احتفل العالم الاسلامي هذا العام بذكرى الهجرة النبوية الشريفة في ظروف قاسية أقل ما يقال فيها انها مأساة متكاملة العناصر، ففي أنحاء متفرقة منه حروب داخلية عاصفة أكلت الأخضر واليابس ولم تدع فرصة لالتقاط الأنفاس، وساهمت في تراجع بعض مواقعه المتقدمة، بينما تعيش مناطق أخرى منه هجمة خارجية تدمر في طريقها كل أثر للحياة، يساهم في أوارها ضعف العالم الاسلامي وافتقاد المنظمات الدولية لآلية فاعلة تستطيع إيقاف التدهور، ولعل كوسوفو أقرب الأمثلة إلينا، بعدما سبقتها قضايا مشابهة ابتداء من قضية فلسطين وكشمير والفيليبين، مروراً بجنوب السودان والبوسنة والهرسك وكارباخ. وعالم اليوم متداخل المصالح الى حد التأثر المرهف بكل ما يقع على الساحة الدولية، فقد تقاربت الأقاليم المتباعدة بسبب وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة، وما يجري في بقعة ما من العالم يؤثر في بقية البقاع اما سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً. لم يعد أحد منا في منأى عن التأثر والتأثير، كما كان الحال قبل عقود معدودات، ولم يعد أحد قادراً على الاعتزال مهما حاول، فالدنيا في حجر كل منا، شاء أم أبى، رضي أم كره، وبالتالي فإن الأحداث "الداخلية" لم تعد كذلك، وبات كل حدث "عالمياً" بحكم الواقع الذي نتكلم عنه. ألم نر أن مشكلة مغنية صاعدة، أو متدربة متطوعة، أو حادث سيارة في منطقة ما من العالم، تصبح مشكلة عالمية تشغل الرأي العام بسبب تبني الاعلام لها، مخطئاً كان أم مصيباً، وقد تترتب عليها مآسٍ فردية وجماعية، فكم من إشكال قام هنا أو هناك بسبب التهور والنفوس المشحونة المنتظرة على فوهة بركان يشعل نارها المدمرة عود ثقاب عابث بيد عابثة؟ وينتقل الخبر انتقال النار في الهشيم فينتقم مَنْ هنا لحدث وقع هناك يفصل بينه وبين أهله بحار وقارات؟ وكما كان متوقعاً، تناول خطباء الذكرى الوجه المأسوي لواقع عالم اليوم، وتطرق آخرون الى ما وقع في الهجرة من أحداث، ونصح البعض بترك الاحتفالات جملة وتفصيلاً باعتبارها بدعة في الدين لم ينزل الله فيها من سلطان، بينما تمسك آخرون، وبالغوا في مظاهر الاحتفاء، ربما لعلة التعويض عن الواقع باللجوء الى الماضي، فالماضي يحافظ في الوعي العربي المعاصر على نضرة ألوانه، بخلاف الواقع الذي لا يرى فيه سوى سجل مزدحم بالهزائم والتراجعات والتبعية، مع ما في هذه الصورة السوداء من مبالغة. ولكن المسألة الأهم في الهجرة، وهي موقع الانسان في الاسلام نفسه، لم يتطرق اليها جل الخطباء الأفاضل، ونعني بالانسان هذا المخلوق المكرّم بغض النظر عن المواصفات الأخرى الدخيلة عليه، كالعِرق واللغة واللون والمستوى الاجتماعي والمالي. لقد كانت الهجرة في بعدها الأول تحقيقاً ميدانياً وممارسة واقعية للحرية، حرية العقيدة وحرية الاختيار، ففي المجتمع المكي الجاهلي لم تكن حرية الاختيار مسألة مطروحة فيما يعنى بالواقع المكي لا من الناحية الفكرية ولا الاجتماعية على رغم احتكاك المكيين من خلال التجارة بالأمم المحيطة بهم، وبينها أمم تتحكم بالقرار الاقليمي والدولي - ضمن امكانات تلك المرحلة التاريخية - وهي أمم ذات حضارة راقية متمكنة، كالفرس والروم والحبشة، ومن تمرد من المكيين على الواقع السائد كان عليه الاعتزال أو الانكفاء على نفسه محتفظاً بآرائه لا يجهر بها - اللهم إلا تلميحاً - وبضعة أفراد من الأحناف يؤكدون هذا الذي ذهبنا إليه، منهم ورقة بن نوفل، أحد أبناء عمومة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. بل إن السياسة العامة المتبعة في قريش، بما في ذلك توزيع المهمات المتعلقة بالتجارة والرفادة والسقاية، كانت أموراً ثابتة، لا يسمح المسّ بها إلا بالقدر الذي لا يؤثر في السياق العام للحياة المكية اليومية، فهناك وظائف محددة لقبائل