اذا كان الفيلسوف الانجليزي جون لوك قد انطلق في نظريته السياسية من نزعته الحسية التجريبية التي تحكم فلسفته ككل فان جان جاك روسو 1712 - 1778، ابن جنيف الذي كتب بالفرنسية، ينطلق من طريقة في التفكير هي اقرب الى "منهج العالم الفيزيائي الذي يدرس اصل تكون العالم": المنهج الفرضي الاستنتاجي. يتجلى هذا في كتابين شهيرين من كتبه: أحدهما بعنوان "مقال في اصل وأسس التفاوت بين الناس" الذي صدر العام 1750، والآخر بعنوان "في العقد الاجتماعي" الصادر سنة 1762. - يتبنى روسو قضية هوبز الذي كرس نظريته السياسية من اجل مسألة "الأمن" من خلال التنظير للحكم المطلق، كما يتبنى في الوقت نفسه قضية لوك الذي جعل من "الحرية" مدار فكره السياسي، ولكنه يرفض الطريقة التي سلكها كل منهما في الدفاع عن قضيته. ومن هنا جاءت وجهة نظره في "حالة" الطبيعة و"العقد الاجتماعي" مختلفة بل مناقضة لوجهة نظر الفيلسوفين الانكليزيين. - حالة الطبيعة عند روسو هي حال ذلك الانسان المتوحد الذي يعيش بمفرده في الغابة: لا يعرف أباه ولا زوجته ولا ابناءه، ولا يتكلم لغة ولا يحترف مهنة ولا يتقن صناعة، ولا يرتبط بقيم تقود سلوكه فلا يعرف معنى الفضيلة ولا معنى الرذيلة. مثل هذا الانسان يعيش في الغابة عيشة كفاف، يقتات من ثمار اشجارها ويشرب من ينابيعها، حراً طليقاً لا يقيد حريته شيء. هو اكثر حرية من الحيوان، لأن الحيوان يقاد انقياداً أعمى لغرائزه اما الانسان فهو يملك القدرة على ان ينقاد لها او لا ينقاد. هذا الانسان كائن سعيد فحاجاته ومتطلبات حياته وطموحاته قليلة ومحدودة وبالتالي فمشاكله ومتاعبه قليلة كذلك ومحدودة. شيء واحد يمكن ان يعكر صفو هذه الحياة البسيطة الهادئة: انه الكوارث الطبيعية وتقلبات الطقس وما ينجم عن ذلك من برد وجفاف الخ، مما يضطر معه هذا الانسان المتوحد السعيد الى التعاون مع غيره من ابناء جنسه للتغلب على آثارها. - من هنا نشأ الاجتماع، ومع الاجتماع نشأت اللغة وظهرت انماط من السلوك لم تكن من قبل، فظهر الحسد وظهرت الخصومات وكثرت الحاجيات وتنوعت، وسعى الناس لتلبيتها فاخترعوا النار والحديد وقاموا بالزراعة. بدأ الانتاج يزيد عن الحاجة فظهر الاحتكار وانقسم الناس الى من يملك ومن لا يملك او يملك اقل، وتكرس التفاوت بين الناس وتجبر الأقوياء وسنّوا قوانين لحماية مصالحهم وتنميتها وأذعن الفقراء لقوانين الأقوياء. ومع القوانين قامت "حالة المدنية" التي توجت ذلك التطور: ترسخت الملكية التي اصبحت تحميها القوانين وتكرس التفاوت بين الناس. واذن فالاجتماع هو الذي افسد صفاء حالة الطبيعة. - كيف يمكن اصلاح ما أفسده الاجتماع الذي فرضته الطبيعة نفسها؟ - لم يعد من الممكن الرجوع الى ما قبل حالة الاجتماع هذه، بل كل ما يمكن فعله هو اصلاحها وإزالة مفاسدها. والوسيلة الى ذلك: اقامة الحكم الصالح والقيام بالتربية الصالحة. يعالج كتاب "العقد الاجتماعي" مسألة الحكومة الصالحة اما مسألة التربية فيعالجها كتاب "إميل". ويهمنا هنا الكتاب الأول. كيف نقيم الحكم الصالح؟ يجب ان لا نسلم بشرعية اية سلطة او اية امتيازات لا يؤسسها الا كونها اقامتها الطبيعة او فرضها قانون الأقوى. ان السلطة الشرعية الوحيدة التي يجب ان نعترف بها هي تلك التي تقوم على اساس عقد تبرمه الأطراف المتعاقدة. ان الأمر يتعلق بعقد اتحاد فقط ولا يلزم عنه أية طاعة لأي كان. ذلك لأن الشعب المتعاقد هو وحده مصدر السلطة وهو وحده الذي يمارسها: الشعب وحده صاحب السيادة. وهذا الحق الذي للشعب، دون غيره، حق لا يقبل الخلع ولا التجزئة، لا يمكن التنازل عنه لا ككل ولا كأجزاء، هو حق يجسم السيادة. السيد هو الشعب ولا سيد سواه. كيف؟ ذلك ان السيادة هي تنازل الناس عن حقوقهم كأفراد لأنفسهم كمجموعة: كل فرد يبرم مع نفسه عقداً يصبح بموجبه عضواً في الجسم الاجتماعي، ومن هنا يكون الخضوع للقانون الذي يضعه هذا الجسم الاجتماعي هو الحرية ذاتها، وهذا ما يجعل كل فرد مواطناً ويجعل كل حق يقابله واجباً. وبعبارة روسو: "كل منا يُلغي في المجموع بشخصه بكامل قوته، تحت القيادة العليا للإرادة العامة، ونحن، بوصفنا هذا المجموع الذي يشكل جسماً عاماً، نستقبل كل عضو بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الكل". ذلك هو العقد الاجتماعي عند روسو، وذلك هو البند الوحيد الذي يتألف منه: كل فرد تنازل للمجموع الذي تتشكل منه الارادة العامة. واذ يعطي كل واحد نفسه للجميع فهو لا يعطي نفسه لأحد بعينه. الكل مرتبط وفي حالة مساواة تامة، فلا احد رعية لأحد. وبما ان الشعب لا يريد الا المصلحة العامة فبالضرورة يكون التنازل للمصلحة العامة: للقانون. والارادة العامة ليست مجموعاً حسابياً بسيطاً لارادات الأفراد الخاصة، بل هي الارادة التي تريد المصلحة العامة وليس المصلحة الخاصة. ان الشعب بوصفه على هيئة كيان واحد لا يمكن ان تكون له ارادة اخرى غير الارادة العامة. الارادة العامة هي التي تؤسس الدولة. أين تقع الكنيسة في هذا العقد بل في هذه "الارادة العامة"؟ لنقل باختصار ان "مجتمع الارادة العامة"، مجتمع مدني، لا مكان فيه لغير ما هو مدني. ان هذا لا يعني استبعاد الدين كدين بل استبعاد الكنيسة وتجاوز تقسيمها للسلطة الى زمنية وروحية. الدين في مجتمع الارادة العامة دين مدني ليس فيه مجال لأي حياة او نشاط خارج الحياة المدنية. ومن هنا كان على دولة الارادة العامة ان تقصي الكنسية لأنها تفصل بين الروحي والزمني فتقضي بذلك على وحدة الجسم الاجتماعي، هذا فضلاً عن الفرق الدينية والصراعات والحروب التي تنشب بينها وتضرب المجتمع والحياة الاجتماعية في الصميم: تفتت الارادة العامة. ويؤكد روسو ان هذا لا يعني الغاء الدين كلياً، لأنه ليست هناك دولة ولا ارادة عامة الا وكان الدين أساساً لها. يجب اذن ان يكون هناك دين، دين مدني. ولكي يكون هذا الدين عامل جمع وتوحيد وليس عامل تفريق يجب ان يقتصر على العقائد التي لا بد منها في الحياة: يقول روسو: "ان عقائد الدين المدني يجب ان تكون بسيطة قليلة العدد مصوغة بوضوح، فلا شروح ولا تعليقات، عقائد تقرر وجود إله قادر عاقل خيَّر بصير معين، كما تقرر وجود حياة اخروية وسعادة الأخيار وعذاب الأشرار وقداسة العقد الاجتماعي والقوانين. تلك هي العقائد الايجابية، اما العقائد السلبية فأنا احصرها في واحدة هي عدم التسامح، وهو يدخل ضمن المواقف الدينية التي استبعدناها". - وبعد، فقد اختلف المؤرخون وما زالوا مختلفين حول الدور الذي يجب ان يعزى لروسو في قيام الثورة