أعادت الأحداث الدامية التي شهدتها مقاطعة "كوسوفو" خلال الاسبوعين الأخيرين، تذكير العالم بأن "برميل البارود" البلقاني ما زال قابلاً للانفجار، وتهديد الأمن والسلام في أوروبا والعالم. وأعادت التذكير مجدداً بأن الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش ما برح مستعداً لاشعال البلقان لأسباب قومية صربية. ويحتفظ العالم بكل الدوافع الوجيهة للخوف من المواقف المغامرة التي تنتهجها حكومة بلغراد. ففي العام 1989 ألغى ميلوشيفيتش الحكم الذاتي في "كوسوفو" فاشتعلت الحرب فوراً في كرواتيا ثم في البوسنة - الهرسك ودامت حتى العام 1995 تاريخ توقيع اتفاقية "دايتون". وما كاد السلام يعود الى البوسنة حتى استأنف الرئيس الصربي اشعال النار في كوسوفو الأمر الذي يهدد بالعودة مجدداً الى استئناف الحرب في البوسنة، واتساعها لتشمل منطقة البلقان كلها التي تسببت باشعال حربين عالميتين. وكانت الأزمات الدورية فيها تهدد دائماً باشعال النار في أوروبا، ومن ثم في العالم، الأمر الذي يُفسّر سبب التحرك الدولي السريع لتدارك الموقف وكثافة الاتصالات التي شهدتها عواصم الدول الكبرى، خصوصاً تلك التي تشغل مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي. فهل تنجح هذه الاتصالات في وضع حد للمغامرة الصربية في كوسوفو، وهل تثمر الضغوط الكثيفة في حمل الحكومة الصربية على التراجع وتعطيل الصاعق الذي يقترب كثيراً من "برميل البارود" البلقاني؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال لا بد من العودة قليلاً الى الوراء، وبالتحديد الى العام 1995 الذي شهد توقيع اتفاقية "دايتون" التي وضعت حداً للحرب البوسنية. فقد تجاهلت تلك الاتفاقية السبب الأساسي الذي أدى الى اندلاع الحروب البلقانية، أي قضية كوسوفو وكان هذا التجاهل متعمداً، وربما شرطاً مسبقاً لقبول ميلوشيفيتش التوقيع على الاتفاق، لأن هذه المقاطعة تعتبر مهداً تاريخياً للقومية الصربية، ففيها خسر الصرب هيمنتهم على البلقان في العام 1389 أمام السلطنة العثمانية ومنذ ذلك التاريخ، ما انفكت كوسوفو تتحول الى مقاطعة ألبانية الطابع، الى أن أصبح الألبان يشكلون 90 في المئة من سكانها فيما يشكل الصرب 10 في المئة وظلوا يتوارثون النظر إليها بوصفها أرض ميعادهم، ويعتبرون التفريط بها بمثابة التفريط بأساس وجودهم، الأمر الذي يفسّر غياب هذه القضية الجوهرية عن طاولة المفاوضات في دايتون، ومبادرة الرئيس الصربي المبكرة في العام 1989 وبعد مضي ستة قرون، الى الغاء الحكم الذاتي فيها وبالتالي المغامرة بتفجير كل يوغوسلافيا السابقة الموروثة عن حكم الرئيس الشيوعي جوزف بروزتيتو. لكن "أرض الميعاد" الصربية هي أيضاً "أرض ميعاد" ألبانية مستمرة لأكثر من خمسة قرون، وتتجه اليها كل أنظار الدياسبور الألبانية وليس في تيرانا وحدها، وألبان الدياسبورا هم أضعاف سكان ألبانيا نفسها ويتطلعون الى وطن ألباني كبير يضم ألبانيا