محددة ضمن شروط معروفة مسبقاً تم التفاهم عليها، ولها في نظر المكيين قدسية تحفظ لهم أمنهم الداخلي وهيبتهم بين العرب الذين يقدسون البيت الحرام فيها، ويمكن القول بأن "الاجتهاد" والتغيير في أنماط الحياة وفي المفاهيم السائدة، بل الى حد بعيد في الوسائل والآليات، كانا بعيدين كل البعد عن مجالس المكيين، فهناك دار الندوة، ولأهلها وحدهم الحل والعقد والأمر والنهي، في صورة بدائية من صور الشورى التي لم تصل الى مستوى المؤسسة، وهؤلاء تفرضهم أسرهم المتنفذة، وعلى العامة السمع والطاعة، أما العبيد فسقط متاع لا رأي لهم، وليس على مالكي رقابهم أي حرج من استخدامهم بالطريقة التي تروق لهم، والقتل والجلد واستخدام العنف في التأديب قاموس يومي لا يجرؤ أحد على تغييره أو الاعتراض عليه، وفيما كانت المرأة المكية محترمة تأخذ مكانتها من مكانة أسرتها وقد تتدخل في شؤون الرجال من خلال زوجها أو ولدها أو تجارتها كانت المرأة الأمة تعيش حياة بؤس وتستخدم كما يحلو لسادتها ومالكي رقبتها، ولطالما دُفعت الى البغاء ترفيهاً عن السادة الكبار، ونوعاً من أنواع التسلية للوافدين بتجارة أو حج، وعرفت مكة "الرايات الحمر" دليلاً على بيوت الدعارة التي تنتهك فيها كرامة الأمة الآدمية في مقابل الدرهم والدينار. كانت مكة مغلقة في وجه التغيير، حريصة على استمرار الموروث كما هو، لأنه - بزعمهم - يوفر الطعام من جوع والأمن من خوف، ولأنه يحافظ على هذه المعادلة المعقدة من التوازن بين أسرها، كان النفوذ المالي متحكماً بالمجتمع المكي، وكانت الكهانة تبعاً له، فالحرم وما حوله تحول الى نوع من سوق المال والأعمال، وحلقات متكاملة من الصناعة والتجارة تقوم حول أصنام العرب في البيت العتيق، وتعطيل التفكير الفردي جزء مهم في الحفاظ على الأوضاع بشكلها السائد، فالتفكير سيفتح أبواباً مقلقة لطالما حرص القرشيون على اغلاقها، لم يكن أمام الأفكار المستبصرة سوى الأسوار والحواجز والصمت المطبق، كانت جدران مكة محصنة يصعب اختراقها. ولذلك لم يقبل المجتمع المكي من المسلمين أن ينصرفوا الى دينهم من دون عوائق، لأن المجتمع المكي لم يعتبر الدين شأناً شخصياً، ولم يستطع استيعاب "لكم دينكم ولي ديني" فهو يريد الفرد على صورة من سبق "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" الزخرف 23، ليس للانسان الفرد وجود في مكة، الوجود الوحيد المعترف به هو وجود القبيلة، والعشيرة، والأسرة، ولذلك كان الخطاب المكي الرافض يتحدث عن "بني هاشم" ولا يتحدث عن محمد ص، وكان يرى التوازن مهدداً بظهور نبي من بني هاشم، فمن أين يأتي الآخرون بأنبياء؟ عندهم تجار بارزون، وفرسان يشار إليهم بالبنان، ومفاوضون من الطراز الأول، وشعراء مفوّهون مبدعون، كل هذه الميادين مقدور عليها والتنافس فيها لا يؤثر على التوازن العشائري، ولكن النبوة أمر مختلف، أمر يستحيل تحقيقه، ومكة لا تريد لبني هاشم أن يتفردوا فيها بأمر يزلزل توازناتها ويهدد - فيما يظهر لهم - تجارتها ومكانتها بين العرب. قد تعاملت مكة مع المسلمين وهم أفراد من مختلف شرائحها وأسرها ككتلة واحدة يرأسها بنو هاشم، وكان الضغط على الأسرة الهاشمية لتقف هي نفسها في وجه النبي ص والجماعة المسلمة الأولى يتسق مع سياسة مكة في الغائها للشخصية الفردية والتعامل فقط مع القبيلة، كانت سياسة الملأ من قريش أن يمسك الهاشميون بزمام ابنهم النبي ص ومن التحق به من الأسر الأخرى وعبيد وأحابيش قريش، وهل من برهان أوضح من حصار هؤلاء جميعاً في شعب أبي طالب لا يبيعون لهم ولا يبتاعون منهم، ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يكلمونهم ولا يستمعون اليهم، وجلهم لا يعتنق الاسلام، كان حصاراً شديداً وامتحاناً قاسياً بسبب عدم إقرار مكة للفرد بحرية الاختيار. بينما كانت