هل أصبحت الدولرة في لبنان مطلباً اقتصادياً ومالياً، يجاهر به كبار المسؤولين، بعدما كانت منذ اواسط الثمانينات، احد مظاهر الانهيار الذي ضرب الاقتصاد الوطني وتالياً، هل تخلت الحكومة اللبنانية عن هدفها المعلن باستمرار، اعادة الاعتبار الى الليرة؟ الاشارات لا توحي، اقله في الوقت الحاضر، ان مكافحة الدولرة، من الاهداف الرئيسية للسياسة المالية والنقدية المعتمدة حتى الآن. والاصح ان هذه الظاهرة التي سعت غالبية الحكومات السابقة منذ اواسط الثمانينات، الى مكافحتها تحت شعار التشبث بالعملة الوطنية، ربما اصبحت الحل لأكثر المشاكل المعقدة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وفق قناعات كبار المسؤولين وصانعي القرار المالي في بيروت. وبالفعل تتجه حكومة الرئيس سليم الحص الى اطلاق اصدار جديد من سندات الخزينة بالقطع الاجنبي، قد يتصل قيمته الى حوالي ملياري دولار. وأنجزت وزارة المال المشروع الذي يحتاج الى موافقة مجلس النواب، تمهيداً للانتقال الى مرحلة التنفيذ التي يعتقد انها ستبدأ اعتباراً من اواسط هذا العام. ويدرج الرئيس الحص الاصدار الجديد في اطار ما يعتبره خطة اعادة هيكلة الدين العام، التي كانت حكومة الرئيس رفيق الحريري باشرت اعتمادها، وحصدت ملياري دولار، اقترضتها بيروت من الاسواق المالية الدولية، في خلال العامين الماضيين، واعتبرت النتائج التي حققتها نجاحاً مالياً للبنان، وتأكيداً للثقة التي ما زال يحظى بها من قبل الاسواق العالمية، على رغم الازمات الكبيرة التي تعرضت لها، وساهمت فيه زيادة القلق من التوظيف في الاسواق الناشئة. وتشتمل خطة اعادة هيكلة الدين العام الذي تصل ارقامه حتى الآن الى حوالي 19 مليار دولار، ويتركز في غالبيته المطلقة بالليرة، من خلال سندات الخزينة الاسبوعية التي تصدرها وزارة المال في الاسواق المحلية، على زيادة حصة الدين بالعملات الاخرى الى ما يمكن ان يصل الى حوالي 35 - 40 في المئة، في مقابل الابقاء على نسبة الدين العام بالليرة، عند مستوى 60 - 65 في المئة. ويبدو، استناداً الى مواقف كبار المسؤولين الماليين، ان الهدف الاساسي لخطة اعادة هيكلة الدين العام، يتمثل في حاجة الخزينة العامة للدولة الى تقليص اعباء خدمة الدين العام التي تحولت في السنوات الثلاث الاخيرة، الى عبء قياسي على الموازنة العامة. ويعتبر بند خدمة الدين العام في الموازنة احد البنود التي تستنزف الجزء الاهم من النفقات، بما يصل الى 5.46 في المئة، هذا العام، بواقع 4 آلاف مليار ليرة من اجمالي النفقات البالغة 8600 مليار، في مقابل 11 في المئة تقريباً للنفقات ذات الطابع الاستثماري. ومع ان الايرادات الفعلية للعام الحالي تبلغ 4990 مليار ليرة، الا ان اعباء خدمة الدين العام ستستمر في استهلاك الجزء الاهم منها، وبما يصل تقريباً الى 77 في المئة، بمعنى ان معظم ما يدفعه اللبنانيون من رسوم وضرائب سيذهب لسداد خدمة الدين، فيما تستمر ازمة تمويل النفقات الاخرى، وفي ابرزها تمويل الرواتب والنفقات الاستثمارية، الى الاعتمادات ذات الطابع الاجتماعي، مثل الصحة والتعليم وغيرها. واذا ما انجزت الحكومة تطبيق خطة اعادة هيكلة الدين العام، فإن التقديرات تشير الى انه سيكون بإمكانها تقليص اعباء الدين بنسبة يمكن ان تتراوح ما بين 30 و35 في المئة. وقد ترتفع هذه النسبة الى حوالي 40 في المئة، اذا ما استمر السعي لخفض اسعار الفوائد على سندات الخزينة بالليرة بواقع نقطتين او ثلاث نقاط عما هي عليه حالياً. ومن وجهة نظر مالية، فإن الوفر الذي تأمل الحكومة بتحقيقه، يعود الى التفاوت الحاصل، بين