"عشية رحيله، كنا قد قمنا مرة ثانية بتلك الرحلة التي بدت كأنها لن تنتهي وكنا انطلقنا من سبليت الى موستار، في البوسنة. كان جيان - ماريا مفعماً بالحماس من دون اي سبب ظاهر، كان يغني ويبكي، جالساً وحده في المقعد الخلفي من الباص وهو ينشد "المارسياز". عند المساء، في الفندق كان يبدو مثل شخص ينتمي الى القرن التاسع عشر، غارقاً في افكاره. وفجأة قال لي :"انها الضفة اليسرى". واضح ان موته الحتمي في تلك اللحظة كان يعيده الى ذلك المكان الذي تكونت فيه الثورات السياسية والفنية - او هذا هو على الاقل تفسيري لما قاله. من الممكن فهم عبارة "انها الضفة اليسرى" بمائة طريقة وطريقة. لقد قال لي "انها الضفة اليسرى" ومات. كنت الى جانبه في تلك اللحظة. وهناك ولد هذا الفيلم". هكذا يتحدث المخرج ثيو انجلوبولوس عن اللحظة التي ولد فيها فيلمه "الابدية ويوم واحد" الذي فاز بالسعفة الذهبية في الدورة الحادية والخمسين لمهرجان كان السينمائي. هذا الفيلم الذي ولد في لحظة موت جيان - ماريا فولنتي، اتاح لأنجلوبولوس ان يثأر بعد عامين من تلك اللحظة التي وقف فيها على خشبة الحفل الختامي لمهرجان كان، معلناً بقسوة وجفاء غضبه لأنه لم يفز حينذاك بالسعفة الذهبية عن فيلمه السابق "نظرة أوليس"، بل فاز بثاني اكبر جائزة، وهي جائزة "لجنة التحكيم الكبرى". هذه المرة، وباسلوبه الجاف نفسه، ومظهره الذي يشبه مظهر صيدلي اخفق في حياته وتحقق للتو أن زوجته تخونه مع مساعده الشاب، وقف انجلوبولوس يشكر لجنة التحكيم بكلمات مقتضبة لا حماس فيها ولا حيوية، وكأن اللجنة لم تفعل اكثر من قيامها بواجب تأخر. لقد أتى اسلوب ثيو انجلوبولوس في استقبال فوزه الباهر متناقضاً في شكل مدهش مع اسلوب الممثل الايطالي روبرتو بينيني، فما ان اعلن عن فوزه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلمه "الحياة حلوة" حتى اعتلى المسرح وانبطح ارضاً امام قدمي مارتن سكورسيزي المأخوذ دهشة واستغراباً، وراح يقبلهما، ثم طاف يقبّل اعضاء لجنة التحكيم فرداً فرداً. لكن بينيني كان بتصرفه الساخر بامتياز اميناً لسمعته كممثل ظريف ومخرج مدهش ومهرج من طراز رفيع. ومزاح بينيني الصاخب جاء في واحدة من اقوى لحظات حفل ختامي لم يحمل اية مفاجآت على الاطلاق. فالحال ان كل ما اعلن من نتائج كان متوقعاً تقريباً، لا سيما فوز "الابدية ويوم واحد" الذي عرض في اليوم الاخير للمسابقة الرسمية وحظي بثناء الجميع ولم يعد ثمة شك في انه سيفوز. طغيان الممثلين ولئن ربط ثيو انجلوبولوس فيلمه بحكاية موت صديقه الممثل الايطالي الكبير جيان - ماريا فولنتي من ناحية، وتحدث طويلاً من ناحية ثانية عن صديقه الممثل الايطالي الكبير الآخر مارتشيلّو ماستروياني، الذي توفي بدوره فيما كان المخرج اليوناني يحضر لتصوير هذا الفيلم، فإنه بهذا وضع فيلمه تحت راية ممثلين كبيرين. وبعيداً عن سيرة الغياب والغائبين، تمتع الممثلون بحضور طاغ في هذا المهرجان فضلاً عن أن الفيلمين الايطاليين المشاركين في المسابقة الرسمية كانا من اخراج ممثلين كبيرين هما روبرتو بينيني "الحياة حلوة" وناني موريتي "أبريل". في "الابدية ويوم واحد"، نجد أنفسنا أمام عجوز مشرف على الموت وهو في طريقه الى مستشفى يعرف انه لن يخرج منه حياً، لكنه يلتقي وسط يأسه واحتضاره بطفل