تعرض شارع الصحافة المصرية لهزتين قويتين، فبينما كان الصحافيون يتابعون اجراءات ادارية بالغاء التصريح بطبع 210 صحف تصدر بترخيص من الخارج، وبلاغات الى النيابة من مسؤولين وشخصيات عامة في حق رؤساء تحرير وصحف اخرى، صدر حكم قضائي نهائي بحبس كل من رئيس تحرير صحيفة "الشعب" التابعة لحزب العمل المعارض وصحافي آخر من محرريها. وبصرف النظر عن الفرق بين نوعي الحدثين، فإن ترافقهما بدا وكأن التطورات الاجتماعية وصراعاتها السياسية يجري "صحفنتها"، إذا جاز التعبير. واصبح ملف الصحافة مفتوحاً لمشروعية اعادة نظر الاطراف في ترتيبات البيت الداخلي لشارع الصحافة. واذا كانت مسألة رئيس تحرير "الشعب" وزميله ما زالت تتفاعل في الكواليس على أمل اجراء تسوية توقف تنفيذ الحكم، فإن المؤشرات تفيد بأن الادارة من جهة ونقابة الصحافيين من جهة اخرى بدأتا "وقفة" مع ما أصبح يسمى "صحف الاثارة والفضائح". لقد طرح هذا التطور بعد أقل من عامين على تسوية أصعب أزمة بين الصحافة والحكومة القانون 93 لسنة 1995، على الصحافة مواجهة أصعب وأشق مع نفسها هذه المرة، ذلك أن الحكومة تجاوبت مع تعديلات على القانون طالب بها الصحافيون وقتها، في مقابل أن يتولوا بمعرفتهم - عن طريق نقابتهم - ضبط ومحاصرة اتهامات كثيرة لصحف كثيرة تشكل ظاهرة "الخروج على تقاليد وأخلاقيات المهنة والمجتمع". وهي حسب وصف رجاء الميرغني عضو مجلس نقابة الصحافيين "ظاهرة حقيقية وليست مفتعلة وتعكس اوضاعاً سلبية عدة"، ما أدى الى صدور قرار من مجلس النقابة ب "تشكيل لجنة خاصة لآداب المهنة". وكانت الشكاوى والاتهامات بلغت ذروتها في الاسابيع الاخيرة، ضد ما سمي ب "صحف الإثارة والفضائح" أحياناً، أو "دكاكين الصحافة الصفراء" أحيانا أخرى. فقد توالى عدد البلاغات الى النيابة العامة وعدد الشكاوى الى نقابة الصحافيين، من مسؤولين وشخصيات عامة ورجال اعمال ومواطنين. ومن ابرزها البلاغات للنيابة مثلا، بلاغ وزير الاوقاف الدكتور حمدي زقزوق ضد ممدوح مهران رئيس تحرير صحيفة "النبأ". وقد احاله النائب العام الى محكمة الجنايات بتهمة التشهير بالوزير وزوجته، اذ ادعت الصحيفة أنها يهودية تتدخل في شؤون الوزارة. كذلك بلاغ وزير المال الدكتور محيي الدين الغريب ضد صحيفة "مصر الفتاة" التي يصدرها حزب بالاسم نفسه، لانها "نشرت معلومات واخبار غير صحيحة عن تصرفات للوزير ضارة بالاقتصاد القومي، وفيها مساس بسمعته وتلحق الضرر الاقتصادي بالوطن". الى ذلك كان بلاغ المستشار محمد موسى رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب ضد محمد عبدالعال رئيس تحرير صحيفة "الوطن العربي" التي يصدرها حزب العدالة الاجتماعية وهو في الوقت نفسه رئيس الحزب وعضو مجلس الشورى. وكانت الصحيفة ادعت بأن موسى عمد فور علمه بقرب صدور قانون جديد لإيجارات المساكن، الى شراء عمارات في وسط القاهرة ثم باعها محققاً