في نهاية شهر آب اغسطس 1990، ومباشرة بعد اعلان الحصار الاقتصادي ضد العراق عقاباً على غزوه الكويت، اضطرت سفينتان تجاريتان سوفياتيتان الى وقف رحلتهما نحو العراق والعودة من عرض البحر. وكانت تلك العودة ايذاناً بخسارة روسيا سوقاً استهلاكية ضخمة ليس للصناعات الخفيفة بل وللصناعات الثقيلة. وتعود أول اتفاقية تجارية تم توقيعها بين الطرفين الى سنة 1958، وبعد 17 سنة تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين 26 مرة وبلغ 238 مليون دينار عراقي، وهو ما شكل حينها بين 10 و12 في المئة من التجارة الخارجية العراقية، واحتل الاتحاد السوفياتي بذلك المرتبة الأولى بين شركاء العراق الخارجيين. وكان للاتحاد السوفياتي دور كبير في تزويد العراق ببنية تقنية متطورة، حيث ساهم في بناء سدود ومحطات توليد الطاقة من بينها محطة "القادسية" على نهر الفرات القادرة على توليد 660 ألف ميغاواط، كما كان السوفيات وراء مد العراق بالتجهيزات المتطورة لاستخراج النفط وتكريره، وقد شيدوا أنابيب عدة لضخ البترول، من بينها الأنبوب الممتد بين بغداد والبصرة بطول 540 كلم ويضخ 5.1 مليون طن من النفط سنوياً ويعتبر الأول من نوعه في الشرق الأوسط. اضافة الى ذلك زود الاتحاد السوفياتي العراق بالخبراء والتقنيين، الذين بلغ عددهم في نهاية الثمانينات حوالى ستة آلاف شخص. وقبيل حرب الخليج الثانية كان العراق قد وقّع مع الحكومة السوفياتية آنذاك بروتوكولاً يلتزم بموجبه دفع 6.1 مليار دولار على شكل نفط و350 مليون دولار نقداً، إلا ان موسكو لم تنجح قبل اندلاع "عاصفة الصحراء" في الحصول إلا على 5.6 مليون طن نفط و46 مليون دولار نقداً، وفشلت محاولاتها لاستعادة ديونها عن طريق البنوك الأميركية بعدما تم تجميد الأموال والودائع العراقية فيها. وبذلك فقدت روسيا - وريثة الاتحاد السوفياتي - بسبب العقوبات امكانية مهمة لاغناء خزينتها المفلسة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لذلك تسعى بكل جهدها وفي حدود ما تسمح به التزاماتها الدولية الجديدة لمرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، الى التسريع بانهاء العقوبات الدولية ضد العراق على أمل ان يتيح لها ذلك فرصة لاستعادة ديونها، كما تسعى في الوقت نفسه الى عدم الابتعاد عن المنطقة لأنها تعلم تماماً انه حالما تُرفع العقوبات المفروضة على العراق ستتهافت الشركات النفطية لوضع يدها على ثاني أكبر احتياطي من البترول في منطقة الخليج بعد المملكة العربية السعودية، وليس عبثاً ان توقع شركات روسية عقوداً لاستغلال النفط العراقي تصل قيمتها الى 10 مليارات دولار تنتظر فقط لحظة الاعلان عن عودة العراق الى الحياة الطبيعية. فمع انتقال روسيا الى اقتصاد السوق ظهرت في البلاد مجموعات مالية واقتصادية ضخمة، خصوصاً في مجال الصناعات النفطية، أصبحت تشكل لوبياً سياسياً قوياً له مصالح في الشرق الأوسط ويدفع الحكومة الروسية للاستماتة في الدفاع عن حصتها من "الكعكة" النفطية في العراق. وقد حققت تلك المجموعات خطوات لا يستهان بها في كسب حقوق استثمار النفط العراقي مستقبلاً، وقد مُنحت شركات النفط الروسية الأولوية لتسويق البترول