الأم وكوسوفو وجزءاً من بلغاريا وفويفودين ومكدونيا... الخ وهم أيضاً قوميون متشددون كالصرب ويفخرون بقوميتهم وينتمون الى الدين الاسلامي الذي ينظر إليه الصرب نظرة عداء بوصفه دين الفاتحين العثمانيين الذين استولوا على كوسوفو. المقاومة المدنية ولادراك أهمية هذه المقاطعة بالنسبة الى الألبان، تكفي الاشارة الى المقاومة الشاملة والمدنية التي يتبعونها منذ العام 1992 حين ألغى سلوبودان ميلوشيفيتش التعليم الرسمي الوطني فيها، الأمر الذي حمل السكان على افتتاح مدارس أهلية خاصة في أقبية المنازل وكاراجات السيارات وبالتالي مواصلة تربية أبنائهم تربية ألبانية ومناوئة للصرب، ومن ثم أعلنوا جمهورية مستقلة رداً على الغاء الحكم الذاتي، وشكل المهاجرون منهم حكومة في المنفى. وفي مقابل التمسك الألباني بالهوية القومية لكوسوفو، بادر الصرب الى تشكيل حكم صربي خالص في المقاطعة وفرضوا شرطة داخلية ذات عناصر صربية بالكامل وركزوا في المقاطعة وحدات عسكرية، وسلموا زمام الأمور فيها للأقلية الصربية وخلقوا بالتالي كل الشروط المناسبة للانفجار. وإذا كانت سنوات الحرب الكرواتية الصربية، والبوسنية الصربية، قد استأثرت باهتمام العالم وأجلت انفجار الوضع في كوسوفو، فإن انتهاء الحرب واستقرار الأوضاع نسبياً في البوسنة أعاد المسألة "الكوسوفية" الى دائرة الاهتمام، فاستأنف أبناء هذه المقاطعة مطالبتهم بالحكم الذاتي عبر المفاوضات مع حكومة بلغراد وحصروا تحركاتهم في الاطار السلمي البحت، ورفض تنظيمهم الرئيسي "الرابطة الديموقراطية" برئاسة ابراهيم روغوفا، تغطية أي عمل عنفي وأية ردود فعل ألبانية غير سلمية. وفي هذا السياق، اعتمد روغوفا سياسة الحد الأقصى من الاعتدال، وطرح على حكومة ميلوشيفيتش، العودة الى الحكم الذاتي على مراحل بدءاً بالتعليم والصحة، ومن ثم تشكيل جهاز للشرطة مختلط القومية صرب " ألبان. وتوصل الطرفان في العام 1996، بفضل ضغوط دولية، الى حلول واتفاقات سلمية تم التوقيع عليها رسمياً في بلغراد، غير أن الضغوط القومية الصربية أدت الى تعطيل هذه الاتفاقات فظلت حبراً على ورق ما أدى الى نشوء مأزق حقيقي. فمن جهة يخشى الصرب أن يؤدي تنازلهم في قضية التعليم الى سلسلة من التنازلات الأخرى التي تنتهي بحكم ذاتي في "أرض ميعادهم" ومن ثم خسارة هذه الأرض التي فقدوا من أجلها هيمنتهم على كل يوغوسلافيا السابقة، ومن جهة ثانية لم يعد التيار المعتدل الذي يقوده روغوفا قادراً على ضبط السكان من ذوي الأصول الألبانية، الذين بدأوا يكتشفون تدريجياً أن سياسته غير مجدية وأنها لن تفلح في كسر الطوق الصربي عنهم واستئناف حياتهم الطبيعية. سيناريو الكارثة من هذا المأزق، وبالتحديد بعد فشل روغوفا في حمل الصرب على تطبيق اتفاقات العام 1996، نشأت حركة مسلحة اطلقت على نفسها اسم "جيش تحرير كوسوفو"، بدأت تتصدى بالسلاح للشرطة الصربية في المقاطعة، وتركزت عملياتها في درينتشا على بعد 25 كلم من