الفرنسية. هذا موضوع لا يهمنا هنا. ما يهمنا - ولا نعتقد ان احداً يخالفنا الرأي فيه - هو ان رحلة فكرة "العقد الاجتماعي" كما عرضناها قد بلغت أوجها مع روسو، وتحولت مع الثورة الفرنسية من فرضية او نظرية الى نص دستوري عرف باسم "اعلان حقوق الانسان والمواطن"، وهو الاعلان الذي اصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها ايام 20، 21، 23، 24 و26 آب اغسطس 1789. - هذا الاعلان معروف باسمه: "اعلان حقوق الانسان والمواطن". ليس حقوق الانسان كانسان وحسب بل الانسان ك"مواطن". وباللغة الفرنسية citoyen, وبالانكليزية citizen والكلمة نسبة الى "المدينة" Cite', City وبالتخصيص: المدينة/ الدولة. فحقوق المواطن هي حقوق الحياة في المدينة/ الدولة، الحقوق الديموقراطية التي هي مضمون العقد الاجتماعي. من هنا جاء هذا الاعلان ليجسد فكرة العقد الاجتماعي في أقوى مضامينه. وألحق ان مفهوم "حقوق الانسان" ومفهوم "العقد الاجتماعي" مفهومان متكاملان، الأول يشرع الانسان الحديث كفرد، والثاني يشرع للحداثة كمجتمع ودولة، فهما من الناحية العملية التطبيقية لا ينفصلان. ولذلك كان "إعلان" الجمعية التأسيسية الفرنسية عقداً اجتماعياً بقدر ما هو تقرير لحقوق الانسان. جاء في ديباجة هذا الاعلان التاريخي ما يلي: "ان ممثلي الشعب الفرنسي، الملتئمين في جمعية وطنية، اذ يؤكدون ان الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الانسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات، يعلنون انه قد قر عزمهم على ان يعرضوا في اعلان للعموم حقوق الانسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للخلع، وذلك لكي يبقى هذا الاعلان حاضراً باستمرار في جميع اعضاء الجسم الاجتماعي، يذكر الناس على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، ولكي تكون اعمال السلطات التشريعية وتصرفات السلطات التنفيذية قابلة لأن توزن في كل لحظة بالهدف من كل مؤسسة سياسية، فتحظى بذلك باحترام اكبر، ولكي تكون احتجاجات المواطنين، التي ستنبني من الآن فصاعداً على مبادئ بسيطة وغير قابلة للاعتراض عليها، احتجاجات تدور دوماً حول العمل بالدستور ومن اجل سعادة الجميع. وبناء عليه فان الجمعية الوطنية تقرر وتعلن، تحت انظار الكائن الأسمى وتحت رعايته، حقوق الانسان والمواطن الآتي ذكرها". يتلو ذلك مواد هذا الاعلان، ومنها: "المادة الاولى: يولد الناس ويبقون أحراراً متساوين في الحقوق، أما التمايز الاجتماعي فلا يمكن ان يبنى الا على المنفعة العامة. - المادة الثانية: ان الهدف من كل اجتماع سياسي هو الحفاظ على حقوق الانسان الطبيعية، غير القابلة للخلع. وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الجور. - المادة الثالثة: ان السيادة أياً كانت انما تجد مبدأها بصورة أساسية في الأمة، ولا يحق لأية هيئة ولا لأي شخص ان يمارس السلطة ما لم تكن صادرة عن الأمة صدوراً صريحاً. - المادة الرابعة: ان الحرية تعني القدرة على عمل اي شيء لا يضر بالآخرين. وهكذا فممارسة الحقوق الطبيعية الخاصة بكل شخص لا يحدها الا الحدود التي تضمن للأعضاء الآخرين في المجتمع التمتع بهذه الحقوق نفسها، ولا شيء يرسم هذه الحدود غير القانون. - المادة