عندما مر كريستوفر كولومبس قرب جزيرة كوبا العام 1492، كتب: "لم أر في حياتي مكاناً أكثر جمالاً ... عشب مخضوضر، أزهار وثمار وطيور صغيرة لا تحصى، تزقزق بأصوات عذبة. هذه الجزيرة هي أجمل ما وقعت عليه العين". لا شك في أن مكتشف "العالم الجديد" صادق، فكوبا لا تزال من أجمل بقاع الارض، خصوصاً منطقة بينار ديل ريو، حيث مزارع التبغ وحقول قصب السكر. ما إن يغادر الزائر العاصمة هافانا متجهاً ناحية الجنوب الغربي، ماراً عبر حي ميرامار الذي توجد فيه منازل السفراء الأجانب بحدائقها المنسقة، حتى تنداح الارض خضراء على مدى البصر. تطغى على مشهد الخضرة في البداية حقول قصب السكر الذي كلما مالت الريح بسيقانه الطويلة لاحت حمرة الرمال الشبيهة بالشفق، إيذاناً بالدخول في منطقة بينار ديل ريو السهلية المنخفضة. تتهادى شاحنة وحيدة في الطريق السريعة الخاوية. تغلب على هذه الطريق العربات التي تجرها الثيران ويرشدها سائس على ظهر حصان. ومن حين لآخر تطوي الشارع سيارات عتيقة لا تزال متحركة على رغم أنها تقوم بهذه المهمة منذ صنعها في الخمسينات والستينات. المقاهي الصغيرة التي يمكن المسافر التوقف عندها لتناول عصير قصب السكر مشيدة من جذوع النخيل وقصب البامبو البوص، ويصنع سقفها من القش. في هذه المنطقة يكتشف السائح أجمل مشاهد مرتبطة بأشهر محصولين تنتجهما كوبا: قصب السكر والتبغ. يقول المثل الكوبي: "لا تكون البلاد بلاداً من دون سكّر". ويمكن أن يضاف الى ذلك المثل القول إنه لا يوجد في العالم سيكار أشهر من السيكار الكوبي. ويقال إن منطقة بينار ديل ريو هي المنطقة التي تنمو فيها أجود أنواع التبغ في العالم. والواقع أن الاعلى جودة ينمو بوجه خاص في منطقة تسمى فويلتا أباجو. خارج الكوخ ترتفع درجة الحرارة حتى يخيل الى المرء أن الشمس ستمحو الشارع المسفلت. أما في الداخل فإن الحياة كوبية بكل ما في الكلمة من معنى: الكوبيون يحتسون عصير قصب السكر، وتأتي من أحد أركان الكوخ رائحة السيكار السميك من طراز "كوهيبا" الذي يبقى ساعة أحياناً ريثما تشتعل فيه النار. ويطرد الكوبيون الشعور بالكسل الناجم عن ارتفاع درجة الحرارة بالاستماع الى الموسيقى التقليدية القديمة التي نشأت عنها موسيقى وإيقاع الساسلا اللاتيني الشهير. في الطريق الى بينار ديل ريو، تختفي رويداً رويداً حقول القصب والحمضيات لتغلب على المساحات الممتدة أشجار التبغ. وعلى رغم أن هذه المنطقة غنية بمواردها الطبيعية، إلا أن سكانها فقراء للغاية. وفي كثير من الحالات لا تزيد مساحة مساكنهم على حجم الأكواخ. ومع ذلك فإنها محاطة بسياج من نبات "الكركدي". وحين يحل المساء تتنادى النساء للجلوس على كراسي هزازة، ينفثن دخان السيكار وهن يهدهدهن حفدتهن. والكوبيون أناس مفعمون بالعاطفة الانسانية، لا تكتمل التحية عندهم إلا بالملامسة. كل شيء عندهم لا بد أن يكون له بعده الشخصي والخاص. وعلى رغم أن الكوبي يبدو دوماً مسترخياً غير مهموم بشيء، فهو حين تبرق له بارقة أمل في عمل أو نجاح يكون مستعداً للسير ألف ميل ليحقق ما يحلم به. منذ الوهلة الاولى يدرك الزائر أن كوبا مجتمع بلا طبقات، بمعنى أن الفقراء هناك لا يخدمون من أجل أسياد أغنياء. وفيما تبدو على الجميع ملامح الارهاق والعناء والكفاح مع طوابير الخبز والوقود، إلا أن كل مواطن يحصل في نهاية المطاف على حاجته الأساسية التي تتعلق بالخدمات الصحية والتعليم الجامعي والثقافة. ومع أن مقاطعة بينار ديل ريو هي الأكثر استقطاباً للسياح، إلا أنها أقل تطوراً مما يتوقع كثيرون. غير أن المناظر خلابة حقاً، خصوصاً بموازاة الساحل، وفي السهول التي تنتشر فيها أشجار النخيل الباسقة. ومن الاماكن التي يقصدها السياح هناك تلك المنطقة التي تبرز فيها تكوينات صخرية طبيعية أشبه بأعمال النحاتين. وحين تدخل عاصمة