تدور في اسرائيل معركة انتخابية يطلق عليها بعض المراقبين "معركة الكل ضد نتانياهو"، فهي تجعله يتعرض الى نار اليسار والوسط واليمين، من خارج "ليكود" ومن داخله أيضاً، ومن النواب والوزراء، ومن الصحافة - خصوصاً - والمؤسسة العسكرية بكبار أركانها وضباطها، ومن حليف مثل ناتان شارانسكي، كما من خصوم مثل قادة الأقلية العربية كلهم. ولكن، بين هؤلاء جميعاً، يبرز اثنان يملكان حظوظاً، وان متفاوتة، في إلحاق الهزيمة به وتحويل هذا العداء الى نتيجة ملموسة: زعيم حزب "العمل" ايهود باراك، وقائد حزب "الوسط" الجديد: اسحق موردخاي. وتسمح طبيعة النظام الانتخابي في اسرائيل، في الدورة الأولى، بفرز الأصوات لصالح حزب من الاحزاب أو لإسم رئيس للحكومة. ولكن ما أن ترتسم، في هذه الدورة، صورة الكنيست المقبل حتى تدور، على الأرجح، مواجهة بين الإثنين الذين تقدما الآخرين للفوز برئاسة الحكومة. والمرجح، في ظل المعطيات الحالية، ان تكون الحكومة الاسرائيلية المقبلة اتحادية، وإذا صدقت استقصاءات الرأي فإنها ستكون حكومة يسار - وسط علماً ان اليسار الحالي أكثر وسطية، كما ان الوسط الراهن أكثر يمينية. يترقب الأميركيون وغيرهم هذه النتيجة ويراهنون عليها، فلقد عرقل لهم نتانياهو، طوال ثلاث سنوات، فرصة صياغة أوضاع المنطقة بأكثر الطرق ملاءمة لهم. ولا يقتصر ذلك على ملف التسوية بمساراتها المختلفة فحسب، وانما ما له علاقة بالأزمة العراقية وبالعلاقات مع دول شديدة الأهمية مثل مصر وغيرها. لم تكن سياسات نتانياهو ترضيهم لكن العلاقة الاستراتيجية بينهم وبين اسرائيل جعلتهم يغلبون جهد التأقلم معه الى حد بعيد. ولقد وفر ذلك أرضية لسياسات احتجاجية ضدهم وصلت ذروتها الرسمية الى مقاطعة اجتماعات الدوحة والى التمنع عن التأييد المطلق في المواجهات مع العراق، كما أنها ترجمت نفسها شعبياً في زيادة نفوذ تيارات الاعتراض، الجهادية منها خصوصاً، التي بات اسامة بن لادن رمزاً لها. وكانت الزيارة الأخيرة لبيل كلينتون الى المنطقة خير نموذج، اذ استقبله الفلسطينيون استقبال الأبطال، لكن نتانياهو أقدم على تجميد تنفيذ اتفاق واي ريفر، ثم وقع القصف على العراق، فخرجت التظاهرات في عواصم عربية عدة، وشعر المسؤولون بالإحراج، وأحرق الفلسطينيون الاعلام التي استقبلوا بها الرئيس الاميركي. ليس سراً ان كلينتون لا "يستلطف" نتانياهو، خصوصاً ان هذا الأخير تحداه عبر التحالف مع أقطاب اليمين الجمهوري الأكثر استغلالاً لفضيحة مونيكا لوينسكي، لإسقاط الرئيس. ولا شك في ان البيت الأبيض يتمنى فشل رئيس الوزراء الاسرائيلي وسيعمل على اسقاطه. لن يصل الأمر الى ما وصل اليه جورج بوش مع اسحق شامير في قضية ضمانات القروض الأخيرة، ذلك ان كلينتون أكثر ضعفاً وميلاً لاسرائيل من بوش. وقد تعمد في خطابه عن "حال الاتحاد" تأكيد وعود المساعدات المادية لإعادة الانتشار، علماً ان نتانياهو لا ينفذ ما عليه. لن تتكرر أزمة العام 1992، لكن ذلك لا يلغي تعمد