السياحة تساهم ب %10 من الاقتصاد.. و%52 من الناتج المحلي «غير نفطي»    سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    هل ينهض طائر الفينيق    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثنائية في دوري أبطال آسيا 2    «الكوري» ظلم الهلال    «فار مكسور»    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    شخصنة المواقف    النوم المبكر مواجهة للأمراض    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا استقالة ولا اعتكاف للحص... ولا عودة للحريري . لبنان : قصة مئة يوم من عهد لحود
نشر في الحياة يوم 08 - 03 - 1999

في 3 آذار مارس الجاري انقضت 100 يوم من عهد رئيس الجمهورية اللبنانية العماد اميل لحود. مع ذلك واجهت أولى حكومات العهد برئاسة الرئيس سليم الحص متاعب ملفتة. بعضها نشأ من واقع المفاجأة التي اخرجت أولاً الرئيس رفيق الحريري وأوصلت هذه الحكومة، ومن قبلها رئيسها الى السلطة، وبعضها الآخر من النتائج التي ترتبت على هذا الوصول على نحو شطب توازناً سياسياً راعاه عهد الرئيس السابق الياس الهراوي ست سنوات على الأقل، في تركيبة الحكومات المتعاقبة خلال ولايته الطويلة 1989 - 1998.
لذا صح القول، مذ اعلن عن تأليف حكومة الحص في 4 كانون الأول ديسمبر الماضي، انها حكومة رئيس الجمهورية بالذات، وان لم يعد هو، بحكم الدستور المنبثق من اصلاحات اتفاق الطائف، رئيساً للسلطة التنفيذية: حكومة غاب عنها الحريري والأحزاب والقوى التي اطبقت على السلطة ما أن كرس وجودها كطبقة سياسية نافذة الدور السوري في لبنان موالية له بكليتها بعد الانتخابات النيابية عام 1992. لذا أسر رئيس الجمهورية بعيد الاعلان رسمياً إلى أحد المقربين اليه انها "حكومة الشعب والاوادم". وفي هذه العبارة المقتضبة والدالة ما فيها من اشارات الادانة للمرحلة السابقة.
والواقع، كان لحود يعرف انه وحده القادر على المجيء بحكومة تستبعد كل الفرقاء دفعة واحدة. وتأتي بخبراء وقضاة وحقوقيين مدركين لملفاتهم. وهو يعرف كذلك مقتل حكومته هذه، باستبعادها الوزراء - الثوابت، ثم تسميتها اثنين من هؤلاء هما ميشال المر وسليمان فرنجيه قيل في أوساط حكومية واسعة الاطلاع ان توزيره تغطية للمجيء بالمر لأسباب لم يكن في وسع لحود والحص تجاوزها، بل قيل كلام مماثل لهذا سمع تحديداً من لحود.
بعد 100 يوم من عهد لحود، بات في الامكان تأكيد بضع حقائق:
1- استمرار حكومة الحص الى ما بعد الانتخابات النيابية العامة المقرر اجراؤها العام 2000. فلا استقالة ولا اعتكاف ولا تعديل جزئياً ولا توسيع.
2- بقاء الحريري خارج السلطة حتى اشعار آخر. وسيتعين عليه تبعا لذلك خوض انتخابات نيابية قاسية الصيف المقبل. تعزز هذا الاعتقاد جملة قاطعة منسوبة الى رئيس الجمهورية مطلع هذه السنة، في ضوء ما نقل اليه عن رغبة الحريري في اعادة مد جسور التعاون بينهما، قالها لحود لمتصلين به: "لن يكون للحريري خبز في هذا العهد" وهي اشارة كافية لتلمس الموقف الجازم للحود من عودة محتملة للرئيس السابق الى السلطة.
3- العلاقة الوثيقة التي تجمع لحود برئيس البرلمان نبيه بري على نحو لا يخفي فيه رئيس الجمهورية أمام المتصلين به تعويله على دعم رئيس المجلس لحكومة الحص، وان أظهر بري تكراراً مآخذه على طريقة تعاطيها مع بعض الملفات الشائكة كالاصلاح الاداري. فبازاء اصرار بري على الفصل في الموقف بين لحود رئيس الدولة الذي يحظى بدعم كامل منه لعهده وبين الحكومة المسؤولة دستورياً أمام مجلس النواب، يقابله رئيس الجمهورية بموقف مماثل يضع فيه بري في مقدم حلفائه.
