الأسماء المستعارة في الصحافة المصرية ظاهرة تغري بالبحث عن أسبابها وأسرارها. فما الذي يدفع الكاتب الى ان يستعير اسم امرأة مثلاً أو يدفع ممثلاً إلى أن يتخذ اسماً له غير اسمه الحقيقي أو أي "لقب" له معنى أو لا معنى له؟ وما حكاية هذه الظاهرة اذا كان احد دوافع النشر هو ان يُرى الاسم منشوراً؟ هنا جولة في عالم الأسماء المستعارة تتناول بعض النماذج المعروفة أو غير المعروفة. فجأة... أصبح اسم انور وجدي حديث كثير من قراء الصحف في مصر، خصوصاً أنه ارتبط في الاذهان بالممثل انور وجدي الذي اثرى السينما المصرية بالعديد من الافلام الغنائية والاستعراضية في الاربعينات والخمسيات. اما المخضرمون في الصحافة المصرية، فقد عرفوا انه اسم مستعار وان صاحبه اراد ان يلفت الانظار بذكاء الى انتقاداته الساخرة في مقاله الاسبوعي في جريدة "أخبار اليوم" وأدرك البعض بسرعة أن من يختفي خلف اسم "أنور وجدي" هو إبراهيم سعده. ولم يكن ابراهيم سعدة او أنور وجدي. هو اول من استخدم هذا الاسلوب للفت الانظار، ولن يكون الاخير، وهذه "ظاهرة" عرفتها الصحافة المصرية والعربية، وان اختلفت اسباب استعارة الاسم او اللقب او الصفة في الكتابة. وهي ليست قاصرة على الصحافيين وانما تمتد لتشمل كبار الكتاب من المفكرين والنقاد والادباء. ففي العام 1911 نشرت مجلة "العلم" التي كان يحررها عبد العزيز جاويش مجموعة مقالات لاذعة تهجو اسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابة رواياته ومقالاته، تحت اسم "ازهري ناشىء". وقد أحدث ذلك التوقيع بلبلة وسط الازهريين لمدة عام كامل، وثارت الشكوك حول بعضهم فأخذوا يفتشون عن صاحب المقالات، خصوصاً أن الاستاذ المنفلوطي ازهري كبير لا يليق ان يسخر منه "ازهري ناشئ". ودرءاً للفتنة ذهب لمقابلته شاب اسمر اللون نحيف وضرير، وقال له: "انا طه حسين الذي اهجوك"، فعاتبه المنفلوطي بشدة، فرد عليه طه حسين معتذراً: "ما اجترأت على ذلك الا طلباً للشهرة". والواقع ان طه حسين كان يستند في ذلك الى تقليد ممتد في الصحافة العربية، إذ يحكى عن يعقوب صنوع انه ذهب ذات يوم الى الافغاني ومحمد عبده ليستفتيهما في اختيار اسم رنان لمجلته، وحين عجزا عن ذلك، تركهما ومضى الى موقف الحمير ليمتطي حماراً يوصله الى داره فاختلف الحمّارون إذ راح كل منهم يدعي أن الدور دوره في توصيل الزبائن، وعلا صوت احدهم قائلا: انا اول من اصطدت "أبو نظارة" فراق لصنوع هذا الاسم وأصدر في الرابع من حزيران يونيو العام 1880 مجلته "ابو نظارة زرقاء" التي راح ينتقد فيها احوال مصر الاجتماعية دون زيف او رياء بأسلوبه الساخر، وهو يمهر مقالاته تارة ب "ابو نظارة" وتارة اخرى ب "ابو صفارة". اما "الشيخ حسان الغزاري" فهو شخصية مستعارة ابتكرها الشيخ مصطفى عبدالرازق، وراح يمهر بها مقالاته النقدية ضد "الجامدين من شيوخ الازهر" وخصومه بوجه خاص، وذلك في مجلة "السفور". واللقب الثاني للشيخ مصطفى عبد الرازق، كان "باحث فاضل" واختاره له احمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة" ليخفي وراءه شخصية الشيخ عبد الرازق الذي قام بالرد على اسماعيل ادهم في معركته الشهيرة مع "فيلكس فارس" حول الثقافة العربية، وذلك بايعاز من صديقه الشيخ مصطفى المراغي