بث اشارات الاعتراض، ومنها - مثلاً - رسالة المديح الموجهة الى موردخاي على جهوده لدعم المسيرة السلمية، وهي الرسالة التي شجعته على حسم أمره. ومنها تجنب وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت التعريج على اسرائيل في جولتها الشرق الأوسطية الأخيرة، ومنها، ايضاً، الامتناع عن لقاء أرييل شارون اثناء زيارته للولايات المتحدة. وكذلك الإكثار، بمناسبة وبغيرها، من الإشادة بدرجة الإلتزام الفلسطيني بتطبيق الاتفاقات الموقعة. سيجد الاميركيون الأوروبيين الى جانبهم في هذا المسعى، وربما ذهب الأوروبيون أبعد ولو بإمكانات أقل. لقد انصبّ الجهد الأوروبي حتى الآن على إقناع الفلسطينيين بعدم الاعلان عن دولة من طرف واحد في 4 أيار مايو المقبل، ولم يخفوا ان القصد من ذلك انتزاع ورقة يمكن لنتانياهو استخدامها. كما تعمدوا تعليق التوقيع على بعض الاتفاقات مع اسرائيل، وفرض حظر على بضائع المستوطنات، وكيل المديح لخصوم نتانياهو الانتخابيين. وسيلعب المسؤولون في السلطة الوطنية ومصر والأردن دوراً في هذا الاتجاه. وسيكون معهم، من العرب، كل من يملك تأثيراً، مثل الملك الحسن الثاني الذي تتأثر بآرائه قطاعات من اليهود المغاربة. نقطة الاستفهام شبه الوحيدة تتعلق بقوى من نوع "حماس" و"الجهاد الاسلامي": هل تعتبر هذه القوى نفسها في معسكر المتضررين من نتانياهو والراغب في ازاحته؟ ولكن ثمة سؤال آخر: ما هو موقع العمليات العسكرية، هذه المرة، من إفادة نتانياهو أو الإضرار به؟ هل يسمح له الوقت بادعاء انه نجح في تحقيق الأمن؟ هل توفر له تلك العمليات في حال حصولها، فرصة التعبئة؟ صحيح أن الأوساط "الجهادية" التي تتناولها هذه التساؤلات تصر في خطابها العلني على عدم التمييز بين "العمل" و"ليكود"، غير انه من الواضح انها تبني حساباتها السياسية والعسكرية على ان الفرق موجود وان يكن طفيفاً. وإذا صدقت الرهانات والتوقعات على سقوط نتانياهو فإن الحرارة ستدب في أوصال المسارات التفاوضية كلها، على النحو الآتي: - فلسطينياً: سيجري استكمال تطبيق اتفاقات واي ريفر بما في ذلك البحث في قضايا الحل الدائم. وربما تم الاسراع في ذلك تحت ضغط الاعلان المحتمل عن دولة من طرف واحد. - لبنانياً: الموضوع مطروح باستمرار. وما لم يقم نتانياهو من الآن وحتى منتصف أيار مايو بقلب الطاولة فإن القوى النافذة في تحالف اليسار - الوسط ستنفذ توجهاتها بالبحث عن حل متفاوض عليه مع دمشق. - المسار السوري: سيشهد تحركاً، وذلك وفقاً للاعتبارات الاتية: أولاً: لن يكون الائتلاف الجديد، في حال حصوله، مضطراً الى التحالف مع حزب "الطريق الثالث" بزعامة افيغدور كهلاني. فالحزب المذكور هو كناية عن انشقاق عن "العمل" يرفع، عملياً، شعاراً واحداً هو "الجولان ضروري لأمن اسرائيل، لذا لا تنازل عن الهضبة". ثانياً: يستطيع التحالف المشار اليه تأمين "نصاب سياسي" قادر على تغطية التسوية مع سورية. فهو يضم الى "صقور العمل" صقوراً من