بين الوجوه المألوفة التي تستقبلها أدنبره في موسم المهرجانات السنوية، أطل هذا العام وجه بول بولز العتيق، عبر فيلم يروي سيرته تحت عنوان "دعها تهطل"، وقعته المخرجة الكندية جينفر بشوال. معالم الأديب والموسيقي الاميركي الذي اختار طنجة مسكناً له منذ أكثر من نصف قرن، لا تزال على هدوئها. ولم يخذله بعد خجله المقيم من الابتسامة. فنادراً ما يفتر ثغره في الشريط 75 دقيقة الذي يطمح الى تلخيص حياة تستحق قسطاً سخياً من الاهتمام، لأنها تمثل شهادة ثمينة على أواخر الحداثة الفنية في باريس، وبدايات صرعات ما بعد الحداثة الاميركية التي كان روادها أصدقاءه ويليام بوروز وآلين غينسبرغ. والأهم من هذا وذاك، ان سيرة بولز تضيء فصلاً من كتاب المغرب، وخصوصاً طنجة، ولو كانت تنظر اليهما بعيون غربية للغاية. يفتح الشريط دفاتر بولز من صفحاتها الأولى. وترتسم صورة طفولة صعبة في بيت الأسرة الاميركية التي لا يلبث وحيدها المراهق ان يهجرها في رحلة طويلة. ومن باريس، حيث تعرف على مواطنته غرترود شتاين وكاد يبدأ دروسه الموسيقية بإشراف الموسيقى الروسي الكبير بروكوفييف، انتقل الى طنجة التي لم يطق الابتعاد عنها كثيراً منذ الثلاثينات. وفي المرفأ المغربي الذي زاره بولز للمرة الأولى برفقة الملحن الاميركي الشهير آرون كوبلاند، بدأ الشاب يلتقي بعض مواطنيه الذين أخذوا يتوافدون على المدينة منذ أواخر الاربعينات. وبين شباب تلك الأيام من أصدقائه الكثيرين ممن صاروا مشاهير، ومنهم ترومان كابوتي وتينيسي وليامز وغور فيدال. في الستينات ارتفعت اسهم بولز لدى شباب الغرب. لكنها سرعان ما حملت له بداية النهاية. فزوجته الأديبة جين، التي أحبها، خطت خطواتها الأولى في دوامة كآبة وضياع نفسي ذهبت بعقلها بعد سنوات ودفعتها الى القبر أوائل السبعينات. وأدرك الزمن مخيلته الموسيقية فأقلع عن التلحين الذي كان حقق فيه انتصارات صغيرة ووضع باقة من المقطوعات والأغاني. وقبل نحو تسع سنوات، أعاده المخرج الايطالي ألبرتو برتولوتشي الى دائرة الضوء حين حول روايته "السماء الواقية" فيلماً حمل العنوان ذاته. والشريط الجديد الذي يقتفي خطى "الناسك" حتى العام الماضي ويحاوره في فراشه، استغرق انجازه حوالي أربع سنوات. لم يخبُ بريق عيني بولز، مع ان صاحبهما يغذ الخطى صوب عتبة التسعين. صحيح ان الجسد الهش بدا في الفيلم اكثر تهالكاً، خصوصاً ان الشيخ "المتشرد" اضطر للاستعانة بكرسي متحرك خلال زيارته الأولى لنيويورك منذ 35 عاماً، حين استضافه منظمو مهرجان خاص بموسيقاه. لكن "في الجسم عقل لا يشيب بشيبه". وحكمة المتنبي هذه تنطبق على بولز لسبب رئيسي: تشبثه بقناعاته ومواقفه التي عمّرت طويلاً ولم تشخ بعد في نظره. فبعد عقود من كساد بضاعة الوجودية، ووفاة مؤسسها جان بول سارتر، الذي لم يتعرف اليه بولز شخصياً - كما قال لكاتب هذه السطور في 1991 - لا يزال صاحبنا على وفائه الشديد لأفكار وجودية. ولا يني يكرر ما قاله مراراً في قصصه وكتاباته الصحافية عن شعوره بالغربة وسط بيئة قادته اليها الصدفة المحضة، ولو استطاع لهجرها الى بقعة اكثر رأفة. لا السنوات الطويلة، ولا الثقافة واللهجة المحليتان اللتان تشبع بهما، غيرت ميوله الى التركيز على نقاط الاختلاف مع البلد المضيف بدلاً من مفاصل الالتقاء! أما الإبداع فربما هجر صاحبنا منذ رحيل زوجته، كما قال صديقه الانكليزي ديفيد هربرت الذي شاطره "المنفى" ذاته عقوداً عدة. هذا "النضوب" وكثير غيره من جوانب حياة بولز لا يجد طريقه الى الشريط.