أعرف ثقيلاً دعي الى كل بيت مهم... مرة واحدة. والمشكلة في الثقيل انه يبقى في ساعة أكثر مما يبقى غيره في 24 ساعة، والمشكلة الأكبر انه لا يعتذر عن عدم الحضور، بل هو موجود بكثرة دائماً، ليستهلك من صبر الضيوف ما يعادل ضعفي وزنه. تذكرت ثقيلاً، والثقلاء عموماً، وأنا أقرأ ان الدنيا تغيرت، فبعد ان كان الناس يعدون ويوفون، أصبح كثير منهم لا يعتذر ولا يحضر، أو يعد بالحضور، ويعتذر عن التغيب في آخر لحظة. وتقول جوديث مارتن التي تكتب زاوية على شكل ردود على القراء بعنوان "الآنسة أدب"، انها تتلقى أكياساً من الرسائل التي تشكو من عدم الاعتذار، أو الاعتذار في آخر لحظة، وهي تقول ان المشكلة هذه كانت معروفة دائماً في كاليفورنيا حيث يطغى جو السينما الزائف، إلا ان العدوى انتشرت الى المجتمع في كل بلد. بطاقة الدعوة تضم عادة حروفاً من كلمات فرنسية هي RSVP للاعتزار. غير ان الناس لم يعودوا يرونها، أو أنهم اعتادوا عليها الى درجة ان يتجاهلوها، رغم ما تواجه الداعية من صعوبات اذا كان المكان محدوداً، أو الخدمة من الخارج، وعليها ان تحدد عدد الضيوف. وقرأت ان سيدة مجتمع في اريزونا اضافت تحت كلمات الرد التقليدية عبارة تقول: لا يمكن ان تكون مشغولاً الى درجة ان ليس عندك دقيقتان للتأكيد أو الإعتذار. طبعاً، هناك دائماً عذر شرعي مقبول هو المرض، غير ان الذي يعتذر في آخر لحظة نادراً ما يكون مريضاً، وانما هي عادة، حتى أنني وجدت في القاموس كلمة انكليزية لوصف هذا الشخص، ربما كانت أقرب ترجمة عربية لها هي "هوائي". بعض الناس ليس هوائياً أو قليل أدب، وانما يخاف ألسنة الناس، فيجبن في آخر لحظة لأنه غير مؤهل للمشاركة في مجالس النميمة، وكانت أليس روزفلت، ابنة الرئيس الاميركي، تعرف بلقب "أميرة الأذى" لطول لسانها، ولها عبارة مشهورة هي: إذا كنت لا تستطيع ان تقول كلمة طيبة عن الآخرين تعال أجلس بجانبي. في مثل هذه المجتمعات يسمع الإنسان لسعات من نوع: - جبانة... عندها كلب لأنها لا تجرؤ على عض الناس الآخرين بنفسها. - إذا تحدث عن شرفه وأخلاقه عدّ ما عندك من شوك وسكاكين. - يحدث أحياناً أن اتمتع بأمسية رائعة... إلا ان هذه الأمسية ليست منها. - تقول انه انتحر بإطلاق رصاصة على دماغه؟ لا بد أنه كان رامياً ماهراً. - خيم على الحاضرين الصمت فجأة، فأدركت ان صاحبة الدعوة حكت لهم طرفة. وكنت مرة قلت لسيدة أنها على ما يبدو لا تعرف سيدة أخرى أنها لا تكلمها، فردت: أبداً أنا لا أكلمها لأنني أعرفها. وواضح انهما تعرفان احداهما الأخرى. من ناحية أخرى، بعض الناس قد يصر على آخرين لحضور حفلة له من دون ان تكون هناك معرفة كافية، وسمعت عن الذي اعتذر قائلاً ان عنده موعد آخر يأمل ان يأتيه في الوقت نفسه، وقال غيره: آسف، السبت يأخذ طفلنا يوم إجازة، وأريد ان أبقى مع الخادمة. والوضع يختلف إذا تكافأت المكانة الاجتماعية، فالذي يعتذر عن عدم الحضور في آخر لحظة سيجد بسرعة رداً مماثلاً، فصاحبة الدعوة السابقة، ستعتذر منه في آخر لحظة. وهو إذا كان يمارس "هوائيته" بانتظام، فسيجد ان نصف المدعوين اعتذروا منه في آخر لحظة. أما "الهوائي الاستثنائي"، أي الذي يعتذر ولا يعتذر الناس رداً عليه، فهو إما صاحب مال أو لقب أو نفوذ يعوض عن هوائيته. وقد يكون مغنياً مشهوراً أو مغنية، أو ممثلاً معروفاً. وكل من هؤلاء مثل الفرفور ذنبه مغفور. ولعل المغني التون جون أبرز هؤلاء، فقد قرأت دراسة للشخصيات الانكليزية التي تتلقى أكبر عدد من الدعوات الى الحفلات، ووجدته يتصدرها. وهو مغن وصاحب لقب سير ومليونير، ما يعني انه جمع المجد من أطرافه. أما رئيس الوزراء توني بلير وزوجته شيري فحلا في المرتبة العاشرة. وهو لو كان زعيماً عربياً لقتل التسعة الذين سبقوه في القائمة. القارئ وأنا لسنا أياً ممن سبق، ونحمد الله اننا لسنا مثل التون جون، فهو بالإضافة الى كل ما سبق من الجماعة "إياهم". لذلك فأنا والقارئ مطالبان بأن نقبل الدعوة بسرعة ونحضر، أو نعتذر عن عدم الحضور فوراً، فربما أراد الداعي أو الداعية استضافة شخص آخر مكان المعتذر. ولن يفوتنا إذا تغيبنا شيء مهم، ولكن قد نسمع قصصاً طريفة، مثل ذلك الذي ضرب كفاً بكف وقال لصديق في حفلة انه تلقى رسالة تهديد تقول: إذا لم تترك زوجتي فسأقتلك. وقال الصديق: لماذا لا تتركها؟ ورد الأول: لأنني لا أعرف زوجة مَنْ موضوع التهديد. وعلى الأقل فما سبق عقاب يستحقه صاحبه، ولكن أكثر الناس يصلى بألسنة حداد من دون ذنب، فأنصح القارئ إذا حضر حفلة ان يكون آخر من يتركها، حتى لا يستغل الباقون ذهابه فيعملوا ألسنتهم فيه. وبعضهم لا ينتظر ان يترك غيره ليقول رأيه، فقد سمعت سيدة تقول لأخرى: فستانك جميل. إذا احتفظت به فلا بد ان ترجع موضته. ولعل سلاطة اللسان هي الموضة الوحيدة التي لا تحتاج ان ترجع لأنها موضة دائمة