الذين اعتاد الجمهور رؤيتهم في أقصى اليمين. ثالثاً: يخوض ايهود باراك وآمنون شاحاك الحملة تحت راية "وراثة" اسحق رابين، ولذا لن يكون غريباً ان يرثا ايضاً الالتزامات التي قدمها رابين الى الجانب السوري، عبر الاميركيين، في شأن احتمال الانسحاب الكامل حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. رابعاً: ان حشد الجنرالات الكبار الموجود في هذا التحالف يوفر له صدقية أمنية لا يسع نتانياهو التشكيك فيها. خامساً: سربت قبل اسابيع معلومات عن مفاوضات بين باراك ونتانياهو حول البرنامج المحتمل لحكومة وحدة وطنية. وتتضمن هذه المعلومات ان الاثنين اتفقا على "انسحابات واسعة في الجولان". ويمكن الاستنتاج بأن هذه الانسحابات ستكون "أوسع" بعد الخلاص من نتانياهو، وبعد التأكد من انها ثمن الحل الشامل. سادساً: كشفت الصحافة الاسرائيلية النقاب عن "عملية مانغو". وهي مسح شامل أجري في الجولان لتقدير ثمن الممتلكات على أنواعها. وكان واضحاً ان ذلك حصل تحسباً لاحتمال الإقدام على انسحاب يطاول المستوطنات. وشارك في ذلك قادة المستوطنين الذين ينتمون الى المعسكر "اليساري" في اسرائيل. وبما ان العنصر الأيديولوجي - الديني غائب عن تبرير احتلال الهضبة، فإن انقسام المستوطنين وارد، وانحياز أكثرية منهم الى صف "التعويضات" ممكن. إذا كانت هذه التوقعات صحيحة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل يشكل التحسب لما بعد 17 ايار المقبل الخط الناظم لعدد من التطورات التي تبدو متفرقة؟ فقد حصل تحول سياسي في سورية ولبنان، ويجري التحضير للمزيد منه، وفي الأردن أزيح الأمير حسن عن ولاية العهد. وفي العراق اتضحت أكثر معالم الخطة الاميركية. لكل من هذه القضايا منطقها الداخلي. فهي تشكل في جانب منها تجاوباً مع حاجات وطنية لا علاقة لها بحدث اقليمي مرتقب. ولكن المصادفة تشاء ان يكون هذا المنطق الداخلي ملتقياً مع الاستعداد المطلوب لاستقبال المعطى الجديد الذي قد يأتي به سقوط نتانياهو واستئناف المفاوضات والسعي الى استدراك الوقت الذي ضاع. ففي الأردن مثلاً يتيح الوضع الناشئ فرصة أكبر لفتح المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية على احتمال الكونفيديرالية بين الفلسطينيين والأردنيين غداة اعلان الدولة. وربما كان ضرورياً الإسراع في الإقدام على هذا التحول من أجل القول باستعداد الأردن للقيام بدور في الحل النهائي. وفي العراق، ايضاً، بات في وسع واشنطن ان تعد على نار هادئة مشروعها في مواجهة النظام، فقد دخل "قانون تحرير العراق" حيز التنفيذ، وهو يحتاج الى وقت لمحاولة إعداد بدائل تملك حداً أدنى من الصدقية. وهو يحتاج بصفة خاصة الى استعادة الولاياتالمتحدة الهيبة التي فقدتها من جراء انحيازها الى نتانياهو، على الأقل، صمتها حياله. لقد باتت واشنطن تملك الوقت، ومن الممكن مع تجديد رعايتها لمفاوضات ناجحة ان تستعيد الصدقية ويتيح لها الأمران حرية تصرف أكبر حيال بغداد .