قبل أشهر قليلة من اتخاد القرار الضمني بتسليم المتهمين في قضية لوكربي، طلب العقيد معمرالقذافي من الخبراء الماليين في المؤسسات الليبية الرئيسة المختصة ومن مستشاريه الاقتصاديين إعداد دراسة شاملة عن الأوضاع المالية الفعلية للبلاد، ووضع تصور حول طريقة إعادة توظيف الودائع الموجودة في الخارج تحت أشكال ويافطات مختلفة، خصوصاً بعد رفع العقوبات الاقتصادية. كما توجه الزعيم الليبي الى مسؤولي مؤسسة "لافيكو" الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي، الذراع الضاربة للمالية الليبية، بإعادة رسم استراتيجية استثمارية متوسطة الأمد تأخذ في الاعتبار، ومن وجهة نظر براغماتية بحتة، التوزيع الجغرافي للتوظيفات المالية مع اعطاء حيز أوسع هذه المرة لأسواق القارة الافريقية، الأمر الذي يتماشى مع التوجه السياسي الجديد للقيادة الليبية. كما أفهم القذافي رموز اللجان الثورية ان تخصيص الموازنات "الفضفاضة" لتمويل الحلفاء من حركات التحرر وغيرهم والتنظيمات المرتبطة مباشرة بأجهزتها لم يعد له ما يبرره في المرحلة المقبلة، مشدداً على استثمار هذه المبالغ في مشاريع ذات جدوى اقتصادية ومردود مالي في المدى القصير. وبعد أقل من شهر، تسلم الزعيم الليبي من الذين كلفهم بالمهام المالية والاقتصادية الجديدة، غالبية الدراسات والاقتراحات، ولم يتأخر في الطلب منهم الشروع بالتطبيق الفوري من دون أي تأخير، مؤكداً لهم ان كل الامكانات المتاحة لإنجاح مبادراتهم ستوفر لهم، بما فيها حرية اختيار مساعديهم من دون تدخل أي مسؤول في المؤتمرات الشعبية الأساسية أو من مؤتمر الشعب العام البرلمان. كذلك تعمد ابلاغهم ان جميع أسواق وشركات وبورصات دول العالم يجب أن تكون ضمن أهدافهم الاستثمارية، باستثناء كل ما هو مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر باسرائيل ومصالحها. لقد بنى القذافي توجهه الجديد على جملة من المعطيات الاقتصادية الايجابية المدعمة بالأرقام الفعلية. فعلى رغم التصريحات التشاؤمية المتعمدة، الصادرة عن بعض المسؤولين الليبيين، خصوصاً في المرحلة الأخيرة التي سبقت التوصل الى اتفاق في شأن المتهمين في قضية لوكربي، يمكن القول إن السياسة الاقتصادية "الحذرة" التي طبقت خلال الأعوام الثلاثة الماضية أعطت ثمارها. ففي العام 1997، ارتفع اجمالي الناتج القومي الليبي الى 40.6 بليون دولار، أي نحو 7800 دولار نسبة الى القوة الشرائية، ما يضع الجماهيرية الليبية في المرتبة الأولى بين الدول الافريقية لجهة مستوى دخل الفرد، وفي المرتبة الثانية بين دول جنوب البحر الأبيض المتوسط بعد اسرائيل 13600 دولار. ومن جهة أخرى، لم يعد قطاع النفط الذي كان يمثل 65 في المئة من اجمالي الدخل القومي يشكل أكثر من 20 في المئة في العام 1997. ويعود ذلك، من جهة الى الجهود التي بذلتها السلطات لتنويع مصادر الدخل، اذ خصصت اجزاء مهمة من موازنات الأعوام الأخيرة لتنمية قطاعات الزراعة والصناعة، ومن جهة أخرى الى التحول الموضوعي للاقتصاد الليبي في اتجاه قطاع الخدمات. ففيما بلغت العائدات النفطية أكثر من 12 بليون دولار العام 1997 الأرقام الرسمية المعلنة لا تتجاوز الثمانية بلايين لم تشر الحكومة في المقابل الى المداخيل التي يحققها قطاع البتروكيماويات الذي شهد في هذه المرحلة توسعاً ملحوظاً وزيادة ضخمة في الانتاج ونقلة نوعية في التسويق. وبالنسبة الى القطاع الزراعي تضاعفت صادراته منذ العام 1995. ولا تشير التقارير المالية الليبية الى ايرادات الاستثمارات الخارجية التي تشرف عليها "لافيكو" والتي تقدرها مصارف الأعمال الغربية بنحو ثلاثة بلايين دولار سنوياً، كذلك الأرباح التي يجنيها المصرف الليبي الخارجي أو مجموعة "أويل انفست" ذراع الاستثمارات النفطية الخارجية الليبية التي تتخذ من روما مركزاً رئيسياً لها. ومن المؤشرات الأخرى على ثبات الاقتصاد الليبي، التحسن الملموس للمالية العامة للبلاد. وفي هذا الاطار تؤكد مصادر صندوق النقد الدولي، ان الفائض في ميزان المدفوعات الليبي أصبح شيئاً مألوفاً في الأعوام