تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    ألوان الطيف    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسام المشاهير أول الفائزين ب "جائزة مبارك"، ولوحته "الأعجوبة" ثمنها 3 ملايين دولار . مميزاً بين "الصنايعي" و"لمبدع" ومعتبراً الفن أرقى من السياسة صلاح طاهر: متى يعيش الفنان العربي من لوحاته ؟
نشر في الحياة يوم 26 - 07 - 1999

صلاح طاهر أشهر من رسم البورتريه في مصر، لكنّه قبل كلّ شيء، أحد أبرز رموز مدرسة "التجريد التعبيري" في مصر والعالم العربي. بل انّه يعتبر أن "كل الفن الكلاسيكي في تاريخ البشرية، قائم على البناء التجريدي أساساً". والفنّان المعروف الذي رسم العقاد وأم كلثوم وجمال عبد الناصر وزوجة تيتو... يقول إنّه لا يفهم في التجارة، وإنّه لا يزال يعيش من رسم البورتريهات، مع انّ ثمن احدى لوحاته وصل حديثاً إلى سعر مرتفع جدّاً بالنسبة إلى الفنّ العربي، على اختلاف مراحله ومدارسه. بعد فوز صلاح طاهر بجائزة مبارك، قصدته "الوسط" وهو في غمرة الاستعداد لمعرضه الاستعادي الشامل، فتناول بعض مراحل مسيرته الفنية، وعرض مواقفه الفكريّة والجماليّة، مذكّراً أن "المشكلة في ثقافة الحواس" وأن "الجهل يدمر الحضارة".
عندما نشر في أحد مواقع الانترنت الأميركيّة أن لوحة صلاح طاهر "الأعجوبة" ارتفع سعرها الى ثلاثة ملايين دولار، أحدث الخبر هزة في الأوساط التشكيلية في مصر. أما هذا الفنّان المصري المعروف 88 سنة، وهو الملاكم القديم وممارس اليوغا، فبقي محافظاً على عاداته في الرسم والحياة، ولم يكن له أي نصيب من الملايين الثلاثة! وكان تعليقه الأوّل: "لا أفهم في المسائل التجارية، على رغم أنني من عائلة تجار، كما أنني أتساهل في أسعار لوحاتي".
ينحدر صلاح طاهر من البرجوازية المصرية التي برزت مطلع القرن العشرين، ومن هذه الطبقة خرج، كما هو معروف، رواد الرعيلين الأول والثاني في الحركة التشكيليّة المصريّة. ولد في 12 أيار مايو 1911، أي في التاريخ نفسه الذي تخرجت فيه أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة في مصر التي تأسست العام 1908. ثم تخرّج من المدرسة نفسها العام 1934. عمل طاهر في وظائف حكومية، إلا أن حساسية الفنان كانت غالبة على كل نشاطاته وممارساته الأخرى. ومع أن النقاد يصنّفون فنّه في اتجاه "التجريد التعبيري"، فهو يظل أشهر من رسم البورتريه في مصر، وارتبط اسمه تحديداً بالمشاهير الذين رسمهم: العقاد، أم كلثوم، توفيق الحكيم... كما رسم عبد الناصر والسادات وزوجة تيتو.
فاز صلاح طاهر أخيراً ب "جائزة مبارك للفنون" التي استحدثت هذا العام. وهو يعدّ حالياً لمعرض استعادي ضخم، يشمل مراحل تطورّه المختلفة، والمحطات الأساسيّة في مسيرته الفنيّة التي بدأت أواسط الستينات. وهنا الحوار الذي أجرته معه "الوسط" في منزله في الجيزة:
ما هي قصة لوحتك "الأعجوبة" التي عُرض على مقتنيها 3 ملايين دولار لبيعها؟ وهل يعطي هذا العرض فكرة عن بورصة اللوحات في مصر؟ هل يمكنه أن يرفع أسعار لوحات الفنانين المعروفين؟
- لم يكن عندي أي معلومات عن بيع هذه اللوحة والسعر المعروض فيها. لقد رسمت لوحة "الأعجوبة" العام 1993، وبعتها خلال المعرض الذي أقمته في العام التالي، من دون أن يكون لدي أي فكرة عن اسم المشتري. وأخيراً سمعت أن موقعاً في شبكة الانترنت ذكر أن أحدهم عرض على مقتني اللوحة مبلغ 3 ملايين دولار، لكن هذا الأخير رفض بيعها. أنا لم أتقاض هذا المبلغ عندما بعتها أول مرة طبعاً. وعرفت فيما بعد أن مقتني اللوحة رجل أعمال سكندري معروف هو المهندس ياسر سيف. وهو مقتني لوحات ممتاز، ولا يحب الفن الكلاسيكي الاكاديمي على الاطلاق. وعلمت أنّه يهوى إتجاهي الفني الذي يعتبره مدرسة مستقلّة.
