اعترفت محكمة القاهرة الابتدائية اخيراً بزواج شاب من فتاة، رغم انه لم يتم عقد قران الاثنين امام مأذون حسب نص القانون. وفقاً للحكم اعترفت المحكمة بنسب طفل أنجباه، بعد ان قدمت الفتاة خطابات غرامية يوجه فيها الشاب كلاماً للفتاة على انها زوجته. هذا الحكم المهم الذي لفت الانظار يبدو انه كان يعبر بطريقة ما عن تغيير في التعامل القانوني المصري مع الزواج السري، الذي يُعرف باسم "الزواج العرفي" لا سيما وان الحكم سرعان ما تبعه اعلان عن مشروع قانون لاجراء الاحوال الشخصية يقرّ بدوره صحة "الزواج العرفي" الذي لم يتم امام اي مأذون. فيما بدا وكأنه إقرار بواقعية المؤسسة السرية للزواج في مصر. يقول مشروع القانون الذي ناقشته اخيراً لجنة خاصة في مجلس الشورى تمهيداً للنظر به في مجلس الشعب: "لا تُقبل عند الانكار دعوى الزوجية ما لم يكن ثابتاً في ورقة رسمية، ومع ذلك تُقبل دعوى التطليق اذا كان الزواج ثابتاً بأية كتابة". ويقول الدكتور محمد كمال امام استاذ الشريعة في كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية، وهو احد الذين ساهموا في اعداد القانون الجديد: "هذه مسألة معقّدة تجد طريقها للحل من خلال مشروع القانون، ذلك ان مشكلة اثبات صحة الزواج العرفي ظلت باقية سنوات طويلة بسبب لائحة المحاكم الشرعية السارية حالياً والتي تقضي بأنه لا تُسمع دعوى الزوجة عند انكار الزواج الا اذا كان ثابتاً بوثيقة رسمية. وقد كان هذا يضيق من امكان اثبات ذلك النوع من الزواج الذي اصبح ظاهرة متفشية في المجتمع". ويضيف: "ان القانون المقترح وسع نطاق الاثبات بحيث جعل ان مجرد اقرار الزواج في اي ورقة، ولو كانت موافقة على استخراج جواز سفر للزوجة او اثبات في محضر شرطة ان هذه زوجته، واعتبر ان ذلك لا يعني اعترافاً بالزواج. ومن هنا يحاول المشرّع حل مشكلة الطلاق من الزواج العرفي واعتبرت في مشروع القانون دعوى التطليق مقبولة اذا ثبتت بأي ورقة، وفتح بهذا امكان تطليق المرأة المتزوجة عرفاً حتى لا تظل زوجة وهمية، من دون ان تتمكن من الخلاص القانوني والديني من الزواج". وتبدو قضية الزواج العرفي شديدة الخطورة في مصر، خصوصاً في ضوء ارقام غير رسمية تتحدث عن 20 ألف حالة زواج من هذا النوع سنوياً، كما قال محمد طاهر رئيس جمعية المأذونين في مصر. وفي ضوء هذا تتحدث دراسات اجتماعية عن انه ينتشر بين الشباب الذي لا يجد وسيلة للدخول الى قفص الزوجية عبر الطريق الرسمي لأسباب لها علاقة بالقيود الاجتماعية المفروضة عل شكل الزواج التقليدي، فضلاً عن القيود الاقتصادية يحتاج الشاب الى شقة وشبكة من الذهب، وأثاث، ومهر مرتفع غالباً. وهناك ثلاث زوايا لاثبات مدى انتشار هذه الظاهرة في مصر، لا سيما بين الشباب صغيري السن وطلاب المدارس والجامعات وهي: مكاتب المحامين الذين تصل اليهم مشاكل الزواج العرفي والصحف التي تنشر الآراء والاعترافات حوله. وجهات الافتاء التي لا تتوقف عن ابداء الفتوى في مشروعية او عدم مشروعية الزواج العرفي. من جانب المحامين تحدث المحامي