نشرت صحيفة "الديلي تلغراف" في نيسان ابريل الماضي رسالة من قارئ قال ان أحفاد قايين يعتذرون الى أحفاد هابيل على الجريمة التي ارتكبها جدهم الأول قايين بحق جدهم هابيل. الرسالة كان هدفها السخرية من "موضة" الاعتذار التي انتشرت في العالم الغربي في السنوات الأخيرة، وتراوحت بين البابا وامبراطور اليابان وبيل كلينتون، من جهة، وحتى لاعبي كرة القدم والفنانات من جهة أخرى. البابا اعتذر في آذار مارس الماضي لليهود لأن الكاثوليك لم يحاولوا مساعدتهم بشكل أكبر، وهم يتعرضون للإبادة على أيدي النازيين. كما اعتذر البابا للفرنسيين البروتستانت على مذبحة القدس بارثلوميو سنة 1572 واعتذر للهراطقة عبر العصور، بمن فيهم غاليليو. وقرأت للامبراطور اكيهيتو نصف اعتذار لبريطانيا عن تصرفات اليابان في الحرب العالمية الثانية. غير أن بطل الاعتذارات من دون منازع كان الرئيس كلينتون ولا يزال. وقد بدأت اكتب هذه السطور بعد أن اعتذر محامو الرئيس لمونيكا لوينسكي عن تصرفات بيل كلينتون معها، وهي تدلي بشهادتها أمام أعضاء مجلس الشيوخ قبل يومين. ولم يقل المحامون ان مونيكا طاردت بيل حتى أوقعته في حبالها، وانما اعتذروا أملاً بأن تكون شهادتها خفيفة الوقع، وهذا ما حدث. وكان الرئيس كلينتون اعترف في آب اغسطس الماضي بأنه ضلل الأميركيين في موضوع علاقته مع الموظفة المتدربة في البيت الأبيض، وقال انه وحده مسؤول وانه يعتذر من أعماق قلبه، وهو عاد في أيلول سبتمبر فاعتذر للشعب الأميركي مرة، ولأسرته مرة أخرى، ولا يزال يعتذر حتى كتابة هذه السطور. وفي المقابل اعتذرت مونيكا لوينسكي لجيرانها في مبنى ووترغيت في واشنطن، على الازعاج الذي تعرضوا له والصحافة تلاحقها والمصورون والمحققون. مع ذلك أفضل من يعتذر، في رأيي المتواضع، هم الهنود، فعندهم عبارة "ألف اعتذار"، مقابل عبارة "ألف شكر" عند الايطاليين. ولم يخيّب الهنود ظني في اعتذارياتهم، فقد كان اقبال وهاب، رئيس التحرير السابق لمجلة "تندوري"، انتقد خدم المطاعم الهنود، وقامت ضجة، فاعتذرت المجلة في مقال من ألفي كلمة، ما يزيد على مجموع اعتذارات كلينتون في سنة. وعلى مستوى القمة، اعتذر الرئيس شيراك للمتحدرين من أسرتي الفريد درايفوس والكاتب اميل زولا، على محاكمة الأول التي هاجمها الكاتب في مقاله المشهور "اني اتهم". واعتذر رئيس وزراء بريطانيا الى الايرلنديين على تقصير الحكومة البريطانية معهم خلال مجاعة البطاطا في القرن الماضي. واعتذرت الحكومة الاسترالية الى سكان البلاد الأصليين على سوء معاملتهم منذ دخول البيض تلك القارة الجزيرة. وفي أيلول الماضي، اعتذر الملاكم مايك تايسون، أمام اللجنة الرياضية لولاية نيفادا على قضم اذن ايفاندر هوليفيلد خلال المباراة بينهما. ثم اعتذر مرة أخرى في مؤتمر صحافي في كانون الأول ديسمبر الماضي، وهو لم يقضم أذن خصمه الافريقي الجنوبي في مباراتهما الأخيرة، إلا أنه شتم وهدد بشكل ذكّر الناس بسجله العدلي المعروف. وكان أحقر اعتذار سمعته في الأشهر الأخيرة اعتذار جيش التحرير الايرلندي "الحقيقي" عن مجزرة بلدة أوماه التي راح ضحيتها 29 شخصاً، في آب اغسطس الماضي، فالارهابيون أصدروا بياناً يقول "لم تكن نيتنا قتل مدنيين... ونعتذر للمدنيين" كأن الاعتذار يكفي لإعادتهم الى الحياة. وهو مثل ان يطعن رجل رجلاً آخر بسكين، ويقول "بردون". مقابل أحقر اعتذار كان هناك أغرب اعتذار، وهذا طلع به فريق من المسيحيين الأوروبيين والأميركيين زاروا الأراضي المقدسة في "مسيرة مصالحة"، ووصلوا الى لبنان بعد ذلك وهم يرتدون قمصاناً سجلوا عليها اعتذارهم بالعربية عن الحملات الصليبية. من يعتذر عن الحملات الاسرائيلية على الفلسطينيين واللبنانيين؟ لا نتصور ان بنيامين نتانياهو، أو أي رئيس وزراء اسرائيلي، سيعتذر يوماً عن احتلال الأرض، وقتل سكانها أو تشريدهم. من يدري؟ ربما لقي "العابرون" الجدد، كما سمّاهم الشاعر محمود درويش، مصير العابرين القدامى، وإذا عشنا لنرى هذا اليوم، فهو أفضل من أي اعتذار. ولن أزيد لأن البروفسور ادوارد سعيد كتب عن هذا الموضوع في "الحياة" مرة بعد مرة. غير أنني اختتم باعتذار كلاسيكي قديم، فقد اتهمت صحيفة نصف الوزراء في الحكومة بأنهم مرتشون. وقامت عليها قيامة لم تقعد، وأخيراً نشرت الصحيفة اعتذاراً قالت فيه انها أخطأت وتعترف بأن نصف الوزراء غير مرتشين. الاعتذار هذا لم يحدث في بلد عربي، فاقتضى التنويه.