أحضر لي المهندس ياسر سيف لوحة "الأعجوبة" متر × متر ونصف المتر إلى البيت، فأصبت بالدهشة وأنا أتأمّلها متذكراً تفاصيل عملي فيها. كنت نسيتها وسط دوامة العمل الفني. هذا الرجل متحمس جداً لأعمالي الفنية، ويقتني مجموعة كبيرة منها 50 لوحة، لا أعرف حتى من أين اشتراها لأنه لم يشترِها مني شخصياً، وأنا لست تاجراً مع الأسف، ولا أفهم في النواحي التجارية من بيع وشراء. كما وأنني اتساهل جداً في أسعاري. لقد سمعت أن تلاميذ تلاميذي يبيعون اعمالهم بأضعاف أسعاري. طبعاً أنا سعيد بهذا، لأنني لست تاجراً، إنما أحاول المساهمة في البناء الحضاري في بلدي، والفن من أعمدة البناء الحضاري. وأي بلد ينشأ فيه الفن وينمو ويزدهر، يصنع أو يؤسس لظاهرة حضارية عظيمة. هذا الاتجاه في البلد من الناحية الحضارية يتطلب متلقياً مثقفاً، إذ لاپبد من الاستجابة للفن، لأنه إذا لم يحرك النفوس، يكون فشل في وظيفته. الفن قيم تنضح بها عطاءات الأديب والشاعر والمعماري... ولكل فن قوانين والتزامات وقيم أساسية يلتزم بها الفنان.
الفن المصري مغبون
هل ترى أن الفن المصري مغبون لجهة أسعار اللوحات ؟
- الى أقصى حد!
ما هو سبب هذا التدني؟ هل هو غياب الجمهور المثقف الذي يقبل على شراء اللوحة؟ أم عدم وجود أطر وبُنى تنظّم حركة البيع كالغاليرهات ومديري أعمال الفنانين؟
- هناك أسباب عدّة منها التي ذكرت. أضف إلى ذلك أن الأعمال الفنية التي تصل أسعارها الى أرقام خيالية تكون نادرة وليس لها نظير في الابتكار والجدة.
ما هي أغلى لوحة بيعت لفنان مصري؟
- لا أعرف. ولكن من الفنانين أصحاب الأسعار المرتفعة جداً وزير الثقافة فاروق حسني، ووصلت أسعاره الى 120 ألف جنيه وأكثر للوحة. وهو فنان تجريدي ممتاز، ولكنني لا أذكر أن لوحة ما وصل سعرها الى مليون مثلاً. لاپبد اذاً من وجود المتلقي المثقف والمصقول بالثقافة. هناك مثقفون ينقصهم الوعي الفني بمعناه الحقيقي، والثقافة هي تكامل. تجد عندنا مثلاً طبيباً عظيماً، لكنّه لا يعرف شيئاً عن الدنيا خارج مجال تخصصه. لذا تجد عدداً كبيراً من المشترين ينجذب الى الفن الاكاديمي الواضح أو المقروء والبسيط، الذي لا يتطلّب تذوّقه ثقافة كبيرة. وفي المقابل، أعرف مثلاً سيدة خليجيّة درست في أوكسفورد بريطانيا، وتعمل مديرة مدرسة للمعلمات، كما أسست جمعية رسم ومعرضاً دائماً في مدينتها. هذه السيدة التي تتمتّع بثقافة عميقة، وبإلمام رفيع بحركة الفن في العالم، لا تحتمل أن ترى لوحة أكاديميّة. وهدفها اليوم تكوين مجموعة واسعة من الأعمال التجريدية المميزة. حبّذا لو أن هواة الفنّ مثل هذه المثقفة الخليجيّة. المشكلة في النهاية، في "ثقافة الحواس".