والدكتور محمد حسين هيكل خشية ان يزج باسم الشيخ عبد الرازق صاحب المكانة الرفيعة في الاوساط الدينية والثقافية في هذه المعركة التي كانت محفوفة بالمخاطر وقتئذ. الشيء نفسه فعله اسماعيل مظهر الذي نحت اسم "فيلوزوف" من كلمة "فيلسوف" ، وكان يوقع به مقالاته في مجلته "العصور" العام 1927 التي كانت تنتقد المشايخ الذين يقفون في وجه حرية الفكر والمفكرين. مي الصغيرة لم تُستثنَ المرأة من هذه الظاهرة فقد ظهرت ملك حفني ناصف 1886- 1918 في فترة لم يكن المجتمع المصري مؤهلاً فيها لاستيعاب اسم امرأة على صفحات الدوريات 1907، لذا اختار لها استاذ الجيل احمد لطفي السيد وشبلي شميل لقب "باحثة البادية" كي توقع به اعمالها الادبية في "الجريدة"، وهي المقالات التي عرفت فيما بعد ب"النسائيات". وسبقتها الى ذلك عائشة التيمورية 1840- 1902 أو "شاعرة الطبيعة". وهي الصفة التي اطلقتها عليها الانسة "مي" في دراستها التي اعدتها عن ديوانها التركي "قاسمة أو كشوفة". وحين تغيرت نظرة المجتمع الى المرأة في النصف الثاني من القرن العشرين، حدث العكس تماماً اذ اصبح اسم المرأة ممهوراً في الصحافة اشبه بالفاكهة الطازجة وسط مائدة متخمة بالرجال، فمال بعض الكتاب الى استعارة اسماء النساء وألقابهن طلباً للنشر، مجرد النشر. ولعل قصة الكاتب الصحافي ابراهيم الورداني خير دليل على ذلك، فقد ارسل مجموعة قصص الى عدد من المجلات والصحف المصرية والعربية ولم تنشر منها قصة واحدة، فتفتق ذهنه عن فكرة مهر القصص ذاتها باسم "مي الصغيرة" فاذ به يفاجأ بأنها نشرت جميعاً بل تناولها النقاد بالتقريظ والمدح. كما نشر غالي شكري اولى مقالاته بأسماء زوجته وبناته، اما اشهر كاتب استعار اسم امرأة فهو الصحافي والمذيع التلفزيوني مفيد فوزي صاحب برنامج "حديث المدينة"، فقد ظل يكتب باباً اسبوعياً في مجلة "صباح الخير" منذ ثلاثين عاماً تحت اسم "نادية عابد"، ولا يزال يكتبه الى اليوم. كما كتب كل من فتحي غانم ورشاد رشدي مجموعة مقالات وافتتاحيات في مجلة "آخر ساعة" التي تصدر عن مؤسسة "اخبار اليوم" تحت اسم "ليز ولين" وحين كان يكتب انيس منصور عن الازياء في مجلة "الجيل" كان يوقّع مقالاته تحت اسم "سلفانا مانيللي". لكن تغير نظرة المجتمع الى المرأة وانتشار اسماء مثل: هدى شعراوي وسهير القلماوي ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغيرهن من الكاتبات والاديبات، لم يمنع استخدام المرأة هي الأخرى للأسماء والألقاب المستعارة فلا تزال الدكتورة عائشة عبدالرحمن تنشر مقالاتها في جريدة "الاهرام" تحت اسم "بنت الشاطئ". حندس ومصمص اذا كان جزء كبير من دوافع النشر هو ان يرى الكاتب اسمه مطبوعاً، فإن هناك اسباباً مهنية وسياسية واجتماعية تحول دون ذلك في بعض الاحيان، من هنا تصبح الاستعارة او التخفي خلفها طريقاً الى النشر، وقد استحدث محمد التابعي في الصحافة المصرية اسلوباً طريفاً يجعل الصحافي يكتب الجريدة او المجلة من الغلاف الى الصفحة الاخيرة من دون ان ينتقص ذلك من شأنه لأنه لن ينشر اسمه الا مرة واحدة، اما باقي المقالات والموضوعات فهي ممهورة بألقاب وأوصاف مستعارة. كما ابتدع فكرة ان ينشر الكاتب في اكثر من مجلة وجريدة في وقت واحد، على ما بينهما من