4- لا فتح لملفات العهد السابق، ولا ادانة لهما تبين حجم المخالفات التي حصلت فيه، خصوصا ازاء ما تردد ابان حملة الاصلاح الاداري أخيراً من امكان محاكمة عهد الرئيس الياس الهراوي. ثم جاءت في الأيام الماضية دعوة السلطات القضائية الوزير السابق للنفط شاهي برصوميان للتحقيق معه في اهدار مال عام، فضلا عن اتهامات مماثلة في الشهر الأول من عهد لحود عبر اثارة شبهات محددة حول وزير الدولة المكلف شؤون المال فؤاد السنيورة. كل ذلك بالتزامن مع الشعارات التي اطلقها العهد الجديد عن الشفافية والنزاهة والعقاب والمحاسبة والكشف عن أموال الدولة وأسرار أرقامها وعن الملفات السود، كما لو أن ذلك العهد برسم الملاحقة. على أن الواضح من مثل هذا الاحتمال ان لا محاكمة لعهد الهراوي. وان بدا لفترة، ثم أخذ بالتراجع، ميل الحكومة الى استعادة أموال عامة اهدرها وزراء سابقون. وقد تكون زيارة الدكتور بشار الأسد نجل الرئيس السوري للرئيس السابق للجمهورية في منزله في اليرزة في 3 شباط فبراير الماضي والغداء الى مائدته خير معبر عن رغبة دمشق في دعم صداقتها للهراوي واستمراره حليفاً لها.
إلا أنها أيضاً 100 يوم من صمت رئيس الجمهورية، ما خلا بضعة مواقف متفرقة، في مناسبات متباعدة يعلن عنها، سواء في جلسات مجلس الوزراء أو تلك التي تنسب اليه من زواره النواب خصوصاً. اما اسباب صمته بازاء الحملات القاسية التي تخوضها المعارضة ضد حكومة الحص، فيعزوها بعض المسؤولين في مناصب مهمة يشكلون فريق عمل لحود، الى أن الوقت لم يحن بعد لمخاطبته اللبنانيين حيال ما يحصل، فضلاً عن عاملين آخرين:
- أولهما ان الرئيس ليس طرفاً في المواجهة القائمة بين الحكومة والمعارضة، انطلاقاً من فهمه لاتفاق الطائف وحدود الصلاحيات التي أناطها به الدستور المنبثق من اصلاحات الطائف، اذ يجعله فوق كل السلطات لا شريكاً فيها. عدا ان مهمته المكملة لصلاحياته الدستورية هي الاستماع الى الموالاة والمعارضة، والاضطلاع بدور الحكم في ما يتصل بضمان التوازن بين المؤسسات الدستورية والفصل بينها وتعاونها. ومع ذلك لم يكن في وسعه التردد أخيراً بازاء تصاعد الحملة على الحكومة من اتخاذ موقف الدفاع عنها، من باب التمسك بفرض النظام العام ورفض المذهبية والخروج على الأصول الديموقراطية والبرلمانية في ممارسة لعبة الموالاة والمعارضة.
وثانيها اعتقاده بضرورة منح الحكومة الفرصة الكافية للعمل، وهي بعد لم تتم شهرها الثالث من ممارستها سلطاتها الدستورية منذ أول جلسة لمجلس الوزراء عقدت في 21 كانون الأول ديسمبر 1998.
كلام مماثل قاله لحود لقريبين منه في أول أيام عهده وثابر على تكراره غير مرة، ومفاده ان مهمة أولى حكومات عهده "العمل أولاً". كما انه يفضل "ترك الكلام للأفعال وحدها تعبر عما يجب ان يقال". على أن لحود لا يلبث ان يبدي امتعاضاً من الأسلوب المتبع في تصرف المعارضة مع حكومة الحص، ليقول تبعاً لذلك أمام بعض اعضاء فريق عمله: "ان حجم الضجة التي تفتعلها المعارضة حيال أداء الحكومة أكبر بكثير من أخطاء الحكومة". وهي اخطاء - يقول رئيس الجمهورية - انه سلّم بها وأبدى غير مرة، سواء في جلسات مجلس الوزراء أو أمام زواره، استعداده لتصويبها ثم التراجع عنها وفقاً للأصول، من غير أن يكون سوء التقدير في اقرارها شأن بعض التعيينات الادارية الأخيرة ناشئاً عن مخالفات قانونية. ولا هي ترافقت مع اهدار أموال وسرقات واختلاسات، ليستخلص من ذلك ان حمأة المعارضة على تلك الأخطاء، التي اعترف بها ايضاً رئيس الحكومة ترمي الى التعتيم على اجراءات أساسية قررها سابقاً مجلس الوزراء، بدءاً من أول جلسة عقدها، باصداره تعيينات أمنية قوبلت بارتياح والسماح بحرية التظاهر وتحرير وثائق سفر الفلسطينيين من الموافقة المسبقة واطلاق عمل اجهزة الرقابة الرسمية وتخصيص مقر لمجلس الوزراء يجتمع فيه طبقاً لاحكام الدستور في منأى عن القصر الجمهوري والسرايا الحكومية، فضلاً عن صناديق الشكاوى التي ساهمت الى حد بعيد في انتظام دورة عمل الادارة اللبنانية بتقييدها تفلت التجاوزات والرشاوى والفوضى وضبط الدوام عبر الاحتراز من دوريات التفتيش.