ما أهميّة الفن التجريدي إذا لم يصل إلى الجمهور؟
- المسألة لا تتعلّق بتجريدية الفنّ، بل بأسلوب الفنان. من دون اسلوب مميز لا يستحق الرسام تسمية "فنان"، قد يكون "صنايعياً" جيداً. أما الفنان الذي يصل إلى الناس، ويؤثر في عصره، فلاپبد من أن يمتلك إضافة إلى الصنعة والتكنيك، الناحية الروحانية، الموسيقية، الجمالية. هذا ما نسمّيه الرؤيا. الموهبة من دون صنعة تعطي فنّاً مفتتاً لا يستطيع التواصل مع الجمهور. والصنعة المتقنة من دون ابداع، تعطي فناً بارداً من دون قيمة، يعجب المغفلين ويرضي أصحاب الثقافة المحدودة. أتكلم بشيء من العصبية لأن هناك حقيقة موجودة في واقعنا، وهي حقيقة مرة، حيث أقابل في الحياة أناساً محترمين ومثقفين وأصحاب شهادات، ولكن لا وعي إطلاقاً عندهم بالمعنى الخلاق في العمل الفني، و"كله عند العرب صابون" كما يقول المثل الدارج.
هناك حاجة إذاً إلى سياسة تربويّة تنشر الوعي الفني، وتعلّم التذوّق، حتى في أوساط المثقفين...
- من دون شكّ. لاپبد من العودة ثانية "الى تعليم الفن للأطفال في الصغر". تبدأ العقد النفسية في الطفولة، كذلك الإشراق النفسي والروحي والعواطف النبيلة، فلاپبد من بعث الجمعيات التي تعنى بذلك ودعمها، ولا بد من العودة إلى دروس الرسم والفن والموسيقى المبكرة لتثقيف حواس الأطفال، حتّى اذا كبروا صار بوسعهم تكوين ذائقتهم الخاصة وثقافتهم الشخصية. ويلعب الأهل دوراً أساسياً أيضاً، في تدريب أعين أطفالهم على الرؤية الصحيحة وتمييز مواطن الجمال...
لكن المسؤوليّة الكبرى تقع على أجهزة الإعلام، خصوصاً التلفزيون لأنه يصل إلى أوسع دائرة من الناس من كل الطبقات والأعمار والأوساط الاجتماعيّة والمستويات العلميّة. هكذا نستطيع إحداث نمو حضاري أو تكامل حضاري في بلادنا، وهذه ليست معجزات ولكن لاپبد من بذل الجهود، وهذا شرط ضروري لتطوّر الحضارة. من دون نهضة فنيّة الحضارة مهددة بالانهيار، الجهل يدمر الحضارة.
كنت بطل مصر في الملاكمة لسنوات متتالية...
- هذا أخجل منه في الحقيقة، لأن الملاكمة هي أسخف رياضة، ولا أحبها!
كيف وصلت إلى الفنّ التجريدي؟
- في مرحلة التكوين كنت متفوقاً في التقنيّة. وفي التاسعة عشرة رسمت بورتريه لمحمود عباس العقاد، وكنت في هذه السن أرسم مثل رفاييل ومايكل أنجلو وغيرهما. كان أبي تاجراً من تجار الجملة، لكنه كان محباً للثقافة، وفي بيتنا مكتبة ضخمة في الأدب العربي والشعر والدين، هكذا بدأت علاقتي بالكتب في سنّ مبكّرة، وتولّعت بالقراءة حتى وصل عدد الكتب في مكتبتي اليوم الى 48 ألف كتاب. وأنا رغم تقدّمي في السنّ لا يمر عليّ يوم من دون قراءة.