الأخيرة، في حين أن الاحتياطات بالعملات الأجنبية، ما عدا الذهب المقدر بحوالي 1.2 بليون دولار، هي في حدود 6.7 بليون دولار. وهذه الأرقام لا تتوافق مع تلك التي "يسربها" المصرف المركزي الليبي في تواريخ محددة والتي تدور حول رقم واحد يراوح بين أربعة وخمسة بلايين دولار. ومن المؤشرات المشجعة أيضاً تدني نسبة الاستدانة التي لا تتجاوز 10 في المئة من مجمل ناتج الدخل القومي. وتشهد الديون الخارجية ومعظمها ديون عسكرية سابقة، لروسيا ودول أوروبا الشرقية، تراجعاً تدريجياً، خصوصاً ان الاستحقاقات تتم وفق آلية مقايضة بالنفط. كما تسدد ليبيا نفقات مراحل انجاز مشروع "النهر الصناعي العظيم" بالطريقة نفسها تقريباً. ومن النقاط المهمة ايضاً والمجهولة التي تحاول طرابلس "التعتيم" عليها لأسباب غير معروفة، أن ليبيا من البلدان القليلة في العالم غير المدينة لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو المؤسسات المالية العالمية الأخرى. وكل هذه العناصر تجعل مخاطر الاستقرار الاقتصادي شبه معدومة في المدى القصير، اضافة الى ان عدد سكان ليبيا لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة. ويحافظ النمو الاقتصادي في ليبيا على وتيرة مقبولة نسبتها الحالية 3.6 في المئة لكن المشكلة الأصعب التي تواجه الحكومة تكمن في البطالة المرتفعة التي تشكل حوالي 30 في المئة من القوى العاملة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي مع الوقت الى اهتزازات اجتماعية. فتردد الشباب الليبي في البحث عن وظائف أو الانخراط في سوق العمل مرده المستوى المتدني للأجور، التي بقيت مجمدة منذ أكثر من عشرة أعوام بفعل القانون الرقم 15 القائم على أسس لا تمت للاقتصاد بصلة. ويزيد في الطين بلة، فشل مؤسسات القطاع العام، وفي طليعتها المنشآت والتشاركيات. فالتراكم الحاصل في هذا المجال أصبح عبئاً على سياسة الدولة وعائقاً امام تطوير الاقتصاد. وتعود أسباب هذا الفشل الى البيروقراطية وعدم كفاءة الاداريين والرشوة. وتفيد التقارير التي أعدتها كبريات الشركات الأوروبية التي نفذت مشاريع مهمة في ليبيا في الماضي، ان أعلى نسبة من العمولات التي تدفع في الدول العربية هي في ليبيا، لذلك يتوقع ان تقوم السلطات في طرابلس، بعد تجميد العقوبات، بحملة لمحاربة الرشوة للدلالة على ان الجماهيرية تسير في اتجاه اقتصاد السوق وتعمل وفق مبادئه، وفي طليعتها الشفافية. الأدوات والرجال وتشهد الأسواق المالية والمصرفية العربية في هذه المرحلة هجمة مكثفة من قبل ممثلي المؤسستين الليبيتين الأبرز في ميادين الاستثمارات المالية والعمل المصرفي. ويتعلق الأمر هنا، على وجه التحديد، ب"لافيكو"، التي تتخذ من أبراج "ذات العماد" في طرابلس مقراً رئيسياً لها. وتشير معلومات الى أن مجلس ادارة الشركة ينوي مضاعفة رأسمالها البالغ حتى منتصف العام الماضي 284 مليون دولار، في حين تصل موجوداتها الى حدود 20 بليون دولار. ويركز أصحاب القرار في هذه المؤسسة حالياً على أسواق المغرب، حيث تملك محفظة استثمارية لا يستهان بحجمها ولا بنوعيتها. وتتوزع هذه المحفظة على سبيل المثال بين شركة "أونا" العملاقة وبين سلسلة من الفنادق السياحية. وتؤكد مصادر مغربية ان مدراء "لافيكو" قاموا بزيارات ذات طابع استكشافي لكل المناطق المغربية. وركزوا اهتمامهم بالدرجة الأولى على المنطقة الحرة في طنجة ومصانع الزيوت في مكناس، اضافة الى متابعة دقيقة لقطاع شركات الطيران الخاصة الذي بدأ ينمو بشكل منتظم وثابت مع الاهتمام بما تبقى من برنامج التخصيص. وتؤكد المصادر نفسها ان الليبيين يعطون أولوية للاستثمار في مجال العقارات في مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، وشراؤهم في العام الماضي بضع طبقات من أحد الأبراج المعروفة مثال كافٍ على هذا التوجه. وتتابع الأوساط الأوروبية خصوصاً الفرنسية، الاتصالات المكثفة التي يقوم بها مسؤولو "لافيكو" مع السلطات الجزائرية ورموز القطاع الخاص في هذا البلد. ويدور الحديث عن امكان قيام ليبيا بالدخول في