احمد رشدي عن حالات عدة للاقبال على هذا النوع من الزواج الذي يتم بعيداً عن النور: - اذا كان الرجل يتصور انه من خلال هذا الزواج ينجو من الاتهام بالزنا، خصوصاً اذا كانت لديه الرغبة في الزواج اكثر من مرة. - اذا كانت المرأة ارملة ولا تريد ان تعلن زواجها رسمياً لان هذا سوف يؤدي الى الغاء معاشها الشهري من زوجها الراحل حسب القانون. وفي هذا السياق قال الدكتور عبدالصبور مرزوق الاستاذ في جامعة الازهر ل "الوسط": "ان الارملة تلجأ الى هذا الحل، وبحيث يكون الزواج العرفي معلناً بين الاهل والجيران، ولكن فقط من دون ان تعرف الحكومة، وهو ما دعاني لأن اتحدث مع وزيرة التأمينات والشؤون الاجتماعية حول اصدار تعديل للقانون يبقي المعاش مستمراً حتى يعلن الناس عن علاقاتهم في شكل سليم، وخصوصاً ان هذا النوع من الزواج يجعل الرجال يستهزئون بالنساء". - الحالة الثالثة - كما يقول المحامي احمد رشدي - هي حالة الشباب الذين ليست لديهم القدرة على اعلان الزواج. وهذه هي المشكلة الاخطر التي اصادفها كثيراً في القضايا التي تصل الى مكتبي. وكنموذج في هذا السياق امامي قضية فتاة تزوجت عرفياً خمس مرات من شاب واحد. في كل مرة كان الطلاق بينهما يتم عن طريق تمزيق الورقة العرفية، ثم وقعت الفتاة اخيراً في مأزق حين انجبت طفلاً رفض الزوج اثبات بنوته. وهو ما نحاول الحصول على حكم بصدده من المحكمة. واظن انها ستحكم بإثبات بنوة الطفل من دون اثبات صحة الزواج على اساس القاعدة الفقهية والقانونية التي تقول: "الولد للفراش" أياً كان نوع هذا الفراش. نماذج من الظاهرة * قالت سيدة تعمل في احدى الجامعات انها تزوجت عرفياً خشية ان يعلم زوجها السابق بزواجها الجديد. ويتمكن بحكم القانون من سحب حضانة طفلها منها. وبالتالي ايضاً يطردها من الشقة التي تقيم بها والتي نص القانون على ان يوفرها الزوج لزوجته في حال الطلاق ووجود طفل طوال فترة الحضانة. * صبية في عمر المراهقة، تنتمي لأسرة متواضعة الحال. تعرفت على موظف في مكتب للتدريب على الآلة الكاتبة، أحبته، ثم تحولت العلاقة الى زواج عرفي، وكانت شقة الزوجية الموقتة هي شقة خال الزوج الذي يعمل في احدى دول الخليج. هذه الفتاة حين تعثرت علاقتها بزواجها العرفي طلبت الطلاق فرفض، ولم يتم الطلاق الا حين تم الضغط على الزوج بتهديده باتهام استغلال حدث، لأن الزوجة كان عمرها لا يتجاوز السادسة عشرة. * مدرس في مدرسة اعدادية قال انه لاحظ انتشار الظاهرة في مدرسته التي تضم الجنسين، وبصورة خطيرة، وأكد ان هناك حالتين او ثلاثاً على الأقل في كل فصل. وأضاف: ان هناك تسع طالبات حوامل عن طريق زواج غير رسمي! ولا يقف الأمر عند حد فئة معينة وخصوصاً ان الظاهرة امتدت الى غير المسلمين، بين الاقباط، في ظل القيود التي تفرضها الكنيسة وتعاليم المسيحية على الطلاق والزواج الثاني بين المسيحيين. وكمثال: قالت سيدة مسيحية في الخامسة والأربعين لإحدى الصحف: ان الانجيل لم يرد فيه نص يحرم الزواج العرفي. وقد لجأت اليه حين انهارت حياتي الزوجية