وجدتها تبكي فسألتها ماذا حدث، فقالت إن زوجها فرّ مع الطباخة. وكنت افكر كيف أعزيها عندما أكملت تقول: مصيبة فعلاً. من أين أجد طباخة ماهرة مثلها. لا أدري إذا كانت القصة هذه حدثت فعلاً، إلا أنها ممكنة الحدوث، فالطباخة الماهرة أندر جداً من زوج، مع إدراكي ان الطهي هذه الأيام قد لا يتجاوز وضع طعام محضر سلفاً ومجلد في الفرن. وهنا بيت القصيد، فالفرن الذي يعمل على الكهرباء أو الغاز موجود في مطابخ البيوت منذ عقود، غير ان المطبخ الحديث لا يستحق اسمه من دون فرن مايكروويف، يحضر الطعام كله في دقائق معدودات. وكنت قاومت ادخال فرن مايكروويف إلى بيتي سنوات، مصراً على أنه يسبب السرطان، تماماً كما أن الطب الحديث يقول عن كل مرض لا يعرف أصله أو فصله إنه نوع من السرطان. غير ان الأسرة غلبتني في النهاية ودخل الفرن المطبخ، ولم استعمله، وإنما أخذت أجمع المعلومات عنه، فلا أقع على بحث أو خبر حتى أضعه جانباً، فأنا أجيد البحث ولكن لا أجيد الطهي. الأسبوع الماضي قرأت ان شركة بريطانية اسمها "موي بارك" في بلدة كرو أعلنت أنها ستسوق قريباً دجاجاً موضباً في علبة خاصة تجعل طهيه في فرن مايكروويف سهلاً. الشركة تزعم ان السر في العلبة، غير أن أبحاثي الخاصة تقول إن لا سرّ هناك، فالمشكلة مع طهي فخذ دجاج مثلاً، ان النتيجة تأتي غير متوازنة، لأن الفخذ سميك من جهة ودقيق من جهة أخرى، فيختلف الطهي من مكان إلى آخر. لذلك فأنا أرجح ان الشركة توزع لحم الدجاج داخل العلبة بشكل متوازن، فتصيبه الموجات بالتساوي، لا أكثر ولا أقل. وراء الميكروويف قصة تستحق الرواية، وتشرح الموجات التي يقوم عليها. هذه الموجات تبثها أنابيب اخترعها علماء بريطانيون سنة 1940 للاستعمال في الرادار، ووصلت إلى شركة "ريثيون" في أميركا. وكان ان أحد مهندسي الشركة مرّ أمام أنابيب من هذا النوع، وشعر فوراً بأن لوح شوكولا في جيبه ذاب. وهو قرر أن لذوبان اللوح، رغم برودة الطقس، علاقة بالأنابيب، وجرب مرة ثانية، وتأكد من العلاقة. وباختصار فقد طورت الشركة فرن مايكروويف بدأ ضخماً ومرتفع الثمن جداً في الخمسينات، إلا أنه بقي يصغر حجماً، وينخفض ثمناً، حتى أصبح بالشكل الذي نعرف اليوم، وحتى أصبح 90 في المئة من مطابخ البيوت الأميركية يستعمله. السر في هذا الفرن انه يطلق موجات "مايكرو" أي قصيرة طولها لا يتجاوز عشرة سنتيمترات، مع ذبذبة عالية هي 5.2 بليون مرة في الثانية، وهي ذبذبة ذرات الماء نفسها. وهز هذه الذرات بهذا الشكل السريع جداً يولد الحرارة التي تطبخ الطعام، في حين ان الفرن العادي يسخن الهواء داخله، وهذا يطبخ الطعام. المشكلة في كل هذا ان الميكروويف لا يصنع طباخة ماهرة، ولكن من رحمة القدر بالناس ان العروس لا تجيد الطبخ، إلا أن العريس يحبها، ثم تمضي سنوات ويفتر الحب، ولكن الزوجة تكون قد تعلمت الطبخ، فيستعيض الزوج عن حب بحب، ويعيشان في تبات ونبات ويخلفان الصبيان والبنات. العروس وقع كتاب الطبخ من يدها، فلم تعد تعرف كيف تعود إلى الصفحة لتكمل الطبخة لأنها لم تكن تعرف ماذا تطبخ. هل هناك أسوأ من زوجة تجيد الطبخ ولا تفعل؟ أسوأ منها زوجة لا تجيد الطبخ وتفعل. والإنسان في هذه الحالة يستطيع الذهاب إلى مطعم، إلا أنه قد يجد نفسه تحت رحمة "شيف" فرنسي يصر على أن يطعم الزبائن ما يريد هو، لا ما يطلبون. وكنت مرة في مطعم فرنسي وطلبت "ستيك" محمّرة مقمرة، فجاءتني قطعة لحم نيئة تقطر دماً. وقلت للجرسون أن يعود بها لتطبخ فأصر على أنها مطبوخة. وقلت له أخيراً: اسمع، في بلادنا اعرف بقراً اصيب بحروق أشد من هذا وتعافى. طبعاً لا تجوز مناقشة "الشيف"، فهو إنسان مثقف يطلق على الحساء نفسه الشوربة اسماً مختلفاً كل يوم. وكانت شركة "هاينز" الأميركية سرقت يوماً الطاهي الخاص بشارل ديغول، ما اعتبره الفرنسيون في حينه نكسة قومية. غير ان طعم الحساء الأميركي بقي على حاله، فهناك فرق بين أن يصنع طاه بيديه حساء للرئيس وزوجته، وبين خلطة هائلة لملء ملايين العلب من دون أن يختلف الطعم بين أول السكب وآخره. شخصياً افضل السمك ولكن عندما بحثت عن طرق طهيه لم أجد سوى قول بركليس، زعيم اثينا، الذي سئل كيف يعيش السمك في البحر، فقال: كما يعيش الإنسان على الأرض، الكبار يأكلون الصغار. شاعرنا يقول: إذا كنت مأكولاً فكن خير أكل/ وإلا فادركني ولما امزّق. غير انني لن أحاول تفسير معنى البيت، وإنما اختتم بالزوجة تسأل: حبيبي، إذا طبخت لك كل يوم هذا الشهر ماذا تعطيني؟ ويرد الزوج: اعطيك التأمين على حياتي يا حبيبتي.