العراقي في اطار اتفاقية "النفط في مقابل الغذاء" بعد الزيارة التي قامت بها الى بغداد لجنة روسية خاصة يتقدمها وزير الطاقة، لذلك تبذل موسكو جهوداً حثيثة لرفع حصة البترول المسموح للعراق ببيعه والتي لا تتعدى حتى الآن ما قيمته ملياري دولار كل 6 أشهر. وقد أغرى هذا السبق شركات النفط الروسية وأهمها "زاروبيج نفت" و"لوك اويل" و"روس نفت" لاعداد مشاريع ضخمة لمرحلة ما بعد رفع العقوبات. وبموجب هذه المشاريع ستتمكن تلك الشركات من استغلال 25 مليون طن من النفط العراقي سنوياً. فلا غرابة إذاً ان تطالب روسيا بالاسراع في رفع العقوبات عن العراق، إذ سيفتح لها امكانية واسعة لاستعادة بعض مواقعها الضائعة، خصوصاً ان العراق يتوافر على احتياطي يبلغ 110 مليار برميل ما يمثل 11 في المئة من الاحتياطي العالمي، لذا لا تقبل تلك المؤسسات التسليم بكل هذه الثروة لمصلحة المؤسسات الأميركية. والى جانب ضغط المؤسسات الاقتصادية، تمثل التيارات القومية والشيوعية ذات الغالبية البرلمانية قوة ضاغطة مهمة على الحكومة، ليس حباً بالعراق وانما لعدم التفريط بالمصالح الروسية فيه، خصوصاً ان للعراق موقعاً استراتيجياً يجعله ممراً سياسياً يربط الشرق الأوسط بآسيا الوسطى مروراً بالخليج العربي. وليس صدفة ان حوّل جيرينوفسكي زعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي مهمته الانسانية الى حملة سياسية صاخبة لمصلحة العراق، بل وطالب بارسال قوات روسية الى الخليج لحماية العراق استناداً على معاهدة الصداقة التي تجمع البلدين. وتقف هذه الضغوط التي تطرحها مصالح روسيا السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية وراء موقف موسكو الحازم الذي يدعو الى ضرورة ايجاد حل سلمي للأزمة العراقية. وإذا نجحت الجهود الديبلوماسية الروسية فإن موسكو تكون نجحت في حماية جزء من مصالحها الاستراتيجية. قبل بضعة أيام نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً أثار ضجة واستياء في الأوساط السياسية الروسية، إذ اتهم المقال موسكو ببيع العراق معدات قادرة على انتاج الأسلحة الجرثومية وذلك بناء على اتفاق وقعه الطرفان في صيف 1995 مما يعني خرق قرارات الحظر والعقوبات المفروضة ضد العراق، ويؤكد كاتب المقال ان موسكو لم ترد حتى الآن على سؤال وجهته اليها الأممالمتحدة عن هذه الصفقة منذ ستة أسابيع. وبالطبع نفت وزارة الخارجية الروسية جملة وتفصيلاً ما جاء في الصحيفة الأميركية واعتبرته محاولة لاجهاض الجهود الديبلوماسية التي تبذلها موسكو لايجاد حل سلمي للأزمة. وبغض النظر عن حجم الحقيقة فيما جاء في المقال المذكور والتوقيت الذي اختير لنشره، فالمؤكد ان هناك تعاوناً عسكرياً بين موسكووبغداد، إلا انه تراجع كثيراً بسبب الحصار المفروض على العراق. لكن من الصعب القول انه انقطع تماماً، كما ليس من المستبعد ان تتم بعض الصفقات "الصغيرة" من وراء ظهر الحكومة الروسية نفسها التي أصبحت تجد صعوبة كبيرة في مراقبة كل مبيعات السلاح الروسي بعدما اسند جزء من تجارة السلاح الى مؤسسات خاصة، وكذلك بسبب الانفلات الذي يسود هذا القطاع الخطير على غرار ما يجري في قطاعات حيوية أخرى كثيرة. لقد