الأولى، مضيت في طريق الطلاق، وخلق النزاع القانوني مع زوجي السابق حالة من الفجوة الهائلة لا يمكن تجاوزها، فتزوجت عرفياً حتى دون ان انتظر الحكم النهائي للاستئناف. فلو صدر الحكم بالطلاق لن تقره الكنيسة. ان المؤشرات الواضحة لهذه القصص، التي توجد آلاف غيرها، تكشف ملامح عدة لصور هذه المؤسسة السرية للزواج غير الرسمي في مصر، وهي: لا يوجد اطار عمري واضح يمكن القول ان عنده يلجأ الناس الى هذا الحل البديل، لأن هناك حالات زواج عرفي بين كبار السن، كما ان هناك حالات زواج عرفي بين مراهقين. ان الدعاية المضادة والمستمرة منذ سنوات ضد نظام الزواج العرفي لم تعطله، وإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تدفع الكثيرات والكثيرين الى الارتماء في احضان هذه المؤسسة. وتقول الدكتورة نجوى حافظ الباحثة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ان سبب انتشار هذه الظاهرة هو الخلخلة الموجودة في المجتمع وعدم وجود تقارب اسري بين الآباء والابناء، بحيث اصبح البيت مكاناً للقاء اكثر منه مكاناً للشعور بالاخوة والصداقة، وهو ما يؤدي الى مواقف شاذة وقرارات مندفعة يتخذها الشباب دون استشارة الأب والأم. وتضيف: "ان السبب ايضاً يعود الى طبيعة المنطق المادي الذي يحكم العلاقات الآن في المجتمع، فالأب والأم في حال ابتعاد عن الابناء بحثاً عن دخل اكبر، ويؤدي هذا الى ضعف القيم، واضطرار الابناء للبحث عن حلول خاصة لمشاكلهم، ومنها مشاكل الزواج". ويقول الدكتور يسري عبدالمحسن استاذ علم النفس في جامعة الازهر: "ان ظروف المجتمع الحالية تدفع الشباب الى ان يجد حلاً كي يصل الى حقوقه المشروعة، وأبرز هذه الظروف هي افتقاد الشباب للحرية الاجتماعية الحقيقية كي يعبر عن موقفه الشخصي، وعدم الاختلاط بين الجنسين، وتعدد المشاكل الزوجية، وتزايد الضغوط الاقتصادية التي تعرقل الزواج العلني وما يترتب عليه من حقوق وواجبات. وخلال سنوات طويلة كان هذا النوع من الزواج يواجَه دائماً بموقف قانوني واحد، ومواقف دينية متنوعة، لم تجعل مصير هذه المؤسسة السرية محسوماً على المستوى الاجتماعي. في السياق القانوني يقول المستشار عبدالمنعم اسحاق نائب رئيس هيئة قضايا الدولة في دراسة حول اوضاع الزواج العرفي: "متى اكتملت اركان الزواج وتوافرت مقوماته التي استوجبتها الشريعة الاسلامية فإن ذلك يؤدي على سبيل الحكم واللزوم الى حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، سواء تم توثيق العقد او لم يتم، بيد أن أمر التوثيق يصبح غاية في الأهمية عندما تثور المنازعات بين الزوجين وتضطر الزوجة للجوء إلى القضاء للمطالبة بأي حق من حقوقها الناشئة عن الزواج. وفي هذه الحال إما أن يقر الزوج أو ينكر، فإن أنكر ولم تظهر الزوجة وثيقة الزواج، فإن القاضي لا يسمع دعوى الزوجة بناء على المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية". رأي رجال الدين - الدكتور عبدالجليل شلبي، الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية، قال: إن