لكن المخرجة وقفت في اقتناص صور نادرة للقاء الأخير الذي ضمه مع بوروز وغينسبرغ قبل رحيلهما، ونجحت في اقناع المرأة المغربية التي كانت مقربة من جين بالوقوف أمام الكاميرا للمرة الأولى. عدا ذلك، لم يأت الفيلم بجديد. مثلية بولز، التي تحاول المخرجة تسليط الضوء عليها فيما يصر على تكتمه، معروفة جيداً. وحتى لو اعترف بها صراحة، فإن ذلك قد لا يضيف شيئاً ثميناً الى الحقيقة التي وصفها كثير من معارفه وأصدقائه بدقة شديدة أحياناً. وعدم إعجابه بفيلم برتولوتشي ليس مجهولاً، فقد أعرب عن هذا الرأي لجهات عدة وأدلى به ل"الوسط" في 1991. ولعل ما يميز الفيلم في الدرجة الأولى انه تعبير عن افتتان بكاتب نسجت حياته "الغريبة" هالة اسطورية من حوله. هكذا لم ترَ المخرجة المأخوذة بالأديب الكهل، انه -كمواطنيه الذين تدفقوا على طنجة- استقر في المغرب اساساً لأنها منحته حريات افتقدها في بلاده الأصلية، وكونها صارت بالنسبة اليه مهنة اعتاش من الكتابة عنها. ومع أنها استعانت بالأديب محمد شكري، فهي لم تلتقط موقف مؤلف "الخبز الحافي" بترجمة الكتاب التي وقعها بولز، كما لم تتعرض لاتهامات وجهها شكري والحكواتي محمد مرابط ومآخذ لهما على ترجمات قام بها الأديب الاميركي لبعض قصصهما. ولئن كانت حياة القصاص، لا قصصه، هي الشغل الشاغل لبيشوال في أول أفلامها الطويلة، فقد حصر مواطنها الكندي آتوم ايغويان اهتمامه بالحكاية. هكذا حول المخرج الأرمني المولود في القاهرة العام 1960، رواية الأديب المعروف وليام تروفر "رحلة فيليسيا" فيلماً لعب بطولته بوب هوسكينز أمام ايلين كاسيدي. واسهم السينمائي الآخذة بالارتفاع منذ شريط "مشاهدة عائلية" 1987 قد تسجل صعوداً جديداً بفضل الفيلم الأخير. ومن يدري ربما فتح أمام ايغويان أبواباً قرعها سابقاً مثل: الأوسكار وسعفة "كان" الذهبية. تدور القصة حول شابة ايرلندية تأتي إلى انكلترا بحثاً عن صديقها الذي هجرها. وبدلاً من أن تعثر فيليسيا ايلين كاسيدي على جوني تقودها المصادفة إلى هيلديتش بوب هوسكينز الرجل الخمسيني الذي يعمل في مجال الاغذية في وسط انكلترا. وهذا يعيش وحيداً في عالم يغص بصور الماضي وتلاحقه ذكرى والدته التي ملأت شاشات التلفزيون وشغلت مشاهديه في الستينات. قد يكون الفيلم من أكثر أعمال ايغويان "واقعية"،، إذ تتوالى أحداثه وفق خط حبكة تبدو ان كل واقعة فيه تقود إلى التي تليها. ومع ان استعادة الماضي على نحو شبه منتظم تقطع السرد، فهي لا تجعله عصياً على المتابعة. وبين الماضي والحاضر، يعوّل ايغويان على بعض أدواته المألوفة - مثل لقطات الفيديو التي تُعرض في سياق الفيلم - لنسج صور تتحرى العزلة والحب والكتمان. وتمثل أسئلة الغربة والهوية التي يلامسها ايغويان عبر بطلته الايرلندية التائهة في انكلترا، المحور الأساسي لفيلم "الشرق هو الشرق". والصلة