سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حوار طويل مع صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" الذي لا يحب الكتابة ، ولكن ... صار من الأجاويد لكنّه لا يصلح للسياسة ولا تصلح له الطيب صالح : كلنا مقصر وما نقوم به أضعف الإيمان 2 من 2
"نحن خليط من السلالات" يؤكّد الطيب صالح في هذا الجزء الثاني والأخير من الحوار الذي أجرته معه "الوسط". وبعد اعترافه بأن خفوت حماسته للكتابة نوع من ردّ فعل على ال "لامبالاة السودانية القاتلة" في الحلقة السابقة، يخوض الأديب السوداني المعروف في مسائل الهويّة، وقضايا اللون والعرق وعروبة السودان. كما يؤكّد أن دوره هو الكتابة، وأن السياسة لا تغريه مع أنّه من الرموز القليلة التي تحقّق اجماعاً داخل بلاده وخارجها. هناك من يدعو إلى "هوية سودانية"، كبديل للعروبة والهويّة الافريقية، ما رأيك؟ - نعم نحن سودانيون، لكن تصورك لنفسك يبقى ملكك، شيء يخصّك. الناس يؤكدون جزءاً من أنفسهم، عادة، عندما يحسّون بهجوم، أو بخطر. وما يردّده بعض اخواننا الجنوبيين من رفض عروبتنا لا يصح. المهم أن نعيش بسلام، العربي عربي والنوبي نوبي، ولكننا امة واحدة، وهذا في نهاية الامر لا يؤثر على الحقوق والواجبات لكل مواطن، لأنها تدخل في دائرة الدستور والقانون. وهؤلاء الذين يؤكدون الجانب العربي فيهم انما يفعلون ذلك كردّ فعل للهجوم على العرب. هل يمكن أن ننكر، أن أهم أسس تكويننا في شمال السودان، العروبة والاسلام؟ لغتنا هذه ملكنا ولم يأتِ لنا بها أناس آخرون. وهناك شعوب كثيرة برهنت على ان التعددية ممكنة. خذ سويسرا: فيها المان وفرنسيون وايطاليون، وكل مجموعة محتفظة بتصورها عن نفسها. الفرنسي فرنسي وهو حرّ في ان يتحدث بالفرنسية، ويأكل ال "ستيك" بالطريقة الفرنسية، والألماني حرّ… لم يقولوا دعونا كلنا نتنازل عن مقومات شخصيتنا لكي نؤسس دولة. من الممكن لمجموعات مختلفة الهوية على المستوى الفردي ان تشكّل أمة واحدة. واخواننا الجنوبيين بعضهم يبالغ، والمظلوم يبالغ عادةً في دفاعه. فالقول إننا في الشمال مثل البيض في جنوب افريقيا أيّام التمييز العنصري من السخف بمكان. هذه مقارنة لا يقبلها عقل اطلاقاً. كنت باستمرار بعيداً عن السياسة بشكلها المباشر... - ولا أزال إن شاء الله. ولكنك قلت قولة شهيرة جرت عند السودانيين مجرى المثل: "من أين أتى هؤلاء؟". ما الذي تغيّر ودفعك للكلام في السياسة بشكل صريح؟ - ما تغيّر هو انني أحسست كمواطن إن هذا النظام، نظام الانقاذ، ذهب في القهر وإذلال الناس إلى حدّ لم يحصل من قبل. وأيّ انسان يحمل قلماً ويزعم انه مفكّر لا بد ان يقول رأيه. وبالمناسبة ما زلت محاصراً من الندم من موقفي حينما قتل نميري الاستاذ الشهيد محمود محمد طه. فقد كنت أعمل حينها في اليونسكو، والموظف حينما يلتحق بهذه المنظّمة يؤدي قسماً بأنه لن يتعامل في السياسة ولن يكون منحازاً لأي دولة. استشرت الاخوان، ونصحوني ألا أفعل شيئاً، مع انّني غضبت جداً وشعرت بمهانة شخصية: كيف يمكن لرجل في الثامنة والسبعين، مسالم ومفكّر، أن يُقتل بهذه الطريقة؟ وقد كان عليّ ان استقيل من اليونسكو، وأنا آسف انه لم تكن لديّ الشجاعة كي أبادر إلى ذلك. وعندما جاء اخواننا هؤلاء إلى الحكم، وصاروا يقتلون ويشنقون و"يعملون بلاوي"، كأن الشعب شيء مباحٍ، ما له من قيمة، وأخذوا يشرّعون ويبدلون، حصلت "لخبطة" لم نعرفها من قبل. جاش كل هذا في نفسي وقلته، قلته في هذه الكلمات. ثنائية عجيبة أنت الآن أحد الرموز السودانية التي عليها اجماع، ليس فقط كأديب، ومقالاتك السياسية القليلة حظيت باهتمام واسع... - أيّام زمان، في السودان كان هناك أجاويد. حتى في القرى كان هناك أجاويد للبلد. ونحن الآن بحكم سننا، صرنا من الأجاويد. وكما كتب شكسبير في نهاية "الملك لير": "علينا أن نقول ما نؤمن به، لا ما يُطلب منا قوله". أذكر انني كنت في فيشي اتعلم اللغة الفرنسية، وجاء شاب سوداني لا اذكر اسمه الآن، فذهبنا وبعض السودانيين وجلسنا بجانب البحيرة في ليلة مقمرة. ومن ضمن ما غنى هذا الشاب اغنية تقول "طلعت القمرة اخير يا عشانا تودينا إلى أهلنا بيسألوك مننا". أنا تأثرت جداً بهذه الاغنية، وبعد ذلك قابلت صلاح أحمد ابراهيم في باريس، فحكيت له اني سمعت أغنية مؤثرة جداً، فسألني: "طلعت القمرة"؟ قلت له: كيف عرفت؟ فحكى لي انه رجع للسودان بعد الانتفاضة على حكم نميري وأقام مع سيد أحمد الحردلو أمسية شعرية صارت مشهورة في جامعة الخرطوم، وقال لهم فيها كما جاء في الاغنية "بيسألوكم…". فنحن كلنا عندنا هذا الاحساس بالتقصير، نحن مقصرون حقيقة، وما نقوم به أضعف الإيمان. كان رئيس وزراء السودان في يوم ما أديباً وشاعراً هو محمد أحمد محجوب، ثم توالى رؤساء وزارات لا علاقة لهم بالأدب والثقافة عموماً، فهل لهذا الأمر دلالة؟ ولماذا يا ترى لا تتغير الوجوه السياسية في السودان مثلما يحدث في بلدان أخرى؟ - طبعاً هذا موضوع طويل ويعالجه اخواننا الاقتصاديون والمختصون بالعلوم السياسية. واخونا حيدر ابراهيم يؤدي دوراً مقدراً في مركز الدراسات السودانية. لكن بتبسيط، من الواضح أن هذا الشعب شعب غير عادي، وأنا لا أقول هذا لأني سوداني. هذا شعب في فترة من الفترات بلغ درجة من التحضر كبيرة، ليس هناك أحد من حكامنا في العصر الحديث فهم هذا. الجيل الأول من الحكّام كان قريباً من الشعب. كانوا متواضعين وبسطاء: أزهري وعبدالله خليل ونقدالله ومحجوب وزروق، لكنهم أيضاً لم يفهموا أن هناك شيئاً ثميناً جداً يجب الحفاظ عليه. وتقصيرهم هو الذي أدى إلى أن الحكومات العسكرية اختطفت الحكم، اغتصبته اغتصاباً. والحكومات العسكرية معروف أنها مهما بلغت من حسن النية حكومات ليس لها اتساع أفق. هؤلاء ناس ضبط وربط، لأن للجيش منطقاً آخر، فهم يأتون كضباط ويريدون أن يحكموا كضباط، فصاروا يستعيرون أفكاراً، يأتيهم أذكياء يقولون لهم كلاماً، يقولون لنميري: التنمية، الشمولية، الحزب الكذا، فصار "يلطخ" ويجرب. ولعل نميري كان يملك فرصة لأنه من الشعب، مثلنا، شخص عادي، ليس من العوائل الكبيرة في البلد، وكم عائلة كبيرة في البلد على كل حال؟ لكنه لسوء الحظ انجرف، السلطة كانت صعبة عليه، ثم جاءت الديموقراطية، وبعدها أتى اخواننا هؤلاء، وهم محيرون ليه؟ لأنهم عملوا ثنائية عجيبة لأول مرة، يعني لا هو حكم عسكري يفهم على أنه حكم عسكري، ولا هو حكم مدني يفهم على أنه حكم مدني. ابتدأوا يلعبون على القطبين. مرة عسكري ومرة مدني. يخرجون فلسفات وكلمات جديدة وأموراً عجيبة. من الواضح ان للشعب توقاً عميقاً جداً للحرية، وكل من يقرأ تراثنا، الدوبيت مثلاً، يجد أن هؤلاء الناس قد عاشوا في فضاء واسع جداً، ولا تستطيع ان تربطهم. نحن لسنا كشعوب اخرى تستطيع أن تحدّها بحدود، هذا فضاء واسع جداً، عربي راكب على جمله وماشي في الخلاء، مزارع في "الشمالية" ساقيته دائرة وهو غير سائل عن أي شخص. تأتي لهؤلاء حكومات ضد طبيعتهم، فيبذلون طاقات كبيرة لاسقاطها لكنهم بعد اسقاطها لا يأتي من يستطيع أن يبلور كل هذا في اطار ديموقراطي، ممكن أن تنميه وتزيد عليه ويستمر. فنحن في هذا التذبذب، كل مرة نبدأ من جديد، كل مرة يأتي ناس بمزاعم جديدة وهذا عبث، هذا معناه في نهاية الأمر أن طاقاتنا مهدرة في دروب سلبية. ألا ترى أن تقاعس الصفوة، أو بعضها، عن أداء دور عام قد لعب دوراً سلبياً؟ - أنت تحتاج لوقت. بعد سقوط نميري ظهرت بوادر. هل تعتقد أنه يمكنك أن تلعب دوراً إذا ما تغير هذا النظام، بفعل ما تحظى به من قبول واسع؟ - أنا مهمتي أن أكتب. السياسة لا أصلح لها ولا تصلح لي. السياسة لها أهلها. والمفكرون والكتاب يمكن أن يكون لهم دور مساند. لكن أنا أكيد أنني لا أصلح لأي دور سياسي، ولا أقبله اطلاقاً. القضية كما أراها ليست في الأشخاص، القضية هي خلق الاطار الصحيح، والمؤسسات الصحيحة، وأن تضمن أنه ليس هناك شخص ولا مجموعة تستأثر بالأمور كما يحدث الآن. بعد ذلك يمكن أن يتفق الناس على الأشكال والوسائل الملائمة. ولو أننا سرنا على الطريق الذي بدأنا به، لكنا تعلمنا من الممارسة وعدلنا حسب الظروف. والمهم في الديموقراطية، كما أرى، هو أن تتيح المجال لكل الطاقات الابداعية عند المواطنين. والناس هم الذين يخلقون البلد وليس السياسيين، هؤلاء يجب أن يكونوا مجرد أداة تنفذ رغبات الناس. عندنا انعكست المعادلة. صارت السلطة هي الغاية القصوى، والشعب عبارة عن اداة لتحقيق مطامع الحكّام وطموحاتهم ونزواتهم