ارباحاً بالملايين، وقد تحدى المستشار الجريدة أن تثبت ملكيته لأي شقة في مصر كلها. واما شكاوى رجال الاعمال والمواطنين الى نقابة الصحافة، فانصبت على اتهام صحف "الاثارة" ب "الابتزاز" والقذف والتشهير وانتهاك تقاليد واخلاقيات المجتمع. واللافت ان تحقيقات اولية للنيابة كشفت ان رؤساء تحرير بعض هذه الصحف لا صلة قانونية لهم بالجريدة أو انهم مشطوبون من جدول عضوية نقابة الصحافيين. ومن المفاجآت التي كشفتها التحقيقات ان حزب "مصر الفتاة" مُجمّد هو نفسه مع إصداراته الصحافية بموجب حكم قضائي الى حين اتفاق اعضاء الحزب على تسمية رئيسه. وهو ما لم يتم حتى الآن. وليس سراً أن الوسط الصحافي المصري يعاني منذ فترة سلبيات تيار عشوائي اقتحم شارع الصحافة من دون تأهيل مهني. ووظّف المساحة الصحافية التي اصدرها بشكل منفلت، في تصفية حسابات بين اصحاب مصالح. والى ذلك فإن التغييرات العميقة التي افرزها الانفتاح الاقتصادي في السبعينات من جهة، وتلك التي ترافقت مع عملية التحول الى اقتصادات السوق بعد ذلك من جهة اخرى، خلقت جماعة سعت الى اصدار صحف لتعزيز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. من هنا هبت عاصفة اصدارات الصحف. وانفلت بعضها من عقال بعض الاحزاب حزب الاحرار مثلاً حيث يعطيها القانون حق تعدد الاصدارات الصحافية. فقام بعضها بالاتجار ببيع تراخيص عدد من اصداراته بزعم ان ذلك احد موارد تمويل الحزب. اما الانفلات الاكبر فهو ما يسمى ب "ظاهرة الصحافة القبرصية". اي تلك الصحف التي يحصل اصحابها على تراخيص اصدار لها من خارج مصر خصوصاً من قبرص ويتم طبعها وتوزيعها داخل مصر. وكان عددها بلغ 240 صحيفة. فضلا عن قانون الصحافة الذي صدر العام 1996 وسمح باصدار صحف مستقلة من خلال تأسيس شركات. وكان تقدم خلال عام واحد من صدور هذا القانون نحو 24 شركة، فيما تأسس منها بالفعل نحو اربع صحف. واللافت ان كثيرا من هذه الصحف انتهجت اسلوب الاثارة على كل المستويات. ففي السياسة دأب على مهاجمة بعض السياسيين والقذف في حقهم بزعم انهم "باعوا الوطن"، وانتقاد رجال اعمال بعنف بزعم انهم "فسدة"، لكن الاكثر بروزاً تجاوز اللغة "الفضائحية" الحدود، سواء في حق افراد، ام مجموعات، ام حتى في حق سيدات مجتمع. وفي مواجهة الاحتجاجات والبلاغات ورفع دعاوى قضائية بالسب والقذف، لجأ بعض هذه الصحف الى الاكثار من المواد الجنسية بالصور شبه العارية او حتى بالتحايل لنشر وقائع المباشرات الجنسية. ومن ذلك مثلا "زواج الجن بنساء" وهي بالطبع قصص مفبركة لا أساس لها، لكنها تسمح للصحيفة بنشر صور شبه عارية وتفاصيل جنسية على لسان اصحابها الوهميين رامزة اليهم بالحروف الاولى من اسمائهم الوهمية، وعادة ما تنشر هذه الصحف اخباراً وتلميحات في حق مسؤولين وشخصيات عامة وافراد لا تلبث الصحيفة نفسها ان تنفيها في أعدادها التالية، بعد تحقيق مآربها. وخلال