كنت أقرأ كثيراً، وألقي محاضرات في الفن وأنا شاب صغير. كنت أتكلم وأقول إن الفن إبداع وإن لم يكن هناك إبداع أو ابتكار فلن يكون ما نفعله فناً إنما صنعة. لكنني كنت أشعر أنني لا أحقق ما أقوله عن الفن المبدع. وصديقي المثال جمال السجيني الذي صنع لي تمثالاً رائعاً أحتفظ به في بيتي، كان يقول لي: إن هذا الكلام لا ينطبق عليّ، لأنني صنايعي من الدرجة الأولى، "ولكن أين الستايل المميز الذي تتحدث عنه؟". هذه الجملة التي قالها لي السجيني أصابتني بالمرض، وجعلتني لأربع سنوات أبحث عن نفسي، وعن اسلوب خاص بصلاح طاهر. كان ذلك في الاربعينات، لدرجة أن أبي أخذني الى أطباء نفسيين لعلاجي. كنت رياضياً، من الدرجة الأولى، وصحتي جيدة، لكنني عانيت من المرض. وخلال رحلة فنيّة الى الولايات المتحدة الاميركية، زرت معرضاً في لوس أنجليس لأهم الفنانين الاميركيين، وذهلت أمام اللوحة الفائزة بالجائزة الأولى، وكانت بعنوان: "طبيعة صامتة صينية". رأيت الخطوط القوية الصينية التي تميزت بها أعمال الفراعنة في مصر القديمة، والفن الصيني الرقيق الشاعري، والتكوين الرائع للفنانين الكلاسيك الكبار، وتوازنهم المدهش في اللون والخط والمساحة والكتلة... كل هذا كان موجوداً في تلك اللوحة، لكن أين اللوحة؟ التكنيك؟ الصنعة؟ كانت تجريداً بحتاً، يومها قلت إن كل الفن الكلاسيكي في تاريخ البشرية قائم على البناء التجريدي أساساً، ثم يبدأ الرسم، نقل الطبيعة، وغيره، ووجدت أن الفن التجريدي هو فن الموسيقى.
رجعت إذاً من رحلة الولايات المتحدة الاميركية وأنا ثائر على نفسي ثورة نهائية. وانقلبت دفعة واحدة من البورتريهات ورسم الطبيعة الى التجريد البحت. هذا الانقلاب المفاجئ جعلني لمدة عام ونصف العام أرسم بغزارة ولا أخرج من الاستديو. لكنني سرعان ما وجدت أنني لست نفسي، بل أقلد فنانين تأثرت بهم. لكنّني كنت على الأقلّ قد تمكّنت من أسلوب التجريد التعبيري الذي لم يفارقني بعد ذلك. وكانت هذه البداية الحقيقية لمسيرتي الفنية.
متى أصبحت صلاح طاهر إذاً؟
- بدأت أصبح صلاح طاهر عندما تبلور أسلوبي الخاص. الفن التجريدي ليس أسهل من سواه كما يعتقد بعضهم، إنما هو أصعب من الفن الاكاديمي بما لا يقاس! أنا أعيش من رسم البورتريهات حتى الآن، وليس من الأعمال التجريدية، لكن البورتريه لا يعبّر عن ذاتي وعن حساسيتي ورؤيتي للعالم. أنا أسعى إلى رسم الكائنات والأشياء من الداخل، بعيداً عن النقل الآلي لما تراه من الخارج.
هل نفهم أن الفنان المصري لا يستطيع اليوم أن يعيش من أعماله التجريديّة؟
- هذا صحيح للأسف. شهدت بلادنا قفزات مهمّة على مستوى الوعي الثقافي والفنّي خلال العشرين سنة الأخيرة، وتبلورت حساسيات وأساليب وأذواق لم تكن موجودة من قبل. وبدأ كثيرون في الاهتمام بالفن التجريدي. لكننا نحتاج الى المزيد، كي يستطيع الفنان التجريدي في مصر أن يعيش من فنه. عندما زرت باريس في مطلع الستينات اكتشفت عشرات الغاليريهات التي لا تعرض سوى الأعمال التجريدية. وكان يكفي لأي فنان أن يعرض في غاليريهات معيّنة كي يرتفع سعر لوحته أضعافاً. فصالة عرض من هذا النوع تنتهج سياسة فنيّة صارمة، ويكون وراءها نقاد كبار يحددون من يعرض ويكتبون عنه. أين نحن من هذا؟
ماجت القاهرة في الثلاثينات والأربعينات بجمعيات فنية بارزة، لكنك لم تنخرط في أي منها...