الخامسة: لا يجوز للقانون ان يمنع من الاعمال الا تلك التي تنطوي على ضرر بالمجتمع. وكل ما لم يمنعه القانون لا يجوز الحيلولة دونه، ولا يجوز حمل اي شخص على فعل ما يمنعه القانون. - المادة السادسة: القانون هو التعبير عن الارادة العامة، وجميع المواطنين لهم الحق في المساهمة في وضع القانون اما بأنفسهم واما بواسطة ممثليهم، ويجب ان يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع سواء في حالة حماية الاشخاص او في حالة العقاب. وجميع المواطنين، وهم متساوون امام القانون، هم ايضاً مرشحون لجميع المراتب والمناصب والأعمال العمومية حسب مقدرتهم وبدون اي تمييز آخر الا ما يرجع الى خصالهم ومواهبهم". الخ… الخ. هل نحتاج الى خاتمة؟! لقد ختم هذا الاعلان تاريخ مفهوم العقد الاجتماعي ومفهوم حقوق الانسان. وكل ما جاء بعده بصددهما يدخل في مضمون هذا الاعلان. لنقتصر اذن على التذكير بالمراحل الأساسية في تاريخ مفهوم "العقد الاجتماعي" كما عرضناها في هذه الهوامش. - بدأ تاريخ هذه الفكرة حينما وظفتها الكنيسة في صراعها مع الدولة فأعطت لنفسها الحق في اعفاء الشعب من طاعة الحاكم الطاغي بدعوى انه بطغيانه يكون قد نكث وتنكر للعقد الذي يجمع الناس بالرب. والكنيسة، صاحبة السلطة الروحية، هي الساهرة على هذا العقد المذهب الغريغوري. - ثم تطور الأمر فوظفت الفكرة في عكس ذلك، وظفت لفائدة حكم مطلق تكون الكنيسة تحت سلطته هوبز. - ثم وظفت في عقد مزدوج يؤاخي بين القانون الطبيعي والتشريع الإلهي ويجعل من القانون الوضعي امتداداً لهما، وبذلك تم تجاوز ثنائية الروحي والزمني، وبدأ تقليم أظافر الخصمين معاً: الكنيسة والحكم المطلق بوفيندورف. - والخطوة التالية ستكون المناداة الصريحة بفصل الكنيسة والدولة والتنظيم للحكم الليبرالي والدين العقلي لوك. - وأخيراً يتحول العقد الاجتماعي الى ارادة عامة، ارادة الشعب التي لا تنخلع: فلا تنازل ولا تعاقد مع حاكم ما، بل العقد هو عقد بين افراد الشعب بعضهم مع بعض لا غير، فالسلطة للشعب وليست الدولة الا التعبير المجسد عن هذه الارادة. اما الكنيسة فيجب ان تترك مكانها للدين المدني، الدين الذي يرتبط فيه الناس كأفراد بالإله مباشرة من دون وساطة ولا تعقيدات. والنتيجة اقصاء الدولة كممثل للسلطة الزمنية وإقصاء للكنيسة كممثلة للسلطة الروحية وإحلال المجتمع المدني مكانهما: مجتمع دينه دين مدني ودولته الارادة العامة. ترى لو لم تكن الكنيسة طرفاً في هذا المسلسل هل كان سيعرف نفس المسار والمحطات؟ نعم لا معنى ل"لو" في التاريخ… ولكن تبقى مع ذلك في نفس الانسان بقية من "لو"، ليس في مجال النحو والإعراب وحسب، بل في كل مجال! فالانسان حيوان يفترض، ولا يميزه تماماً عن الحيوان غير الافتراض. فالعقل في جوهره قوة للافتراض، فلنترك الباب مفتوحاً إذن! وبعد فقد انطلقنا في هذه الهوامش من ملاحظة ان نداءات ظهرت في الساحة الفكرية العربية تنادي بإبرام عقد اجتماعي "عربي" جديد! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: الى اي مدى يمكن ان يتطابق او لا يتطابق هذا "العقد الاجتماعي العربي" المأمول، مع العقد الاجتماعي الذي روينا قصته؟ لنترك الباب مفتوحاً مرة اخرى ولنتقل الى هوامش حول موضوع آخر