حتى أواسط السبعينات، ظل البياتي يقدم نصوصاً لها اشكاليتها وتأويلها المختلف. بمعنى أن اسهامه في حركة الرواد ظل فريداً، لصيقاً به وحده. وأرى أن فرادة هذا الشعر متأتية من كونه استطاع ترويض الشكل الجديد، حتى صار هذا الشكل يستوعب زوايا نظر، وتدقيق في الحياة وأشيائها ومعضلاتها اكثر من البدايات الرومنسية والتي ظلت رومانسية الى مدى طويل ذات النطاق الضيق من ناحية المواضيع. عند البياتي وجدتْ ضجة الحياة سبيلها الى النص الشعري: الشارع، التظاهرة، الاضراب، العمال، الفلاحون، الناس البسطاء عموماً، كما رأينا تجدد الاشتغال على اغراض ما كان احد ليتصور ان بمقدور الشكل الجديد الاشتغال بها، كالهجاء مثلاً. عبد الوهاب البياتي سريع التعلم، أحياناً يكتفي بالعنوان من الكتاب، فيبني عليه قصيدة. واحياناً يكتفي بالسماع عن الاطلاع. وهو يلاحظ اهتمامات الاجيال الجديدة، ويجهد في مجاراتها، ومثال على ذلك استيلاؤه على الشكل المدوّر للقصيدة. لكن البياتي هنا يبدو شخصاً يستحق التقدير في هذه الناحية بالذات، أعني تعلمه من الاجيال الاكثر شباباً. إن هذا تواضع لم يفعل البياتي مثله في حياته. والآن مع انطفاء الشعاع الاخير لعبد الوهاب البياتي، صار بمقدورنا ان ننظر بموضوعية وبرودة دم الى مجمل المنجز الجمالي لحركة الشعر الحر التي بدأت مع الرواد. وعلى هذا الاساس يمكنني التحدث عن مفارقة مذهلة في شعره، فهو انسان ارضي وحسي، لم يتخل لحظة واحدة عن متع الحياة، فكيف حقق هذا التماهي بين ما هو صوفي وبين الحياة الفعلية التي عاشها؟! خصوصاً ان ليس لديه معضل وجودي، بل على العكس لديه جدل يومي وهو في طبيعته محدد وليس محدوداً. اعتبر البياتي خارج جيل الرواد، فقد جاء تالياً لأن الاقتحام الاول كان لنازك الملائكة والسياب. ومما يثير الأسى ان نجتمع اليوم فوق قبره وهو يجاور ضريح محيي الدين بن عربي في دمشق، مثلما اجتمعنا قبل نصف قرن في دمشق كأحرار عراقيين. البياتي رفيق درب ورحلة طويلة عابثة لطول ما امتدت، منذ اللقاء الاول في ساحة بمدينة بغداد مروراً بمدن اخرى... إنه شاعر المنفى، بل نبع المنفى الذي ظل يرفد الشعر العراقي، جنباً الى جنب مع انجازات الرصافي والجواهري والسياب وبلند الحيدري. حقاً كان البياتي شاعر منفى، ثم انه لم ينصرف الا للشعر، فقد كانت حياته مكرسة للقصيدة.