تعارض وصراع، من دون ان مساءلته قانونياً. والحكاية انه عند افتتاح البرلمان المصري العام 1924، اعلنت سكرتارية مجلس النواب عن حاجتها إلى مترجم من اللغة العربية الى اللغة الانكليزية بمرتب 12 جنيهاً في الشهر وحددت موعداً للامتحان،، وتقدم التابعي ومعه حاملو درجات علمية من جامعتي "اكسفورد" و"كامبردج" في انكلترا واذا بالتابعي يصبح اول الناجحين وعين على الفور في الوظيفة المطلوبة. لكنه لم يكتف بها، وانما اراد ان يصبح ناقداً مسرحياً لجريدة "الاهرام"، وكتب مقالاً وذهب به الى داود بركات رئيس التحرير آنذاك. وفوجىء في صباح اليوم التالي بمقاله ينشر في الصفحة الاولى، وكانت تلك أول مرة في تاريخ الصحافة المصرية ينشر فيها مقال نقد مسرحي في الصفحة الاولى. ولم يجرؤ التابعي ان يوقع المقال باسمه الصريح خشية ان يطرد من وظيفته في مجلس النواب، إذ لا يليق بالبرلمان الوقور ان يكون احد موظفيه ناقداً مسرحياً، لهذا وقع المقال باسم "حندس"، وهو الاسم الذي كان يدلله به اصدقاؤه وزملاؤه وعرف به حتى وفاته العام 1976. وعلى منوال التابعي كان مصطفى امين يكتب تحت اسم "مصمص" واحسان عبدالقدوس "سان" وعلي امين "ابن البلد" اما لقب "سندباد" فقد استخدمه كل من مصطفى امين في "اخبار اليوم" ومجلة "آخر ساعة" والدكتور حسين فوزي في كتبه ومقالاته في جريدة "الأهرام"، ويستخدمه الدكتور عبدالعزيز شرف في ملحق عدد الجمعة من الجريدة نفسها الآن. يجمع علماء الاجتماع والقانون على ان ظاهرة استعارة الاسماء والالقاب والاوصاف في الكتابة الصحافية ليست لها علاقة بالرقابة الرسمية التي فرضت على الصحافة في فترات معينة، اذ ان الرقابة لم تكن ساذجة لتراقب الاسم وانما مضمون ما يكتب، وهم يرون أن رقابة الرأي العام أقوى من أية رقابة أخرى بالنسبة للكاتب وهي التي يعمل لها الف حساب وحساب. كما ان العرف الصحافي جرى على ان ينشر الكاتب اسمه مرة واحدة وليس اكثر من مرة. ف "أنيس منصور" كان يوقع اسمه على مقالاته السياسية، ويوقع باسم "سيد حنفي" حين يكتب في النقد الفني والادبي في مجلة "آخرساعة"، ولطفي الخولي كتب أحياناً باسم "عبده مسعود" في فترة من حياته، وموسى صبري كان يوقع اسم "رمسيس" على سيناريو الافلام التي كتبها، فالاحتماء بعباءة الاسم المستعار كان مخرجاً للنشر والكتابة في اكثر من مجال ومقام. وهذا يختلف عن الالقاب والاوصاف التي اطلقها الكتاب على انفسهم حتى يعرفهم بها القراء، فكان الدكتور لويس عوض او "المعلم العاشر" يريد ان يعرف بهذا اللقب، وقد اطلق في كتابه "دليل الرجل الذكي" مجموعة من الأوصاف والألقاب على اغلب المثقفين المصريين، اغضبتهم جميعاً. والكاتب الساخر محمود السعدني اطلق على نفسه وصف "الولد الشقي"، وابراهيم عبدالقادر المازني "ابراهيم الكاتب" والصحافي عبدالحميد عبدالغني "عبدالحميد الكاتب" وذلك في ترجمته رواية "الجذور" حين رأس تحرير "اخباراليوم". وهناك ألقاب واوصاف اطلقها الادباء والنقاد بعضهم على بعض وأصبحت كالعملة المتداولة ف فكري اباظة "الضاحك الباكي"، واحمد لطفي السيد "استاذ الجيل" وأحمد شوقي "امير الشعراء" وأحمد رامي "شاعر الشباب" اما الالقاب والاوصاف التي "تسخر" من بعض الكتاب والصحافيين والمثقفين فلها مقام آخر