العام الماضي وحده، كما يقول يحيى قلاش الامين العام المساعد لنقابة الصحافيين ل "الوسط"، "تلقت النقابة عددا كبيرا من الشكاوى، فاقت اي مرحلة سابقة في تاريخ النقابة، وكلها تتعلق بتجاوزات صحف الاثارة والفضائح للممارسات الصحافية". واضاف رجاء الميرغني عضو مجلس النقابة بأنها "بلغت في المتوسط 10 شكاوى في الشهر الواحد". الا ان الفارق كبير بين ظروف الادارة والصحافيين معاً خلال ازمة القانون 93 لسنة 1995، وظروف "الوقفة" الحالية ضد صحف الاثارة والفضائح. ففي حين توحد الصحافيون ضد القانون الذي رأوا فيه "قيداً" على حرية الصحافة، وكان الرأي العام يقف الى جانبهم، فإنهم يواجهون هذه المرة انتقادات حادة من الرأي العام نفسه وعدم تقبل ممارسات هذه الصحف داخل الوسط الصحافي والحكومة معاً، الأمر الذي بدأت معه الصحف القومية والحزبية الجادة تبرئ نفسها من زمالة صحف الاثارة، وتشن حملات ضدها ومطالبة النقابة والادارة معاً بوقفة لمواجهة هذه الظاهرة، خصوصاً ان صحف الاثارة والفضائح تمكنت من زيادة ارقام توزيعها وتجاوزت رقم 150 ألف نسخة في اصداراتها الاسبوعية، ما ترك آثارا سلبية واضحة على تراجع توزيع الصحف الجادة القومية والحزبية. امام هذا الانفلات عمدت الحكومة الى اتخاذ قرار بالغاء التصريح بطبع صحف تراخيصها في الخارج أو من دون تراخيص. وكانت وزارة الاعلام حاولت قبل ذلك معالجة الظاهرة عندما اصدر الوزير صفوت الشريف قرارا يقضي بألا يتولى رئاسة تحرير هذه الصحف إلا عضو من نقابة الصحافيين. لكن هذه الخطوة لم تحقق الهدف المرجو. وكان مجلس الشعب أقر قبل شهر قانوناً تقدمت به الحكومة في شأن الشركات، تضمن بنداً خاصا بالاصدارات الصحافية، حيث اشترط موافقة مجلس الوزراء على تأسيس الشركات التي من حقها اصدار الصحف، قبل التقدم بأوراقها الى المجلس الاعلى للصحافة. وهو ما اعتبرته نقابة الصحافيين قيداً اداريا على حق الاصدار يمثل تراجعا عما تضمنه قانون سلطة الصحافة الصادر في العام 1996. وحسب مصدر حكومي فإن ما جرى ليس قيداً وإنما تنظيم لإصدارات الصحف التي تضخمت بصورة كبيرة واثارت ارتباكا بسبب تجاوزاتها التي تعترف بها نقابة الصحافيين ذاتها. فضلا عن الشكاوى التي يتلقاها المسؤولون عن ضغوط تمارسها هذه الصحف ضد افراد وشركات من اجل الحصول على اعلانات في مقابل عدم اثارة الحملات ضدهم. وأضاف المصدر الحكومي قوله: "حرية الصحافة مكفولة بحكم الدستور والقانون وعدد الصحف الحزبية المعارضة يتجاوز 40 صحيفة يومية واسبوعية، ويصل حجم الاصدارات الصحافية التي يشرف عليها المجلس الاعلى للصحافة الى ما يزيد على 250 مطبوعة من كل الاتجاهات السياسية والفكرية، ما يؤكد عدم وجود نية للمساس بالحريات الصحافية. ويكفي ما تقدمه صحف المعارضة بل والقومية ايضاً من انتقادات لسياسات الحكومة". أما احزاب المعارضة فانتقدت، في اجتماع للجنة التنسيق