الرئيسية بين الفيلمين لا تكمن فقط في الهوية الايرلندية التي يحملها مخرج الفيلم الثاني مع بطلة الفيلم. فداميان أودونيل غريب عن الموضوع الذي يتأمله كإيغويان. وبينما يسلط السينمائي الأرمني الضوء على انكلترا ونمط حياتها، فإن نظيره الايرلندي يتابع العلاقات التي تنشأ بين أفراد عائلة باكستانية تعيش في انكلترا وما فيها من حب وحرب. والكلمة الأخيرة هي الأقرب إلى واقع الحال. فالأب جورج خان اوم بوري يأمل أن يربي أولاده تربية باكستانية صالحة، لكن أمله يخيب. براعة الفيلم خولته ان يكون أحد المرشحين لنيل جائزة المهرجان. ولما فاز بها شريط "منطقة حرب" - الذي لم تسنح الفرصة لصاحب هذه السطور بمشاهدته - نوهت لجنة التحكيم بإمكانات أودونيل. وإلى جانب حياة الغربيين في الشرق والشرقيين في الغرب، لم يفت المهرجان أن يكرس حيزاً لأفلام تتناول أبناء الشرق البعيد في أوطانهم. تمثلت السينما الإيرانية بثلاثة أفلام قصيرة هي "الزورق اليوناني" للمخرج ناصر تاغفي و"الخاتم" لأبي الفضل جليلي و"الباب" الذي أنجزه السينمائي المعروف محسن مخملباف. وعلى عادة السينما الإيرانية، كانت الأفلام الثلاثة نسخاً لمقاربة الواقع في شكل يراه بعضهم مميزاً، فيما يصفه آخرون بالمباشرة والرتابة المكرورة. واتسم الفيلم التركي "رحلة إلى الشمس" الذي أخرجته المخرجة الشابة يسيم اوستاغلوبالفنية والتخيل. يتناول الشريط العنصرية التي تؤدي بالمجتمع التركي إلى اضطهاد ابنائه لمجرد أنهم يحملون ملامح كردية. والمخرجون الشباب مثلوا الغالبية في المهرجان، ففيلم الافتتاح "صائد الفئران" هو الباكورة الروائية للمخرجة الاسكتلندية لين رامساي. أما فيلم الختام "أناس جميلون" فوقعه البوسني - الشاب أيضاً - جاسمين ديزدار، وتوقف فيه عند موضوعات أبرزها الحرب وآثارها والحرب هي موضوع أول فيلم ينجزه مخرج تخطى عتبة الشباب، وهو الروائي البريطاني وليام بويد الذي أطلق على شريطه اسم "الخندق". ويلتقط الفيلم أحداثاً عاشها جنود بريطانيون في الخندق حيث ربضوا استعداداً لشن هجوم على الألمان في آب اغسطس 1916. ومن "الشيوخ"، حضر الأميركي روبرت آلتمان مع فيلمه الأخير "ثروة كوكي". والمخضرمون لم يهجروا مهرجان ادنبره الجانبي الذي استضافت منابره مسرحيين عالميين امثال الكاتب والممثل البريطاني ستيفن بيركوف وزميله الأميركي ديفيد ماميت. الا ان التظاهرة الأضخم في العالم، كانت ميداناً فرسانه الشباب. وزاد عدد المشاركين على 14 ألف شخص حولوا مرافق العاصمة الاسكتلندية من مدارس وكنائس وقاعات صغيرة وكبيرة مسارح قدموا على خشباتها اي نمط فني او استعراضي ممكن. ولم يكن على المرء ان يرهق نفسه بالتنقيب عن الفقرات التي يرغب في مشاهدتها. فكثير من العارضين من اصحاب الموهبة او من أدعيائها، كانوا موزعين على ساحات المدينة وشوارعها الرئيسية. وقلما اسعفت الجرأة او ساعد الحظ احداً على النفاذ بجلده من فنان يحشر اعلاناً عن عرضه في يد العابر في قلب منطقة المهرجانات او ممثلة تلقي عليه محاضرة عن مسرحيتها. بين الكوميديين، من شق طريقه بفضل خفة دمه وقدرته على الارتجال. ويلقى هذا اللون الرائج، خصوصاً في السنوات