ألباني لايحمل اوراقاً رسمية ويبدو بلا مستقبل، فتنشأ بين الاثنين علاقة انسانية تحول الفيلم الى أغنية للحياة والحرية بدلاً من ان يكون نشيداً للموت. ومن الواضح ان هذه السمة هي التي اثارت اهتمام لجنة التحكيم برئاسة مارتن سكورسيزي في فيلم يحمل الرقم 11 بين اعمال مبدع لم يفشل في اي فيلم له حتى الآن، بل بات منذ فيلمه "ايام 36" يعتبر من معلمي السينما الاوروبية الكبار، وهي مكانة عززتها افلامه التالية مثل "الاسكندر الكبير" و"رحلة الممثلين" و"مربي النحل" و"خطوة البجعة المعلقة" ثم "نظرة أوليس" ذلك الفيلم الساحر الغريب. وهكذا رسخ انجلوبولوس مجدداً مكانته بفيلم "الابدية ويوم واحد" فاستحق السعفة الذهبية عن جدارة بالطبع. الأطفال في عالم متغير وبدوره كوفىء روبرتو بينيني بجائزة مهمة عن فيلمه الذي أثار الاعجاب، على رغم الحملة التي تعرض اليها باعتباره "لا يأخذ المحرقة اليهودية مأخذ الجدية". اذ ان هذا الممثل-المخرج الذي تعاون مع فيليني في آخر افلامه "صوت القمر" فأتخذت شهرته بعداً عالمياً، اختار ان يروي في فيلمه الجديد حكاية أب يهودي من توسكانيا يُزج به في معسكرات الاعتقال النازية مع اسرته فيلجأ الى حيلة ذكية لطمأنة طفله هي ان كل ما يراه انما هو لعبة كبيرة. والادهى أن الاب يصدق كذبته في النهاية، لأن الرعب، رعب المحرقة في رأي بينيني كان اكبر وأبشع من ان يصدق. براءة الطفولة تنقذ شيخ "الابدية ويوم واحد" في نهاية ايامه، وتساعد بينيني على احتمال مصيره في "الحياة حلوة". براءة الطفولة حاضرة ايضاً، ولكن من منظور آخر، في فيلم "صف التزلج" للفرنسي كلود ميلر. وميلر ليس جديداً على عالم الطفولة، اذ ان الاطفال كانوا الشخصيات الرئيسية في افلامه خلال الاعوام العشرة الاخيرة. لكن طفولة الفتى نيقولا التي يصورها في "صف التزلج" تشرخها ذكريات تتعلق بأبيه، ويعيشها خلال رحلة تزلج تقوم بها المدرسة. فيلم شفاف لكن مخرجه يضيع فيه، بين شاعرية مستحبة ومشاهد تقع بين الحلم والواقع، بين الرؤية الكابوسية والاحلام الوردية. نال فيلم كلود ميلر هذا جائزة لجنة التحكيم الخاصة شراكة مع الفيلم الدانمركي "الاحتفال" من اخراج توماس فنتربرغ. وفي الحقيقة لم يلفت الشريط الاخير انظاراً كثيرة، لكن فضيلته تكمن في انه عرف كيف "يغيظ" الدانمركي الآخر لارس فون تراير، صاحب فيلم "الحمقى" الذي كان الكثيرون يتوقعون له ان يكون واحداً من احداث المهرجان الرئيسية لكنه خيّب فأل الجميع، ورمى الى الظل بمخرج يبدو انه انتفخ كثيراً منذ فوزه الساحق قبل سنوات في مهرجان كان عن فيلمه الرائع "تحطيم الامواج". جائزة افضل سيناريو ذهبت الى فيلم هال هارتلي "هنري فول". وهنا ايضاً نحن امام فيلم مغلف بالبراءة، ولكنها براءة الفن بدل براءة الطفولة. هل يمكن للفن الحقيقي ان يوجد؟ هل يمكنه ان ينقذ العالم من عفونته؟ هذان هما السؤالان اللذان يطرحهما هال هارتلي صاحب "رجل بسيط" و"هاوي على نفسه في فيلم يذكر الى حد ما ب"السقامات" لصلاح أبو سيف. فهنا لدينا ذلك الانقلاب الشهير في الادوار، بين بائس يزرع الحياة في قلب انسان آخر. الفيلم يتناول العلاقة بين هنري وسيمون، الاول خريج سجون يحلم أن يؤلف نصاً يقلب العالم ومفاهيم الكتابة، والثاني زبال، تروق له كتابة الشعر لكنه لا يجد طريقه اليه. والعلاقة بين الاثنين تدفع سيمون الى نظم قصائد ينال بفضلها جائزة نوبل، بينما يتحول هنري الى زبال! فيلم طريف وجيد فيلم هال هارتلي، ينتمي الى سينما انسانية وبريئة عرفت كيف تهيمن على مهرجان كان. مارتن كاهيل، الشخصية الرئيسية في فيلم "الجنرال" لجون بورمان، تبدو لنا اقل براءة من بطلي هارتلي. فالرجل زعيم عصابة يحاول ان يلعب في دبلن، ومن خلال علاقته بالجيش الجمهوري الايرلندي دور "روبن هود" مما يعود عليه بشعبية رغم اجرامه. يتتبع الفيلم حياة الشخصية الاساسية منذ الطفولة في مشاهد استعادية بالغة القوة، حتى اعدامه على يد الجيش الجمهوري الايرلندي بعد ان صار عبئاً على هذا التنظيم. بورمان الذي حقق منذ اكثر من ثلاثين عاماً أفلاماً تعتبر من القمم في تاريخ السينما المعاصرة من "نقطة اللاعودة" الى "اكسكاليبور" ومن "صراع في المحيط الهادئ" الى "ليو الاخير" و"الامل والمجد"، يقدم هنا شريطاً مؤثراً، جريئاً، يقوم على لعبة الممثلين ويطرح التساؤلات عن مفهوم المجرم والبطولة. ونال السينمائي المعروف عن فيلمه جائزة افضل مخرج كانت لاتكفي للاحتفاء بهذا الشريط الجدير بمكافأة أهم في رأي كثيرين . "انه يستحق اكثر من هذا" كان التعليق الذي ساد بعد ان اعلن عن فوز فيلم "اسمي جو" للانكليزي الآخر كين لوتش بجائزة افضل تمثيل رجالي لبيتر مولن الذي اعتلى خشبة المسرح لنيل جائزته وهو يرتدي "التنورة الاسكتلندية" الشهيرة. وبعد شريطه "اغنية كارلا" حيث تناول الصراع في نيكارغوا وابعاده العالمية، يعود لوتش الى المواضيع الانكليزية الخالصة ب "اسمي جو" الذي تدور احداثه في مدينة اسكتلندية عن رجل تجاوز الاربعين استطاع أن يتخلص من ادمان الكحول ليتفرغ للعشق ولكرة القدم. والسينمائي الكبير الذي تميز بافلام تستمد نسغها من الواقع الذي يصوره لوتش ببراعة ورهافة نادرتين،نحا منحى مختلفاً الى حد ما هذه المرة، اذ جمع في شريطه الجديد بين الواقعية الحميمة والبوليسية التي تضاهي باثارتها افلاماً هوليودية. وصوّر فيلمه وكأنه يصور ألبوماً عائلياً فيه الطرافة والامل، فضلاً عن ذلك الوصف القاسي لبريطانيا ما بعد مارغريت تاتشر التي تثير هواجسه ببؤس اهلها وفقرهم وحياتهم المليئة بالخيبات. من هنا كان من الطبيعي لهذا الفيلم ان يكون فيلم شخصيات وممثلين في المقام الاول، مثل معظم افلام المسابقة الرسمية في المهرجان، وكذلك التظاهرات الموازية. فرنسية صبية ومشعّة باستثناء هال هارتلي، الذي قد يحلو له على اي حال ان يعتبر نفسه أوروبي المنحى، خرجت السينما الاميركية من مولد من دون حمّص، هي التي افتُتح بها المهرجان "ألوان أساسية" وبها اختتم ذلك الاختتام الفظيع مع فيلم "غودزيلا"، وكان رئيس لجنة التحكيم مارتن سكورسيزي وبعض ابرز اعضائها واينونا رايدر وسيغورني ويفر من الاميركيين. في المقابل، خرجت فرنسا بحصة لابأس بها، ولا سيما بجائزة افضل ممثلة التي منحت شراكة لايلودي بوشيه وناتاشا رينييه. وعلى رغم اجادة ناتاشا أداء دور ماري المتمردة في الفيلم الذي مثلته الى جانب ايلودي وحقق لهما الفوز وهو "حياة الملائكة في الحلم"، فإن كثيرين تساءلوا عن سر هذه الشراكة بين ممثلة جيدة ناتاشا وممثلة رائعة ايلودي. والحقيقة ان ايلودي تألقت وسيطرت على المشاهدين منذ لحظة ظهورها في اللقطات الاولى