برينتشا عاصمة الاقليم، وقد دارت عمليات العنف الأخيرة في المدينة المذكورة وتركزت الأعمال العسكرية الصربية المضادة في القرى المحيطة بها. ولم تتأخر ردود الفعل على مجزرة درينتشا في العاصمة نفسها، حيث سار عشرات الآلاف في تظاهرات احتجاجية أدت إلى صدامات مع الشرطة الصربية. وعلى رغم اعلان الحكومة الصربية تصفية "جيش تحرير كوسوفو" وامتناع التيار الديمقراطي الألباني عن تبني هذا الجيش والاكتفاء بالتضامن مع الضحايا الذين سقطوا خلال الاشتباكات، فإن ظهور أعمال العنف الألبانية المسلحة وردود الفعل الصربية العنيفة التي تلتها، أدت إلى ارتسام ملامح لسيناريو الكارثة التي تخيم على هذه المنطقة ومن خلالها على البلقان وربما على أوروبا والعالم. وتتضح الملامح المذكورة من خلال ردود الفعل السريعة على ما جرى، فقد أعلنت البانيا الاستنفار العسكري الشامل، وركزت وحداتها العسكرية على الحدود تحسباً لهجرات مفاجئة من كوسوفو، وتحولت أحداث الاقليم إلى موضوع يومي للجدل والدعوات المحمومة لنجدة "اخواننا" وانتشرت دعوات مشابهة لحمل السلاح والتظاهر في البلدان المجاورة التي تضم اقليات البانية، وتظاهرت الجاليات الألبانية في أوروبا لا سيما في سويسرا التي تضم جالية مؤثرة وفاعلة. والراجح ان استمرار العنف في كوسوفو من شأنه أن يجر البانيا إلى حرب مع الاتحاد اليوغوسلافي قد تمتد إلى دول أخرى وتؤدي إلى اشعال النار بسرعة في البلقان. وفي السياق نفسه، يمكن لتزايد أعمال العنف أن يحرم الأطراف المعنية من الأصوات الألبانية المعتدلة في برينتشا ويضعف سيطرتها على السكان الألبان، ويفتح الطريق أمام انفلات سكان الاقليم من الاطار السلمي الذي ما زال فاعلاً حتى الآن، واستسلامهم للعنف وبالتالي انفجار الحرب وصعوبة السيطرة عليها وعلى ردود الفعل الخارجية التي ستترافق معها، خصوصاً إذا ما انتظمت ردود الفعل هذه في سياق مطلب البانيا الكبرى في البلقان. والراجح أن أعمال العنف ستؤدي إلى المزيد من التعنت الصربي وإلى التعبئة القومية الصربية، وبالتالي كتم الأصوات القليلة التي تطالب بحل تفاوضي لمشكلة كوسوفو، ومنح هذا الاقليم قدراً من الحكم الذاتي، وبتعبير آخر، تكرار السيناريوهات التي تمت من قبل في كرواتيا والبوسنة مع فارق أساسي هو ان كوسوفو تعتبر صاعق البلقان المتفجر في حين تبقى المناطق الأخرى على خطورتها بمثابة حقول ألغام متفرقة هنا وهناك. التدخل الروسي ولم يتوصل الرئيس ميلوسيفيتش إلى اقناع أحد، غير روسيا، عندما أكد ان ما يجري في كوسوفو هو "شأن داخلي" صربي، وأن الأمر يتصل بمواجهة "الارهاب والارهابيين"، وبدا ان العالم يصغي أكثر إلى تصريحات إبراهيم روغوفا الذي دعا إلى تحرك دولي وإلى وضع كوسوفو تحت إدارة دولية. وإذا كان من الصعب أن تنقذ الدول المعنية بهذه الأزمة مباشرة، لا سيما مجموعة الخمسة التي تدير الأوضاع البوسنية اميركا - بريطانيا - فرنسا - ايطاليا - المانيا - روسيا كوسوفو