الاخيرة، على شاشات التلفزيون البريطاني، ثناء جمهور كبير في أدنبره. وقد نافس الارتجاليون احياناً الممثلين الكوميديين على اجتذاب الناس، لأسباب عدة، في طليعتها عفوية العرض الذي يؤديه شخص يقف وحيداً على خشبة عارية من الديكور والستارة. استعار كثير من الارتجاليين مواضيع نكاته من حياته. الايرلندي مارتن ايفبغ، مثلاً، اتخذ من حياة جدته التي عاشت قبل نحو مئة عام، وكانت، على ذمته، بذقن وشاربين! وكان الايراني أوميد جليلي اكثر جرأة من زميله الغربي. فهو لم يسخر من جدته بل من ثقافته الأم. يذكر ان جليلي استقطب اهتماماً لا بأس به في السنتين الماضيتين بنكاته التي أقل ما يقال عنها انها لا تناسب كل الأذواق، خصوصاً انها لا ترحم احداً. والمسرحيات التقليدية بأنماطها الكوميدية والتراجيدية كانت اكثر بكثير من ان يشاهد الزائر جزءاً يسيراً منها. شكسبير لم يتنحَ عن موقعه في الصدارة كسيد للمهرجان. وكان بوسع المرء ان يرى عطيل او هاملت في نسخ شتى وبلغات مختلفة. اما عن "روميو وجولييت" فحدث ولا حرج. المسرح الحديث، حظي بدوره باهتمام لائق. والفرق الروسية قدمت عروضاً كان بعضها على كل شفة ولسان. ولم يخرج الاطفال من "العرس بدون قرص"، بل كانت لهم عروضهم التي أداها الصغار امام اقرانهم وبعض المتطفلين من آباء وأمهات. ولعل اهم هؤلاء الفنانين الصاعدين كانت الأوكرانية اولغا 13 عاماً التي انشدت باقة من الأغاني التقليدية بصوت يجمع بين العذوبة والقوة ما يمكنه من التنزه بين طبقات عدة. ولذلك بدأت تتسلق سلم الشهرة قبل سنوات، وهي تعد الرئيس الفرنسي جاك شيراك ونظيره الروسي بوريس يلتسن بين اصدقائها المعجبين. وشنف اليابانيون آذان جمهور كبير بموسيقاهم وأغانيهم، في سياق برنامج "تجربة يابانية" الذي ضم عروضاً راقصة فردية وجماعية. والموسيقى هي على الدوام نقطة الجذب الأساسية و"مورد الرزق" الأكثر سخاءً في مهرجان ادنبره العالمي. وتكفلت هذا العام بإبقاء موظفي التذاكر منكبين على عمل كاد لا ينتهي. هكذا نفدت بطاقات الدخول الى حفلتي فرقة "اوركسترا فيينا الهارمونية" التي قدمت مع قائدها الجديد البريطاني سير سايمون راتل سيمفونيتين واحدة لبيتهوفن واخرى لمواطنه الألماني الأكثر شباباً ماهلر، اضافة الى مقطوعات للفرنسي رافيل والهنغاري المعاصر جيورجي كورتاغ. ويعود بعض هذا الاقبال الى ان الفرقة قد تكون الأهم في العالم، ويعتبر المايسترو الشاب بين أبرز قادة الأوركسترا ايضاً. وكانت تلك اطلالتهما الاولى معاً في ادنبره، بعدما انتخب عازفو الفرقة النمسوية - خلافاً لأي اوركسترا اخرى - قائدهم. وقد فضلوه على الاسرائيلي الشهير دانيال بارنبويم الذي كان منافساً قوياً أشيع انه سيفوز بالمنصب كبادرة حسن نية ازاء اليهود من فرقة لم يقدها يهودي قط. وكان المهرجان العالمي، مرة أخرى، ملتقى لنجوم الموسيقى الكلاسيكية ممن أدوا ألحان شوبرت وديبوسي وشتراوس وفاغنر وآخرين من سلالة الكبار. لم تمنع السنوات السبع والثمانون المايسترو غونتر فاند من الصعود الى المنصة متكئاً على ساعد شاب لقيادة اوركسترا هامبورغ التي أدت سيمفونية بروكنر السابعة. واحتفت ادنبره هذا العام على نحو