اسعار الفوائد على سندات الخزينة بالليرة التي تستقر في متوسطها العام عند مستوى 14 في المئة، وبين متوسط اسعار الفوائد على الدولار، والعملات الاخرى، عند مستوى 8 - 5.8 في المئة. وفي هذا السياق فإن ثمة جانباً آخر للموضوع، يتمثل في فترات استحقاق سندات الخزينة بالقطع الاجنبي، وهي فترات متوسطة وطويلة، في مقابل الاستحقاقات القصيرة الاجل للسندات بالليرة التي لا تزيد في حدها الاقصى عن سنتين، بعدما تأخر اطلاق السندات من فئة 3 سنوات، والتي كان مصرف لبنان باشر التحضير لإصدارها منذ اكثر من سنة. ومع ذلك فإن تقليص اعباء خدمة الدين العام، من خلال خطة اعادة الهيكلة وعلى اهميته القصوى، لا يبدو انه الهدف الوحيد الذي تسعى اليه الحكومة، من خلال زيادة الاتكال على الدولار، او الاصح، من خلال تقليص التعامل بالليرة. وهناك اعتقاد متزايد بأن التوسع في استخدام الليرة سيساهم في الحد من فرص توفير التمويل اللازم للاقتصاد الوطني. وفي هذا السياق يرى حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، ان حرية اختيار عملة التداول والادخار باتت من مميزات القرن العشرين، كما ان التشبث باستخدام العملة الوطنية بات مصدر حرمان للاقتصاد من فرص تمويله. وتشير الاجراءات التي اعتمدها مصرف لبنان حتى الآن، الى انه يتجه اكثر فأكثر الى التعايش مع ظاهرة "الدولرة"، من خلال التوسع في اعطاء المصارف حرية اهم في استخدام مواردها المالية، ومن خلال احتضانه لغرفة مقاصة الشيكات بالدولار، من دون ان تؤدي هذه الاجراءات الى الحد من استخدام الليرة. ويقدر حجم القروض التي منحتها المصارف للقطاع الخاص حتى نهاية العام 1998، بحوالي 11 مليار دولار، 88 في المئة بالقطع الاجنبي، في مقابل 12 في المئة فقط بالليرة اللبنانية. ومن الاسباب التي تدفع الغالبية المطلقة من عملاء المؤسسات المصرفية الى اعتماد الدولار، ارتفاع الفوائد على القروض بالعملة الوطنية التي تتراوح بين 17 و24 في المئة، في مقابل 10 - 14 في المئة للتسهيلات بالدولار والعملات الاخرى. وتتمثل المشكلة الاساسية التي تواجهها المصارف اللبنانية، في التفاوت الواسع بين تركيبة الودائع لديها، وبين احتياجات السوق، اذ تصل نسبة "الدولرة" في الودائع حالياً الى 67 في المئة تقريباً، فيما لا تزيد التسهيلات بالعملة الوطنية عن 12 في المئة، باستثناء الاموال التي تذهب لتمويل اصدارات الخزينة العامة للدولة. وتمنع القوانين اللبنانية على المصارف تغيير بنية الودائع لديها، تجنباً لمخاطر تعرض هذه المصارف للخسائر التي يمكن ان تنتج عن تقلبات سوق القطع. ومن الاجراءات التي اقرها المصرف المركزي وساهمت حتى الآن في زيادة موارد المصارف بالدولار والعملات الاخرى، السماح للقطاع المصرفي اللبناني بالتوجه نحو الاسواق المالية العالمية، من خلال اصدارات سندات الدين لتحسين ملاءتها المالية، وزيادة قدراتها التمويلية، بما يؤدي الى تجاوز مشكلة الموارد المتاحة بالليرة، في مقابل القروض والتسهيلات المطلوبة بالقطع الاجنبي. هل يعني ذلك، ان الحكومة اللبنانية تنوي اعتماد الدولار، فعلياً؟ ثمة اجابة غير مباشرة لحاكم المصرف المركزي، للتمسك بالعملة الوطنية، والمحافظة على استقرارها لكن من دون ان يؤدي ذلك، الى عرقلة الخطط الرامية الى الافادة من الامكانات المتوافرة لتمويل الاقتصاد اللبناني، بكلفة مقبولة اقتصادياً، ومن دون ان يؤدي ذلك ايضاً، الى عرقلة جهود الحكومة لتقليص اعباء خدمة الدين العام، الى المستوى الذي يستطيع الاقتصاد الوطني تحمله، بعدما اصبحت هذه الاعباء، "علة العلل" كما يرى الرئيس الحص