بينها، تجاوزات صحف الاثارة التي اعتبرتها خروجاً على قيم وتقاليد المجتمع والمهنة، غير انها اعتبرت الحكومة مسؤولة عن ظاهرة صحف الاثارة. وأرجعت ذلك الى ما سمته بالقيود على حق اصدار الصحف فضلا عن سماحها بطبع هذه الصحف طوال السنوات الماضية. وبرأيها فإن اطلاق حرية اصدار الصحف هو العلاج الصحيح لهذه المشكلة، واكدت احزاب المعارضة ضرورة التزام الصحافة ميثاق الشرف الصحافي الذي تعطل تنفيذه لعامين بسبب عدم انعقاد المجلس الاعلى للصحافة خلالها. وعلى جبهة نقابة الصحافيين، فقد اصدرت بياناً استنكرت فيه "تجاوز القواعد المتعارف عليها للأداء الصحافي، وانتهاك حقوق القارئ والمواطنين وسمعتهم، ومخالفة ميثاق الشرف الصحافي". وقام المجلس بتسمية اعضاء "لجنة آداب المهنة" برئاسة النقيب مكرم محمد احمد للتحقيق في جميع الشكاوى المقدمة للنقابة مع احالة رئيس تحرير صحيفة "النبأ" الى لجنة تحقيق نقابية، ومطالبة المجلس الاعلى للصحافة بشطب اسم رئيس "حزب العدالة الاجتماعية" من عضوية المجلس بعدما تم شطبه من النقابة "لمخالفة كل قواعد وشرف المهنة". والواضح ان أبرز قرار اتخذته النقابة هو إبلاغ النائب العام بأسماء منتحلي صفة صحافي من دون ان يكونوا اعضاء في النقابة، وهو القرار الذي ترددت النقابة في اتخاذه لسنوات طويلة تحسباً لمشاكل يواجهها محررون في صحف من غير اعضائها فضلا عما قد يسببونه هم انفسهم من "صداع" للنقابة رغم عدم عضويتهم فيها. وعن هذه النقطة تحديداً، يقول عضو مجلس النقابة رجاء الميرغني إن "عدم وجود نقابيين في هذه الصحف يجبر النقابة على عدم التحقيق معهم لعدم خضوعهم لولايتها. فهى مسؤولة بحكم القانون عن اعضائها فقط. وهكذا لا أعتبر النقابة نفسها مسؤولة عن صحف الاثارة والفضائح التي صدرت بترخيص من قبرص. باعتبار انها تقع في نطاق مسؤولية ادارة الرقابة على المطبوعات في وزارة الاعلام". ويضيف الامين العام المساعد للنقابة يحيى قلاش "لقد طالب المجلس مراراً وتكراراً بمواجهة هذه الظاهرة لأن القانون لا يعطينا حق التدخل. لذلك فإن النقابة بريئة من هذه الظاهرة. وجزء من مشاكلنا مع الصحف "القبرصية" هو تشغيلها غير الصحافيين وانتهاك حقوقهم الوظيفية التي يقرها القانون المنظم لعلاقات العمل". ويجدر الذكر بأن النقابة كانت نبهت رؤساء تحرير صحف ذات تراخيص اجنبية بضرورة "الالتزام بحق الرد لمن ينشر في حقه خبر خاطئ". ويعتبر الميرغني ان قرارات منع طبع هذه الصحف في القاهرة لن يؤدي الى الحل المطلوب. فالحل الصحيح برأيه هو "اطلاق حرية اصدار الصحف وفق قواعد منظمة وليست معوقة". ان الأيام المقبلة حبلى بتطورات جديدة، ليس أقلها ان احدى الصحف المرخصة من قبرص وتم ايقاف طبعها مرشحة لإعادة الصدور بترخيص من حزب معارض. وعلمت "الوسط" ان الصحيفة دخلت في مفاوضات مع رئيس الحزب المعارض وعرضت دفع مبلغ مالي للحزب في مقابل الترخيص.