- لم يكن بوسعي الانضمام إلى أي من تلك الجمعيات، لأن أعضاءها كانوا جميعاً من أصحاب الفن الاكاديمي. هناك جماعة فنية واحدة استقطبت اهتمامي وتفاعلت معها، إنّها جماعة "الفن والحرية" التي أسسها رمسيس يونان وآخرون العام 1939. رمسيس يونان وحده كان ثائراً، وأنا في صفه الى الأبد. لكن الجمعيات لم تكن تشغلني بشكل عام، مع أنني منذ 16 سنة رئيس "جمعية محبي الفنون الجميلة" تأسست العام 1924.
هل كنت فناناً ملتزماً في الخمسينات والستينات؟
- لا أعرف ماذا تقصد ب "فنّان ملتزم". لي لوحات عن السد العالي ورسمت عبد الناصر، كما رسمت السادات في لوحة مهمة عن نصر تشرين الأول أكتوبر، وأظن أنها لدى أنيس منصور. لكنني لم أرسم حرباً أبداً، فأنا لا أحب الحرب. وأتمنى أن يتآخى العالم كله، ويعوض الحروب السابقة بالسلام والتآخي بدلاً من العنف والتعصّب والتدمير. تجار السلاح هم الذين يشعلون الحروب، ويساعدهم الزعماء الكبار الباحثون عن تأكيد تسلّطهم على العالم.
هل اقتربت من السياسة في أي من العهود التي عايشتها، سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها؟
- لا... أنا بعيد جداً عن السياسة منذ كنت شاباً صغيراً. ثم أنني رفضت منصب وزير الثقافة مرتين : الأولى في عهد جمال عبد الناصر، وقد هربت حينذاك الى الاسكندرية شهراً كاملاً. والثانية في عهد الرئيس مبارك، قبل الوزير فاروق حسني الذي أكن له كلّ تقدير، واحترم فنّه، وأشيد بالخدمات التي قدّمها للثقافة في مصر. أرى أن السياسة لا لزوم لها بالنسبة إلى الفنان. وحين ينشغل الفنان بشيء غير الفن، يضيّع نفسه.
الفن أرقى من السياسة
لكنك توليت مناصب عدّة، إذ كنت مثلاً مدير متحف الفن الحديث 1953، ومدير مكتب وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة 1959، ومدير عام الإدارة العامة للفنون الجميلة 1961، ومدير دار الاوبرا المصرية 1962...
- كانت مجرد وظائف. أنا اقدر الدكتور ثروت عكاشة جداً، وأتذكر أنه وجدني مرة في مكتبي خارج مواعيد العمل الرسمية فقال لي: كيف تضيع وقتك معنا الى هذا الحد؟ لو كنت في مرسمك الآن لخرجت لنا بلوحة أو اثنتين. هو الذي اختارني مديراً لمكتبه، أما في الاوبرا فكنت أحيل كل الأعمال الإدارية الى مساعدي، وخصصت لنفسي أحد المخازن وحولته مرسماً للعمل خلال النهار.
نجيب محفوظ كان موظفاً أيضاً، ولكنه كان ملتزماً حتى خروجه على المعاش... ألم تكن مثله؟
- لا، طبيعة الأدب مختلفة عن الفن التشكيلي. فأنا لم أرتبط بالوظيفة أو السياسة مثله. هل يمكن أن يذهب شخص الى بيتهوفن ويعرض عليه منصب رئيس وزراء مثلاً؟ الفن رسالة كبيرة وأرقى من السياسة بدرجات. تركت الأوبرا العام 1966 الى "الأهرام" حيث عملت مستشاراً فنياً، وما زلت في هذا المنصب إلى الآن. حبي للموسيقى جعلني أطيل البقاء في الاوبرا نسبياً. بعد الأمسيات التي كانت تحييها فرق عالمية، كنت أعود الى الاستوديو الخاص لأرسم من دون أن أخلع البدلة. لقد لطخت بدلاتي بالألوان، لأنني أنسى نفسي أثناء الرسم.