ان يلوذ بالصمت ويدع الحكومة تقوم بدورها، هذا الموقف يعتبره لحود سر قوته. وهو سر قوة حكومة مكمن ضعفها ان ليس في وسعها الدفاع عن نفسها.
سقف سميك
وفي الواقع يظل عهد لحود يستمد قوته من انتخابه هو بالذات، خلافاً لمعظم الرؤساء المتعاقبين قبله الذين اقترنت دوافع انتخابهم بظروف استثنائية واختلال في موازين قوى محلية أو خارجية اكثر منها بالمواصفات الشخصية. هذه القوة لم تكن تعوزها أدلة كثيرة كي تبين حجم الدعم الفريد المعطى لرئيس انتخبه في 15 تشرين الأول اكتوبر الماضي 118 نائباً لبنانياً. سرعان ما عززه تأييد سوري بلا حدود، لم يكن بدوره بعيداً في السنوات الثلاث الأخيرة عن التمسك باستمرار وجود لحود على رأس قيادة الجيش ومحضه ثقة مطلقة في اعادة بناء الجيش، ومن ثم اعتباره في استحقاق 1995 ومن بعده في استحقاق 1998 أول الخيارات السورية لرئاسة الجمهورية في لبنان وأفضلها، تماماً على غرار اعتباره عام 1995 الاجراء الملازم والضروري للتمديد للهراوي.
كذلك لم يعد سراً اظهار حجم هذا الدعم، المقترن ايضاً وايضاً بالعلاقة الوثيقة التي تجمع بين لحود ونجل الرئيس السوري صاحب هذا الخيار مذ أضحى الملف اللبناني في عهدته: في زيارتي الدكتور بشار الأسد بعيد انتخاب لحود ثم في 3 شباط الماضي، وقبل أسابيع في القمة اللبنانية - السورية الأولى بين رئيسي البلدين 12 شباط، بل في بضعة وقائع عملية متلاحقة ما بين انتخاب لحود واجتماعه الأول بالأسد، ثم بعد انعقاد القمة الثنائية، وشكلت هذه الوقائع رسالة إلى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري. اذ يجمع بينهما الى جانب حبل المعارضة الغليظ، ادراكهما الفعلي - من موقعيهما القويين في المعارضة وفي قيادة الشارع المذهبي وامتلاك الامكانات الضخمة وسطوة التأثير والاستقطاب لمدى سماكة السقف:
1- اذ ان الزعيم الدرزي لم ير بداً من زيارة لحود - وكان لا يزال رئيساً منتخباً بعد - في مقر اقامته في الحمام العسكري بناء على نصيحة رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان اللواء الركن غازي كنعان بغية التفاهم معه. ومع ان هذا اللقاء لم يسقط جدار التعارض بين الرجلين، إلا أن جنبلاط فهم تماماً مغزى النصيحة السورية له سواء لجهة محاورة رئيس الجمهورية، أو على الأقل أخذ العلم بحجم الدعم السوري الكبير للرئيس. وسرعان ما وجد جنبلاط نفسه في خضم التجربة مرة ثانية بحملة قاسية شنها عبر مجلة "المسيرة" الناطقة بلسان القوات اللبنانية المحظورة 20 شباط ضد لحود وعهده، وضد ما سماه "عسكرة" النظام، ليتراجع بعد أقل من 48 ساعة 21 شباط عن تهجمه على لحود بدعوى "سوء فهم" لكلامه "غير الشخصي"، وبقوله: "أنا لم أقصد الاساءة للحود". ويُقدِّم إثر لقاء بكنعان، اعتذاراً لرئيس الجمهورية، متزامناً مع رغبته في التزام الصمت، وتسليمه "قصر بيت الدين" 22 شباط الواقع تحت سلطته منذ عام 1983 الى الدولة اللبنانية، متخلياً بذلك عن أحد أبرز الرموز التي ارتبطت عسكرياً أو عبر "الادارة المدنية" ب "الامارة الجنبلاطية" في جبل لبنان الجنوبي الشوف وعاليه مذ انتهت "حرب الجبل" سنتذاك، بل ليقرن جنبلاط اعتذاره هذا برغبته في التزام الصمت فسحا في المجال أمام انطلاق العهد وأن من دون دور سياسي يقوم به.