فإنها قادرة على اجبار الرئيس الصربي على تقديم تنازلات يمكن ان تدعم مواقع المعتدلين الألبان في "بيرنيتشا" وتساعدهم على استئناف سيطرتهم على سكان الاقليم. ويتوقف الامر على نوع هذه التنازلات، وعلى مواقف روسيا. والراجح ان التنازلات الصربية في مسائل التعليم والطبابة باتت ممكنة، وقد أشار اليها، وزير التعليم الصربي الذي عبّر عن تفاؤله بامكانية تطبيق الاتفاق المعقود بين الطرفين عندما تهدأ الاوضاع في الاقليم، لكن حجم الضغط الدولي قد يصل الى ابعد من هذا المستوى، خصوصاً انه يتم في اطار رفض اعمال العنف الألبانية والصربية معاً، وهو امرٌ يساعد موسكو على ممارسة ضغط خاص على بلغراد. وليس معروفاً بعد، اذا كان الموقف الروسي الرافض لأي تدخل عسكري ضد الحكومة الصربية، سيؤدي الى تحرير هذه الحكومة من الضغوط الغربية وبالتالي تشجيعها على المزيد من التصلّب غير ان السابقة المتمثلة بالازمة العراقية، بيّنت ان الرفض الروسي للعمل العسكري الغربي، يظل محكوماً بسقف معين للتسوية، وان روسيا يمكن ان تلعب دوراً في هذه التسوية، ما يعني ان هامش المناورة المتاح للرئيس ميلوسيفيتش لن يكون اكبر من الهامش الذي اتيح للرئيس صدام حسين. ولعل ذلك يساعد على تفسير التصريحات الموجهة للرئيس الصربي من الحلف الاطلسي والمجموعة الاوروبية والولايات المتحدة نفسها وكلها تحمل معنى واحداً مفاده ان عليه ان يفاوض الألبان على الحكم الذاتي في كوسوفو، وان الوقت المتاح امامه للتفاوض محدود، ان لم يفعل ذلك بنفسه فهناك من سيفعله بدلاً منه. احتجاز الأمن الدولي وحتى لا يخطئ الرئيس الصربي في تفسير النيّات الاميركية والدولية بادرت واشنطن على الفور الى ممارسة ضغوط عليه من طرف واحد، حين اوقفت تسهيلات اقتصادية وديبلوماسية كانت ستمنحها للحكومة اليوغوسلافية وهددت باتخاذ المزيد من الاجراءات، وتبلغ الرئيس الصربي تحذيرات مباشرة من وزير الخارجية البريطاني روبن كوك، وربما ستنهمر عليه الانذارات بطريقة تحمله على تقديم تنازلات في كوسوفو اكثر بكثير من تلك التي كان التيار الديموقراطي الألباني مستعداً للقبول بها قبل اندلاع الاحداث الاخيرة. وما يُسهّل الضغوط الدولية على بلغراد، ارتسام ما يشبه التحالف العالمي ضد الرئيس الصربي. فباستثناء يلتسين، لا يجد ميلوسيفيتش زعماء كثيرين يصغون اليه، ناهيك عن الاحراج الذي يتسبب به للدول المحيطة بالاتحاد اليوغوسلافي، واحساس هذه الدول بالخطر، لا سيما في يوغوسلافيا السابقة وفي البلقان عموماً، ناهيك عن تركيا واليونان وكل ذلك يبعث الخوف في اوروبا ويضع ميلوسيفيتش في موقع معزول تماماً يسهّل مهمة روسيا، حامية الصرب بالتهديد برفع الحماية عنه ما لم يتراجع عن تعنته ويوافق على اعطاء الألبان حكماً ذاتياً في كوسوفو. لقد اظهر ميلوسيفيتش في حالات مشابهة سابقة انه يستطيع التراجع وتقديم تنازلات مثلما فعل في البوسنة وكرواتيا حيث برهن انه ليس انتحارياً خالصاً.