. وربما كان هذا سبباً في بقائها عندنا على السطح. بخصوص "التأصيل الثقافي لحقوق الانسان في الوعي العربي المعاصر"، و"تنمية الوعي بحقوق الانسان في الاسلام"، انظر كتابنا: "الديموقراطية وحقوق الانسان. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. نوفمبر 1994