خاص بشومان، فعُزفت سيمفونياته الأربع واثنين من الكونشيرتات التي تركها الموسيقار الألماني في نهاية حياته القصيرة المضطربة. وأدى كونشرتو شومان للبيانو، العازف النمسوي الأصل ألفرد بريندل، الذي يعد من اهم الفنانين العالميين القادرين على استنطاق الآلة الفذة. ولئن دفعت أنامل بريندل البعض الى التحليق في اجواء السحر مع ايقاعات شومان الرومانسية بامتياز، فان مقطوعات كورتاغ كانت لهم بالمرصاد. فالموسيقار الهنغاري الذي كان ضيف المهرجان يكتب ألحاناً بعيدة كل البعد عن الرومانسية أوالكلاسيكية قريبتها الأكثر صرامة. وقد يغني العازف او يصرخ بمرافقة بعض ألحان كورتاغ "المشاغبة". مع ذلك، حظي الموسيقار المعاصر بقسط من الاعجاب، مما يدل الى مرونة المهرجان الذي يتسع للتقليدي وما بعد الحداثي. أحد المواقف الطريفة التي شهدها المهرجان حصل في صالة "كوينز هول"، ووجدت اخباره الطريق الى الصفات الاولى في صحف اسكتلندا الرئيسية وآذان مستمعي اذاعة ال "بي بي سي" التي كانت تبث وقائع الحفلة على الهواء. ففي الاستراحة التي سبقت عودة عازف البيانو الروسي غريغوري سوكولوف الى المنصة، صرخ احد الحاضرين منتقداً مدير المهرجان بريان ماكماستر لأنه سمح بتعتيم الصالة نزولاً عند رغبة العازف. لم يرد المدير، خصوصاً ان أصوات الحضور الذي زاد عدده على ألفي شخص، تعالت منددة بصاحب الاحتجاج طالبة منه ان يغادر المكان اذا لم يشأ الاستماع الى الموسيقى. وفعلاً اضطر الرجل الى الانسحاب، وبقي "الساحر" الروسي امام جمهور التهبت أكفه بالتصفيق. المسرح لم يقصر في اثارة الأسئلة وصدم الجمهور، كما فعل في الماضي، وان بقيت مقاعد كثيرة باردة فارغة في عروض درامية عدة. وشهد منبر المهرجان الدولي جانباً من الصحوة التي يتمتع بها حالياً مسرح مكسيم غوركي في الغرب. ففي لندن يقدم المسرح الوطني البريطاني "أهل الصيف" للأديب الروسي، وفي أدنبرة شاهدنا له "الدرك الأسفل" في انتاج هولندي يستحق الثناء جسد فيه ممثلو فرقة "رو" نظرة غوركي المتفحصة للصوص والرعاع وحياتهم الهامشية. وجو البؤس والتفتت الاجتماعي يسود مسرحية "وجه النار" التي أخرجها توماس اوسترمير 30 عاماً عن نص لماريوس فون ماينبورغ الذي لا يزال في العشرينات. الا ان العنف المتفشي في عرض المخرج الألماني "المشاغب" ليس موجهاً ضد الآخرين. فالشاب كورت المولع بإضرام الحرائق يوجه طاقاته التخريبية ضد البيت والعائلة، وينتهي به المطاف بقتل أبويه. لكن التمثيل المميز، والديكور البسيط لا يخفيان العطب الحقيقي في النص. فكأن كورت ينتمي الى جيل الستينات والسبعينات، لأن غضبه يذكر بتمردهم. والفارق الكبير بين هذه الأيام وتلك هو ان النظام السياسي تغير، والعائلة تبدلت ما يعني ان غضب كورت "القديم" لم يعد له ما يبرره، على الأقل لأنه لا يجدي مع الخصوم المعاصرين! ومن هولندا جاءت فرقة مسرح "هيث زويدليك تونيل" بانتاجها الجديد، ويكاد يكون الأول من نوعه، لمسرحية "أغنية الهند" التي كتبتها الفرنسية الراحلة مارغريت دوراس. والعمل الذي أخرجه ايفو فان هوف - اختير أخيراً مديراً جديداً لأهم مسرح هولندي، "تونيلغروب امستردام" - يرسم صورة مدهشة