المقاطعة تأسرك مساكنها العتيقة. وتخرج منها الى بلدة سوروا حيث الحدائق الغناء والغابات التي تتمتع فيها العين بالمشاهد الطبيعية الساحرة، والشلالات التي تتدفق منها المياه، ويوجد هنا فندق يوفر أسباب الراحة للسائح. أما أهم معالم هذه المقاطعة فتتمثل في سلسلة جبال غوانيغوانيكوس التي تنطلق من ثلاثة وديان متقاربة لتناطح السحاب. ويقصد علماء الحيوان والفيزياء والنبات أحد تلك الوديان وهو وادي فيناليس الغني بنباتاته وحيواناته. وتتخذ التكوينات والنتوءات الصخرية في بطن الوادي أشكالاً مثيرة للإعجاب، تحف بها النباتات الخضراء من كل جانب، وتبدو من حين لآخر الكهوف والمغارات والأنهار الصغيرة. وقد كان السكان الاصليون يستخدمون هذه الكهوف مساكن إثر استيلاء اسبانيا على المنطقة. وتحولت لاحقاً الى مخبأ للرقيق الذين كانوا يؤثرون الفرار من أسيادهم للنجاة من بطشهم. وأكبر كهوف الوادي هو "الكهف الهندي" والذي تمور في باطنه حياة كاملة تحت الارض، بما في ذلك نهر جار وأزهار بديعة الألوان. أما تناول أطايب الطعام في الفنادق الكوبية فيمثل عذاباً شديداً للضمير، إذ لا يستطيع المرء أن يملأ معدته بأصناف الطعام الفاخرة وهو يدرك أن الكوبيين خارج جدران المطعم يعانون نقصاً شديداً في الغذاء. وسرعان ما تتحول الوجبة داخل مطعم الفندق الى ما يكفي لسد الرمق وبقاء الحياة. وكم يشعر السائح بالأسى وهو يرى مائدة المطاعم الكوبية تفتقر الى أصناف الأسماك التي تزخر بها المياه التي تحيط هذه الجزيرة الجميلة. الممتع في مطاعم الجزيرة أن موسيقى "السون" الفولكلورية التي يقدمها عازفو الاوزغ والبيانو تجتذب الاهالي حتى في منتصف النهار ليرقصوا بحماسة وانسجام. والواقع أن موسيقى "السون" هي أصل موسيقى "السالسا" التي تجتاح أميركا اللاتينية بأسرها. إنها أشبه بموسيقى "سكا" الجامايكية التي تعتبر الاب الشرعي لموسيقى "الريغي". وفي مطعم آخر قد تجد فرقة موسيقية مكتملة تصدح بالانغام الكوبية حتى يهتز الحاضرون طرباً. وبالطبع فإن من أشهر إيقاعات الكوبيين "الرومبا" التي تتحول الى ما يسميه الاهالي "غواغوانكو" بعد إضافة كلمات خفيفة للموسيقى والايقاع. وهناك أيضاً إيقاع "المامبو". ولديهم أيضاً موسيقى حالمة ورومانسية يطلقون عليها موسيقى المشاعر! وعلى رغم تنوع الاشجار والنباتات والغابات في وديان بينار ديل ريو، إلا أن العاصمة ومدينة فيناليس محطتان لا بد من الوقوف عندهما، أو على الأقل المرور عبرهما للتطلع الى الطراز المعماري الفريد لمبانيهما. ويوجد في مدينة بينار ديل ريو عدد من مصانع السيكار، وهي نفسها مواقع تستحق الزيارة حتى لو لم يكن السائح من المدخنين. فضلاً عن أنها علامة من علامات الثورة الكوبية. وبوسع الزائر أن يشاهد حقول التبغ نفسها، ثم المواطنين وهم يحصدون أشجار التبغ، وفرق منهم تقوم بعمليات سحقه ليتحول مادة تصلح للحرق في الغليون أو للشم. ويعد سيكار "كوهيبا" الاغلى ثمناً حتى في كوبا نفسها. ومن أبرز الشخصيات في مصانع السيكار "القارئ" الذي يعين خصيصاً ليقرأ كل يوم فصلاً أو فصولاً من كتاب على عمال مصنع السيكار أثناء ساعات الدوام. وعادة ما يعمد القارئ الى مطالعة بالصوت العالي لصحف اليوم في الفترة الصباحية، ويقرأ للعمال في فترة بعد الظهيرة فصلاً من رواية أو شيئاً من تاريخ البلاد أو رسالة سياسية معينة تريد السلطات إبلاغها الى العاملين. ولعل كوبا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تخصص فيها لوحات الطرق الاعلانية الضخمة ليس لبث الدعاية للمنتجات الاستهلاكية المعروفة في العالم مثل كوكاكولا أو مطاعم ماكدونالد، وإنما لبث شعارات ثورية. ومن تلك اللافتات لوحة ضخمة على الطريق السريعة كتب عليها: "الثورة لن تبيع نفسها ولن تستسلم"، وتقرأ لافتة أخرى: "الوطن أو الموت".