ما الذي أخذك إلى "الأهرام"؟
- جاءني العرض من الاستاذ محمد حسنين هيكل، فوافقت فوراً. هكذا طلقت الوظائف الحكومية الى الأبد، وأنا غير نادم على ذلك.، لأنني انعتقت وتفرغت للفن.
ما هي علاقتك بالشخصيات التي رسمت لها بورتريهات؟
- رسمت ما لا يقل عن ألف بورتريه في حياتي، ربعها على الأقل لشخصيات مشهورة في هذا القرن. لكنني لا ألبي طلب كلّ من يريدني أن أرسمه، فلا بد من التفاعل مع الشخص على أكثر من صعيد، ولا بد من أن يقنعني.
رفضت أن ترسم أحد المشاهير؟
- الموسيقار محمد عبد الوهاب مثلاً. على الرغم من حبّي له واحترامي لفنّه، لم أجده مقنعاً بما فيه الكفاية كي أرسمه.
صادفتني شخصيات عجيبة في حياتي. رسمت العقاد ثلاث مرات: الأولى كانت العام 1930، ثم العام 1936 بعد خروجه من السجن بتهمة الطعن في الذات الملكية، وكانت الأخيرة العام 1942، كان الأب الروحي لي، وهو شخصية نادرة.
ورسمت جمال عبد الناصر. أخذوني مرة وأجلسوني في الصف الأول في مؤتمر حاشد سيخطب فيه، وعملت دراسة لوجهه، ثم أعطوني صورة فوتوغرافية، ورسمته. وهذه الصورة في مجلس الشعب الآن. ورسمت السادات الذي جلس أمامي في بيته لساعات طويلة، ورسمت جيهان السادات التي كانت تأتيني إلى مرسمي. ورسمت توفيق الحكيم ثلاث مرات. لكن الفرصة لم تسنح لي بعد أن أرسم نجيب محفوظ، على الرغم من أننا في حجرتين متجاورتين في الطابق السادس في مبنى "الأهرام". كما لم أرسم فاتن حمامة.
وأم كلثوم؟
- رسمت أم كلثوم مرتين، في العام 1953، وفي العام 1969. قصدت منزلها في المرّة الأولى، وجاءتني هي في الثانية. عندما اقتربت منها وجدتها إنسانة خفيفة الروح. ولا أدري أين اللوحتان اليوم. أظن أن إحداهما عند أقاربها... وآخر المشاهير الذين رسمتهم ابراهيم نافع وأسامة الباز.
ما هي الشخصية التي رسمتها وتركت لديك انطباعاً خاصاً، يجعلك تتذكّرها حتّى الآن؟
- زوجة تيتو رئيس يوغوسلافيا السابق رسمتها في الستينات. عندما جاءت الى مصر اتصل بي نائب رئيس الجمهورية حسين الشافعي، وقال لي إن الرئيس عبد الناصر يريدني أن أرسم بورتريه لزوجة تيتو، فرسمتها في بيت حسين الشافعي. إنّها أعجب شخصية رسمتها في حياتي، سيدة رقيقة ولطيفة وتنضح بالأنوثة، ولكن شكلها عبارة عن بطلة مصارعة مفترسة،.كانت هذه السيدة مجندة في الجيش، وحاربت مع تيتو وأحبها وتزوجها. لقد جمعتُ بين قوتها ورقتها في صورة واحدة. نجحتُ في تحقيق البورتريه، لكنه استغرق وقتاً طويلاً... وسمعت بعد ذلك بفترة قصيرة أن تيتو ألقى القبض عليها لأنها كانت تخطط للإنقضاض على الحكم. هؤلاء المشاهير الأقوياء يتحولون وهم يجلسون أمامي الى بشر غاية في الجمال، واكتشفت لدى بعضهم خفة دم نادرة.