كانت روسيا - وقبلها الاتحاد السوفياتي - شريكاً أساسياً للعراق في مجال الأسلحة، وشكل السلاح الروسي - الى جانب الفرنسي - جزءاً رئيسياً من الترسانة الحربية العراقية. وفاقت العلاقة الروسية - العراقية في مجال التسليح كل مجالات التعاون الأخرى، وبلغت أوجها خلال الحرب العراقية - الايرانية، خصوصاً بعد توقيع معاهدة الصداقة بين موسكووبغداد. وعلى رغم التعاون العسكري الوطيد بين الطرفين إلا انه لم يصل الى مستوى الدعم او المساعدة في التصنيع النووي. وكان العراق يقتني خصوصاً الطائرات الحربية الروسية من نوع "ميغ" و"سوخوي" وكذلك الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى ومن أشهرها صواريخ "سكود" التي استعملت في حرب الخليج الثانية تحت اسم "الحسين". اضافة الى ذلك كان الاتحاد السوفياتي يمد العراق بالتجهيزات والتكنولوجيا الحربية والخبراء والتقنيين العسكريين، كما ان العديد من العسكريين العراقيين هم خريجو المعاهد والاكاديميات الحربية الروسية. وقد وجدت الصناعة الحربية الروسية في "الهوس" العسكري لدى القيادة العراقية واندفاعها المحموم لتصبح قوة عسكرية ضاربة في المنطقة مجالاً خصباً ومشجعاً لتحويل العراق الى أحد أهم الأسواق استهلاكاً للسلاح الروسي. وقد حرم الحصار والعقوبات روسيا من هذه السوق وكبدها خسائر جسيمة، اضيفت الى الخسائر التي لحقتها في كثير من الأسواق الأخرى التي كانت تحتكرها، مثل ليبيا والجزائر ومصر وأثيوبيا. لقد شكل العراق بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي سابقاً حليفاً في منطقة الخليج، إلا ان العلاقة بينهما لم ترقَ في أي وقت الى حد التحالف الاستراتيجي وظلت في حدود التعاون الاقتصادي والعسكري. وكانت موسكو من الناحية السياسية تتعامل بحذر مع الرئيس صدام حسين وتعتبره رجلاً مغامراً لا يؤمن جانبه وقادراً على تغيير تحالفاته باستمرار، اضافة الى ذلك شكل التنكيل بالشيوعيين العراقيين والأكراد عوامل ألقت دائماً بظلالها على العلاقات بين الكرملين وبغداد، ولم تسمح بتطورها الى مستوى الشراكة الاستراتيجية فظلت علاقة مصالح متبادلة محدودة في الزمان والمكان. ومنذ نهاية حرب الخليج الثانية التي تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفياتي تحلم روسيا باستعادة "حظوتها" لدى العراق كشريك أول ومنحها الأفضلية في العلاقات الاقتصادية، وترى موسكو في منحهما الأولية في استيراد البترول العراقي في اطار اتفاقية "النفط في مقابل الغذاء" مؤشراً ايجابياً على امكان تطور العلاقات بين البلدين هذه المرة الى مستوى استراتيجي، خصوصاً بعدما انتهى عصر الايديولوجيات ليحل محله عصر التسابق على موارد الطاقة. وتراهن موسكو على بغداد كجزء من سياستها الخارجية التي تتجه نحو الشرق لتعويض المواقع الكثيرة التي خسرتها خصوصاً في أوروبا الشرقية، ويراهن صانعو السياسية الروسية على امكان خلق تحالف استراتيجي في المنطقة مع العراق وسورية وايران لوقف الزحف الأميركي الآخذ في التمدد والذي يهدد بالاستحواذ على ثروات المنطقة وتهميش روسيا التي تحاول الآن بكل جهدها الديبلوماسي، ليس انقاذ العراق ولكن انقاذ وجودها قبل كل شيء.