عمليات استثمار واسعة في القطاع السياحي والصناعات الغذائية - الزراعية، كذلك الدخول في شراكة مع بعض مجموعات ايطالية متخصصة في مشاريع بناء المساكن الشعبية في جميع أنحاء الجزائر. وتؤكد شركات وساطة مالية بريطانية ان "لافيكو" تدرس شراء أسهم في شركات محلية جزائرية لصناعة الأدوية وانتاج اطارات السيارات وأن المفاوضات قطعت شوطاً كبيراً. من جهة أخرى، بدأت "لافيكو" إعداد دراسات جدوى لقطاعات محددة في الأسواق الافريقية، تمهيداً لتخصيص الموازنات والصيغ الملائمة. ولا تستبعد بعض الشخصيات الليبية المقربة من مصادر القرار ان تقوم ليبيا بانشاء مصارف مختلطة في بعض بلدان هذه القارة. ويعتبر المصرف العربي الليبي الخارجي، رأس الحربة الثانية للاستثمارات الليبية في الخارج. فعدا كونه يعمل على تمويل كل ما له علاقة بالواردات الليبية وتأمين الأقنية المناسبة للصادرات، تقوم هذه المؤسسة بتدوير جزء من الودائع والرساميل الموجودة في الخارج وتأمين انتقالها وتوزيعها المدروس. وقد نجح هذا المصرف، مثل "لافيكو" في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأممالمتحدة طوال الأعوام الماضية. وعاد أخيراً وبشكل علني الى بعض الأسواق المالية الأوروبية مثل روما ومدريد واللوكسمبورغ وزوريخ. كما يحاول تعزيز وجوده في سوق جنوب افريقيا. وتشير معلومات الى ان فكرة انشاء مصرف مختلط مع رجال أعمال من هذا البلد وصلت الى درجة متقدمة لناحية التنفيذ. وفي خضم ذلك لا يبدي المشرفون على هذه المؤسسة حماساً حيال العودة الى بلدان الشرق الأوسط، على الأقل في هذه المرحلة. ويلعب المشرف على المصرف العربي الليبي الخارجي رجب مسلاتي مع رئيس "لافيكو" محمد الحويج ورجل المال البارز عبدالله السعودي، وطاهر الجهيمي محافظ البنك المركزي، ومحمد بيت المال وزير المالية، دوراً أساسياً في إعادة صياغة السياسة المالية لليبيا، في ظل التطورات الأخيرة المترافقة مع عودة ليبيا الى المجتمع الدولي. ومن النتائج الأولية للسياسة الجديدة نجاح الجماهيرية في دخول مجلس ادارة "بنكا دي روما" وامكانية زيادة حصة "لافيكو" في شركة "أونا" المغربية وإعادة البحث في مضاعفة حصة المصرف العربي الليبي الخارجي في المجموعة المصرفية العربية "أي. بي. سي"، التي تتخذ من المنامة مركزاً لها. الاستثمار في الاتجاه المعاكس لقد سمحت عملية رفع العقوبات الاقتصادية بادخال تعديل على العقلية الاستثمارية لدى الليبيين، ولعبت شخصيات مثل وزير الخارجية عمر المنتصر ووزير النفط عبدالله البدري، اضافة الى الكفاءات المذكورة، دوراً في اقناع القيادة الليبية بالتفكير بجذب الاستثمارات الى البلاد التي لا تزال قطاعات منها غير مكتشفة. ويتعلق الأمر هنا، على سبيل المثال، بالسياحة الصحراوية والبحرية والثقافية والأثرية. وتفيد المعلومات بأن شركات سياحية أوروبية دخلت في مفاوضات جدية مع وزارة السياحة الليبية لانشاء مشاريع مشتركة. كما أبدت شركات خليجية، اماراتية تحديداً، اهتماماً بتنظيم معارض على مدار السنة في ليبيا على غرار تلك الدائرة في منطقة الخليج العربي. وتظهر شركات النفط الغربية رغبة متزايدة بالاستثمار في قطاع البتروكيماويات الليبي الذي يشكل مورداً كبيراً للموازنة الليبية بعد النفط. ولا يستبعد المستشارون الماليون للقذافي انشاء بورصة للأسواق المالية وربطها ببورصات القاهرةوالدار البيضاء وتونس. وعلى رغم ان هذه الفكرة سابقة لاوانها إلا أن طرحها وجد تقبلاً لدى القيادة الليبية التي باتت مقتنعة بضرورة اخراج البلاد من عزلتها الاقتصادية وجعل الاستثمار يسير باتجاهين، خصوصاً ان امكانات البلاد الطبيعية والصناعية هائلة إذا ما تم استغلالها بشكل جيد. ومن المتوقع ان تسن ليبيا في الفترة المقبلة قوانين استثمارية جديدة تركز على الاستثمار الخارجي وكيفية تشجيعه وجذبه. في مثل هذا الوضع يُطرح السؤال الأهم: هل بدأت ليبيا تطوي الصفحات الاقتصادية من الكتاب الأخضر لتنتقل إلى اقتصاد السوق؟ المؤشرات تدل على ذلك، خصوصاً عندما يكون الفرق شاسعاً بين النظرية والتطبيق