اذ بدا واضحاً في هذه المواجهة التي قادها جنبلاط ضد رئيس الجمهورية، في خضم انقسام سياسي خطير شتت مرجعيات الطائفة الدرزية وقياداتها حيال الموقف من رئيس الجمهورية للمرة الأولى منذ وصول الرئيس الراحل بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية صيف 1982، ان ثمة سقفاً للمعارضة: ان تنأى بحملاتها عن موقع رئاسة الجمهورية وعن لحود خصوصاً. لكنها في المقابل لا تتخطى حدود الأصول الديموقراطية والبرلمانية بقصرها على لعبة الموالاة والمعارضة معارضة الحكومة أو موالاتها، وتحت سقف البرلمان وليس في الشارع.
كأن تعني مواجهة العهد بالنسبة الى جنبلاط أيضاً انخراطه في معركة مبكرة على قانون الانتخاب باصرار الزعيم الدرزي على طلب ضمانات كافية لخوض الانتخابات النيابية العامة السنة 2000، من دون خسائر في مواقع نفوذه في دائرتي الشوف وعاليه كان عهد الهراوي - ودمشق خصوصاً - قد وفراها له بوضع قانون اعتمد تقسيماً استثنائياً لمحافظة جبل لبنان فأتاح لجنبلاط في دورتي 1992 و1996 سيطرة كاملة تقريباً على جبل لبنان الجنوبي.
في حصيلة ذلك كله لم ينل جنبلاط من حكومة الحص ضماناً إزاء ما يطلبه من قانون الانتخاب، بل لم ير رئيس الجمهورية بداً من الاعلان أخيراً على لسان بعض زواره عن سعيه الى قانون انتخاب عادل ومتوازن تتساوى فيها المناطق اللبنانية كلها في تقسيم دوائرها الانتخابية، تبعاً لمعايير مشتركة. على ان القريبين من لحود لا يترددون من جهة أخرى في القول ان رئيس الجمهورية يجزم بوضع قانون انتخاب "لا استثناءات فيه لمصلحة أحد".
2- في موازاة معارضة جنبلاط، نشأت معارضة الحريري التي راعت بكثير من الدقة، لأسباب محلية كما لأسباب تتصل بمعرفة الحريري بالذات لحجم الدعم الذي ينطوي عليه موقف دمشق من لحود، مسار العلاقة بينه ورئيس الجمهورية، وبينه والحص، كما بينه والحكومة. في اقتضاب تلقى الحريري ضربة قاسية من لحود بقبوله المفاجئ - وخلافاً للتوقعات بل لتقديرات الحريري نفسه - اعتذاره 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998 عن رئاسة أولى حكومات عهده في مرحلة استعداده لمواصلة الاستمرار في الحكم منذ عام 1992 بلا انقطاع. ولعل مغزى تلك الضربة ان رئيس الجمهورية أراد فعلياً الاستفادة من سر قوة انتخابه وتأييد سورية له برفضه المسبق تعايشاً في الحكم بينه والحريري يجعل من حجميهما السياسي متكاملين أو على الأقل رفضه اعطاء الحريري من السلطة والنفوذ في الحكم والادارة ما منحه الهراوي على امتداد ست سنوات.
كان واضحاً منذ ما قبل اعتذار الحريري ان الرجلين - وان اظهرا في أكثر من مناسبة مجاملات مفتعلة لاطلاق تعاون مثمر بينهما - يقيم كل منهما على طرف نقيض من الآخر من جهة أولى، وليس في وسع أي منهما مكافأة الآخر بكل التنازلات الممكنة له من جهة أخرى، بذلك حل الحص مكان الحريري في رئاسة الحكومة، وحل الحريري مكان الحص رأس حربة في المعارضة البرلمانية.