الرؤية الاسلامية على نقيض ذلك، تؤمن بالمسؤولية الفردية، وبالتالي تجعل حرية الاختيار معياراً وحيداً لانتماء الفرد ومحاسبته في الدنيا والآخرة، ولا ترى التوارث في العقيدة والفكر، ولا تقبل الانتماء القسري الذي تفرضه الأعراف أو القوانين "وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى" النجم 39، "وألا تزر وازرة وزر أخرى" الأنعام 164، "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" رواه مسلم، وبنو هاشم كغيرهم من المسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا يميزهم شيء عن الناس ولا عن المسلمين اللهم إلا في أحكام تملي عليهم مراقبة أنفسهم وتصرفاتهم احتراماً لنسبهم من رسول الله ص وفي الحديث الشريف: "يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً" رواه البخاري ومسلم. ولان فرط أحد من بني هاشم في جنب الله أو أخطأ في حق دعوته فهو ليس في معزل عن اللوم والتأنيب، ولقد نزل في عم رسول الله ص أبي لهب وامرأته "حمالة الحطب" المسد 4 سورة من القرآن يتلوها المسلمون في صلواتهم الى يوم القيامة تؤكد الصورة المغايرة لما كانت عليه الجاهلية من تقديم النسب وتقديس القربى على حساب الحق، كما تؤكد سواسية الناس أمام التشريع الإلهي. لقد شهدت مسيرة الهجرة النبوية عدداً من المعجزات الدالة على حفظ الله ورعايته لنبيه ص، ولكن ما حققته الهجرة في عالم الواقع للانسان من تقرير حق التفكير وحرية الاختيار وعدم الإكراه والتنوع في المجتمع الواحد والتحالف السياسي الذي يعزز مفهوم المواطنة بالرغم من اختلاف الدين والعرق واللغة، أمر يستحق الوقوف عنده وقراءته قراءة واعية تستهدف تعديل واقعنا وتصحيح كثير من مفاهيمنا بعدما طغت التقاليد والأعراف وركام سنوات التخلف والجهل على حقائق الاسلام وقواعده. كان العهد الذي وقعه النبي ص مع أهل المدينة واضحاً غاية الوضوح في احترام الاسلام للانسان بعيداً عن كل عصبية تدعو الى نبذ الآخر وعزله وتصفيته لمخالفته دين السلطة أو اختياره طريقاً آخر غير طريق الأكثرية، ففي عين الواقع ألغت "صحيفة المدينة" مفهوم "الأقليات" وجعلت كل الأفراد في المجتمع مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، كما نصت على واجبات الدولة وحقوقها، وأقامت توازناً سبق ما وصلت اليه الأممالمتحدة اليوم من حيث التطبيق وعدم الاكتفاء بالتنظير والتقعيد دون الممارسة والتنفيذ. وبعض السياسيين المغامرين أو الطموحين يعارضون الظلم في فترة نضالهم ويطالبون مجتمعاتهم بحقوقهم فإذا ما قفزوا الى السلطة أداروا ظهورهم لكل المطالب، وتجاهلوا كل الشعارات التي رفعوها، وتنكروا لأقرب المقربين اليهم حفاظاً على مواقعهم الجديدة، غير أن النموذج الذي رأيناه في المدينة بعد الهجرة كان نموذج البر بكل الشعارات المرفوعة في فترة الاستضعاف، فالنبي ص لم يدر ظهره لشعار العدالة الذي رفعه ولا لشعار حرية الاختيار الذي حث المكيين والقبائل المحيطة بهم على العمل به، كانت الهجرة - بهذا المعنى - مفصلاً تاريخياً بين الظلم والعدالة، وحولت المدينة في كنف العهد الجديد الى موئل لكل مستضعف ولو لم يكن مسلماً، بل ان العهد المذكور أمن أهل الشرك على أصنامهم، وترك الفرصة لهم ليخبروا الاسلام عن كثب وليعتنقوه عن رضا وليتخلوا عن عقائد الجاهلية عن قناعة، ففي رأس قواعد الاسلام: "لا إكراه في الدين" البقرة 256 وهي قاعدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بممهدات تعترف للانسان بقدراته وقابلياته وحرية اختياره. كان على المحتفلين بالذكرى أن يركزوا نقطة الضوء على الأسس التي جعلت من المسلمين أمة تبني حضارة جاذبة لقرون طويلة قبل أن تنكفئ على نفسها ويتحول الجدل في أروقتها الى جدل بيزنطي يعلو فيها صراخ المنظرين وروما من حولهم تحترق