من الفيلم، بعينيها الساحرتين وشعرها البني وجسدها الصغيرالذي يذكر من ناحية بجولييتا ماسينا في "الطريق" وبنجمات هوليوود في الثلاثينات حسب تعبير مقال نشرته صحيفة "لوموند" عن هذه الممثلة. هذه الصغيرة التي اكتشفها سيرج غيسنبورغ وقدمها في واحد من اجمل افلامه، كانت قد برزت في دور اساسي قبل سنتين في فيلم "القصب البري" لأندريه تيشينه، وفازت يومها بسيزار افضل ممثلة واعدة في السينما الفرنسية. لكنها الآن، تشع مثل النجوم الكبار، ومن هنا ضج المكان بالتصفيق لجائزة استحقتها ممثلة كان لها في تظاهرة اخرى في المهرجان فيلم آخر لفت بدوره الانظار عنوانه "لويز: لقطة ثانية" من اخراج زيغفريد! تلك كانت، باختصار، الجوائز الرئيسية في مهرجان تميز هذا العام بجودة افلامه، وبحضور الاسماء الكبيرة في عالم السينما الجادة والطليعية فيه. لكنه، في المقابل، لم يتميز بأية سمة استثنائية من حيث استقباله عدداً من كبار نجوم السينما العالمية، وهو امر اشارت اليه، في شكل مبطن، الفنانة ايزابيل اوبير التي قدمت حفلتي الافتتاح والختام، فأضفت عليهما طابعاً بشوشاً وصارماً في الوقت نفسه. إضراب الطائرات في انتظارهم مهرجان جدي، وأفلام طليعية! ولكن هل يمكن لمهرجان ان يكون فقط هكذا؟ "بالطبع لأ"... كما تقول الاغنية المصرية الشهيرة. ومن هنا كان التناقض صارخاً بين حفلة ختامية يتوجها منح السعفة الذهبية لثيو انجلوبولوس عن فيلمه العذب والهادئ، وعرض الختام الذي كرّس لفيلم "غودزيلا" عن وحش خرافي "يفوق حجمه حجم فندق الكارلتون" كما قالت الدعايات. والحال ان عرض هذا الفيلم الخرافي - الذي لم يفتْ مخرجه أن يضفي عليه نزعة انسانية، هو الآخر - اتى ليذكر اهل كان، بأن هذا المهرجان هو تظاهرة الضخامة والانتفاخ والنجوم والسينما التجارية الشعبية. وعلى هذا النحو تكرس مرة اخرى ذلك التناقض بين شكل مهرجان كان ومضمونه، وتفجرت تلك التناقضات التي لاتفتقر، على اي حال، الى السحر. ومن مفاجآت المهرجان العربية لهذا العام كانت الخيمة التي نصبتها احدى محطات التلفزة العربية، على الشاطئ في مواجهة فندق "كارلتون". ووجد مندوبو المحطة صعوبة في الاتصال بالنجوم وفي تشكيل حلقات نقاش ممتع عن الافلام فانعكس ذلك على التغطية. أما الحضور العربي الآخر فكان ليوسف شاهين الذي ألقى "درس السينما" الذي اعتاد ان يقدمه في كان كبار مخرجي السينما العالميين، فاجتذب اكثر من ألفي مستمع وكانت المناسبة طافحة بمتعة حقيقية واطلالة عربية ذكية. عدا يوسف شاهين كان هناك نجوم عرب كثيرون، ونقاد اكثر، وقسم خاص بالجزائر غلبت عليه السياسة وغاب عنه الفن، مثل كل ما له علاقة بالجزائر هذه الايام... وفوق هذا وذاك فيلم لبناني هو "بيروت الغربية" يستحق ان يتم تناوله في غير هذه العجالة. صباح الاثنين الفائت، فيما كان عمال التنظيفات يتجولون في ازقة كان وحواريها لازالة ماتبقى فيها من آثار الدورة الحادية والخمسين، كان ألوف الزوار يتراكضون الى مطار نيس للعثور على طائرة تحملهم بعيداً، لكن الاضراب كان هناك بالمرصاد ينتظرهم ويخيب آمالهم. وكأن طياري شركة "اير فرانس" المضربين، شاؤوا ان يذكروا أهل المهرجان بالدرس الذي تعلموه للتو: الواقع الاجتماعي لايزال ماثلاً امامنا بقسوته وظلمه، كما تشهد معظم افلام كان لهذا العام؟.