تلويح بفتح ملفات
من هذين الموقعين المتعارضين والمتصادمين، باشر الحريري معارضته حكومة الحص باكراً من غير ان يطاول فيها رئيس الجمهورية، مثابراً في الوقت نفسه على الاشادة بمواصفاته، تالياً بدأ الحريري من حيث انتهى جنبلاط في توجيه خصومته الى الحص وحكومته بالذات بدءاً من الملف الأكثر دقة الاصلاح الاداري الذي أطاح في جلسة لمجلس الوزراء في 7 كانون الثاني/ يناير الماضي عدداً من كبار الموظفين في الادارة من الموالين للحريري 12 مديراً عاماً وستة رؤساء مجالس وأعضاء ادارات - جلهم موالون للرئيس السابق - بصرفهم أو بوضعهم في تصرف رئاسة مجلس الوزراء، بالتزامن مع التلويح بفتح ملفات قد أحاطتها اتهامات بالاهدار والاختلاس ومخالفة القوانين. ولم يكن في وسع الحريري الا خوض مواجهة حادة بإزاء هذه الحملة اذ وضع على رأسها الرئيس السابق لمجلس الخدمة المدنية والوزير الحالي للاصلاح الاداري حسن شلق يعلن للملأ ان الحريري منعه تكراراً في أثناء وجوده في مجلس الخدمة المدنية من منع مخالفات ارتكبها وزراء أو اداريون قريبون من الحريري وبعلم منه.
وفي الواقع في معرض تقويم مسؤولين في مناصب مهمة يشكلون فريق اميل لحود هذه المرحلة لا يترددون في القول ان رئيس الجمهورية لم يتحوط تماماً لحجم معارضة يمكن ان يقودها الحريري ضد حكومة الحص، بفعل امتلاكه امكانات ضخمة لا قبل للحكومة على المواجهة المتكافئة معها. ولا يترددون ايضاً في القول إن رئيس الجمهورية فوجئ بمقدار "سطوة" الحريري على وسائل اعلامية لتغليب موقفه من الاصلاح الاداري وابراز اخطاء خطة حكومة الحص بتعويله على اظهار حصول تقاسم حصص في تعيينات ادارية جديدة نال منها رئيس البرلمان حصة سواء بالتعيين أو بتجنيب الموظفين الموالين له الاعفاء الا من اسم واحد على الأقل. كذلك لا يكتم هؤلاء الأثر السلبي للبيان الذي أدلى به الحص 15 شباط/ فبراير ، إذ أجرى نقداً ذاتياً وجد فيه الحكومة ارتكبت "اخطاء" في بعض التعيينات من غير اقتران حصول هذا الخطأ بالاعفاءات التي طاولت الموظفين المؤيدين للحريري، ليقول الحص ان الحكومة "خسرت من رصيدها السياسي ... بعثرتين هما توقف الاعفاءات وبعض التعيينات غير الموفقة" فبدا من لهجة المخاطبة في بيان الحص توجيه اتهام غير مباشر الى بري لمسؤوليته عن عرقلة الخطة الحكومية في مواصلة الاعفاءات التي رشحت في حينه رئيس مجلس الجنوب قبلان قبلان لأسباب تتصل بدورها بإهدار كبير في صندوق هذا المجلس.
فاجأ بيان الحص رئيس الجمهورية الذي لم يخف ذلك الاحد انزعاجه من خطوة الحص، على أنه لم يتردد في الاتصال برئيس الحكومة مساء ويبلغ اليه تضامنه مع بيانه وتأييده الكامل للمثابرة على استكمال خطة الاصلاح الاداري. لا بل سُمع لحود يخاطب الحص بعبارة "القافلة تسير يا دولة الرئيس"، تعبيراً منه عن تشبثه برئيس حكومته وبرنامجه للاصلاح واستكمال خطته في ثلاثة أسابيع أخرى، وان يكن قد وجد في بيان الحص عامل اضعاف لها "لا مبرر له".
الواضح ان ما يسلّم به رئيس الجمهورية هو ان يظل سر قوة عهده لا سر قوة الحكومة، والا يكون تالياً على طريقة لعبة العروس الروسية، ثمة سر خلف سر، خلف سر، خلف سر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.