أضرار الزواج العرفي أكثر من منافعه، وعادة لا يقبلها الشرفاء من الناس. - الشيخ عطية صقر، الرئيس الحالي للجنة الفتوى في الأزهر، قال: هذا عقد زواج صحيح، طالما استوفى الشروط، يحل به التمتع والتوارث، ومن هذه الناحية لا حاجة إلى توثيقه رسمياً. فقد كان هذا هو نظام الزواج قبل أن يعرف التوثيق. - الشيخ أحمد حسن مسلم، عضو لجنة الفتوى السابق، قال: هذا زواج حرام، حرام، لأن الهروب من توثيق العقد يعني أنه يكون بعيداً عن أعين الناس، ففيه بالتالي شيء ضار. - الشيخ أحمد عبدالرحيم السايح، أستاذ العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر، قال: إن الزواج ميثاق أصيل اقيم على ركائز التعارف والمودة والرحمة وكل زواج يخالف هذا باطل، والفقه الإسلامي لا يعرف زواجاً سرياً شرعياً، إنما هو اغتصاب وتحايل. - الشيخ سيد طنطاوي، الإمام الأكبر شيخ الأزهر، قال حين كان مفتياً للديار المصرية ان الزواج العرفي صحيح دينياً، ولكنه حرام لأن أولي الأمر أمروا بالتوثيق. لكن هذا الموقف الديني المتنوع عرف طريقه إلى الاعتراف رسمياً بمؤسسة الزواج السري قبل سنوات عدة وبالتحديد في عام 1980، حين نظرت دعوى زواج عرفي أمام محكمة القاهرة الابتدائية، وطلب فيها رأي مفتي الديار وقتها الشيخ الراحل جاد الحق علي جاد الحق، وقال: هذا زواج حلال بشرط أن يتحمل الزوجان الأعباء القانونية الناتجة عن عدم توثيق العقد. في هذه القضية نفسها التي طلبت فيها الزوجة الطلاق لاستحالة العشرة، فيما قال الزوج إنه لم يتزوجها رسمياً، قال رئيس نيابة الأحوال الشخصية في مذكرته: "إن قاعدة المنع من سماع الدعوى يجب أن تفسر في نطاق ضيق. ولما كانت الدعوى هي دعوى تطليق، فإن شرط عدم السماع لا يرد على هذه الدعوى تطبيقاً لقاعدة ان المحكمة إذا لم تطلق هذه الزوجة فليس أمامها إلا أن تتزوج مرة أخرى من رجل آخر، وبذلك تكون جمعت بين زوجين، لأنها متزوجة عرفياً باعترافها، وهذه مشكلة قائمة في المجتمع يتعين على المحكمة أن تجد لها حلاً". ويبدو ان هذا هو الحل الذي لجأ إليه مشروع القانون الجديد، خصوصاً ان هناك اتجاهات في المجتمع تطالب بهذا، وفي ذلك السياق يقول الدكتور محمد اسماعيل علي استاذ القانون: "أصبح الزواج العرفي سيئ السمعة، بل وصل سوء السمعة إلى حد تحريمه على ألسنة الكثيرين من المتحدثين، حتى وقر في أذهان الشباب أنه حرام، ولست أعرف كيف يتم بهذه البساطة تحريم ما أحله الله، ولست أعرف كيف يكون الزواج العرفي منطوياً على مخاطر والزواج على الحكومة منطوياً على سعادة". إنه - كما أضاف - "ليس حراماً على الاطلاق، وإنما فقط يجب على هؤلاء الذين يحرمونه أن يوضحوا أهمية التوثيق. فهناك فرق كبير بين الحرام وتوثيق الحقوق، والتفريط فيها، خصوصاً أن هذا النوع من الزواج هو في أحيان كثيرة يدرأ مفاسد واضحة لا ننكرها، بل أنه، أحياناً، حل مثالي للمشكلة. فهل قبلت أخيراً مصر هذا الحل المثالي، أم أن هذه المادة من القانون الجديد لن تمر من مجلس الشعب؟ الإجابة تحتاج الانتظار بعض الوقت