للهند في الثلاثينات. الحب والعاطفة المشبوبة بمنزلة القلب من المسرحية، التي تدور أحداثها حول زوجة السفير الفرنسي آن ماري ستريتر الحسناء هي موضع اعجاب كثيرين ممن يتسابقون لخطب ودها. بين هؤلاء نائب القنصل في لاهور الذي يدفع به العشق من النظرة الأولى على طريق الجنون. واللافت في العرض - المغامرة المدى الذي ذهب اليه المخرج لاضفاء ثورة على مسرحية هي ثورية أساساً. ستة ممثلين يتحركون على المسرح بصمت، فيما يذاع حوارهم، والتعليمات المسرحية أيضاً، المسجلة على شريط كاسيت. أما الموسيقى، فيعزفها ملحنها الذي انتحى ركناً على المسرح الى جانب عدد من أفراد الجمهور ممن اضطجعوا على الخشبة والممثلون يتحركون حولهم كالدمى. ولم يفت هوف ان يذكر أوجاع الهند عبر أصوات المرضى وتأوه المعذبين، كما سعى بنجاح الى تكسير الصور التقليدية عن الشرق "الانثوي" الكسول. ومن دواعي السعادة أن دماءً عربية تجري في عروق أحد أبرز ممثليه الذين ساهموا في هذا التكسير، اذ لعب رمزي نصر -والده فلسطيني وأمه هولندية وكانت "الوسط" تحدثت اليه العام الماضي- دور الملحق الفرنسي الشاب. وكادت عروض الباليه والرقص تكون العلامة الفارقة للمهرجان الدولي، الذي استضاف بانتظام أساطين هذا النمط الفني. وفيما غابت الألمانية الشهيرة بينا بوش شأنها شأن الأميركي مارك موريس، صديق ادنبره العتيق، لم تخل الساحة من النجوم. ولعل السويدي ماتس ايك مصمم رقصات "باليه كولبرغ" احتل مركز الصدارة لدى جمهور تدفق على عروضه الثلاثة التي ضمت "جيزيل" و"الجمال النائم" فضلاً عن لوحات أخرى. واستقطب الفرنسيان بوريس شاماز وديمتري شامبلا اهتماماً كبيراً لجرأة عروضهما الأربعة. أما الأداء الذي جمع بين الفنية العالية والجرأة فكان اسبانياً بعنوان "جسد الظلمة والضوء"، ووقعه ابن الباسك البار خوان كارلوس غارسيا. الديكور المدهش والموسيقى المثيرة كانا خلفية لائقة لحركات وتشكيلات حاولت سبر أسئلة الرغبة والعزلة والتاريخ. الحب والرغبة كانا محور عروض الغناء والاوبرا، حيث تلتقي الأنماط الفنية السابقة كلها. وفضلاً عن اوبريت فرنسية وأخرى للراحل البريطاني بنجامين برتين قدم الصينيون حفلتين جمعتا الموسيقى بالغناء والتمثيل. وأدى اليابانيون اوبرا "ترنادوت" لبوشيتي التي استُقبلت بكثير من البرود وقليل من الثناء. أما المخرج السويسري المعروف لوك بوندي، الذي وقع انتاجاً اسكوتلندياً لاوبرا "ماكبث" فأخذ عليه العبث بعنصر رئيسي في العمل الشكسبيري هو الساحرات اللواتي يؤججن السلطة فتغتسل البلاد بحمام دم رهيب. هكذا كان حظ بوندي قليلاً هذا العام ويبدو ان أسهمه الى هبوط في المدينة التي شاهدت سابقاً عدداً من عروضه المسرحية الناجحة وانتاجه الجميل لأوبرا "دون كارلوس" العام الماضي. أسدلت الستارة سريعاً، وخفتت أضواء المدينة . وبعدما يزيد على 52 عاماً على ولادته، طلّق المهرجان الدولي حياة التشرد وصار له بيت جميل . لكن هذا ليس كل شيء. والتظاهرة التي تدر أموالاً طائلة على المدينة - احد مسارح المهرجان الجانبي حقق ربحاً زاد عن مليون جنيه - لا تزال في حاجة الى اهتمام أكبر من السلطات الرسمية… وعناية من منظميها