هل رسمت صلاح طاهر؟
- رسمت نفسي مراراً، لكنني لا أملك أيّاً من تلك البورتريهات. أعرف مكان واحدة منها لكن مقتنيها رفض بيعها، مع أن أبني المصور أيمن طاهر عرض عليه أي ثمن يريده.
كيف تتعامل مع التصميم المعماري لمدينة مزدحمة مثل القاهرة؟
- القاهرة تصيبني بالاكتئاب. وهذه ليست مبالغة، فإذا خرجت أعود الى منزلي في حالة مزاجية غير سليمة. الشوارع أصبحت محزنة، والزحام ضيع انسانيتنا وامتهن آدميتنا. عندما كنت تلميذاً في الثانوية، كان تعداد القطر المصري كله 14 مليوناً، الآن القاهرة وحدها أكثر من 14 مليون نسمة. أنا ولدت في العباسية، وحين يصدف أن أمر بها اليوم، لا أصدق نفسي. أشاهد عوالم أخرى لا تمت لي بصلة، في ظل زيادة السكان تزداد الارتجالية في بناء المساكن. القاهرة تحتاج لفنانين يشاركون المهندسين المعماريين في تخطيطها، أرى محاولات لحل المشكلة لكنها غير ناجحة مع الأسف.
ما زلت ترسم؟
- يومياً. وهذه نعمة من نعم الله، وأضع أمامي لافتة مكتوب عليها بالانكليزية "عدم الشغل هو أصعب شغل". مارست الملاكمة أربع سنوات في شبابي كما تعرف، كما مارست اليوغا منذ العام 1950. لقد ارتبكت مذ تركتها قبل أربع سنوات، وأحاول العودة إليها تدريجاً، وذلك بمساعدة طبيب من أصدقائي. ويبقى الرسم هو المتعة والعزاء وأغنى رياضة روحية ممكنة.
- رفضت وزارة الثقافة مرتين
- حين ينشغل الفنان بالسياسة يضيع نفسه
- الصنعة المتقنة من دون ابداع، تعطي فناً بارداً من دون قيمة، يعجب المغفلين ويرضي أصحاب الثقافة المحدودة
- المشاهير الأقوياء تحوّلوا أمامي الى بشر غاية في الجمال، واكتشفت لديهم خفة دم نادرة
- في التاسعة عشرة رسمت بورتريه لمحمود عباس العقاد لكنّني وجدت صعوبة في رسم محمد عبد الوهاب
مالك لوحة "الأعجوبة": لن أفرّط بها
رجل الأعمال السكندري ياسر سيف الذي يملك لوحة "الأعجوبة" شرح ل "الوسط" علاقته بفنّ صلاح طاهر: "اشتريت هذه اللوحة العام 1994، ضمن خمسة أعمال أخرى في أحد معارض صلاح طاهر الذي كان استاذاً لوالدي في مادة الرسم في مدرسة العباسية الثانوية. وعلى رغم تقديري لفن صلاح طاهر، فقد فوجئت بموقع على الأنترنت يتحدث عن لوحة "الأعجوبة" وأهميتها ومكانة الفنان. بعد هذا النشر في موقع حكومي اميركي بدأت محاولات من المهتمين بالأعمال الفنية من مصر والعالم العربي لشراء اللوحة. عرض عليّ بدءآً مبلغ مليون و300 ألف جنيه، ووصل ثمن اللوحة أخيراً إلى 3 ملايين دولار. ولكنني لن أفرط فيها أبداً، فأنا عاشق للفن التشكيلي عموماً، ولصلاح طاهر خصوصاً، إذ أملك ستين لوحة من أعماله. كما أنني شكلت مع عدد من الأصدقاء جمعية لمحبي فن صلاح طاهر، تهدف الى نشر الفن التشكيلي والوعي الفني وتشجيع صغار الفنانين والمواهب الواعدة ورعاية المتميزين منهم... وخصصنا جائزة سنوية باسم الفنان صلاح طاهر، ونتولّى تسويق الأعمال الفنية المصرية داخل البلاد وخارجها، والحفاظ على تراث صلاح طاهر. فهو فنان كبير وأعتبر أن أعماله تضاهي أعمال معلّمين كبار في الفنّ العالمي المعاصر".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.