نجيب محفوظ قامة روائية كبيرة، هذه بداهة معروفة لا تحتاج إلى تصريح. لكنني اعتقد ان البداهات تستطيع دائماً ان تثير الدهشة، كأنها تنفلت من الزمن، ولا سيما انني قرأت ادب نجيب محفوظ في وقت متأخر. وكنت قبل ذلك اعرفه معرفة ضبايية من السينما فقط، كأديب كبير وصاحب مكانة. ولما كانت حرفتي الاساسية هي السينما، فقد شعرتُ انها تقوم بايصال رسالة الاديب الكبير بأمانة ساذجة، من دون ادنى اعتبار لاختلاف الوسيط الفني. كانت تلك الاعمال السينمائية، ببساطة، تظلم فن السينما أولاً، وتظلم ايضاً أدب نجيب محفوظ. وذات يوم قرأت "الحرافيش"، فصدمت بهذا البناء المعماري. وكنت في تلك الفترة أشك كثيراً في قيمة الاعمال الفنية التي تحمل شيئاً من الكلاسيكية، فكلمة البناء اشعر امامها بالعجز والاجلال. وعزائي ان نجيب محفوظ اصابته في شبابه حيرة الازدواج بين الكتابة الادبية والسينمائية، وهو ما أعيشه انا اليوم، فأقول في نفسي انني مازلت صغيراً على بناء رواية مثل رواية "الحرافيش". ثم اقوم بتقدير عمر نجيب محفوظ عندما شرع في كتابة "الحرافيش"، وتقدير عمري الآن، فأجد أمامي عشرين سنة من الكسل والاحلام المؤجلة... منذ ان قرأت "الحرافيش" وأنا أتعطش إلى كل ما يكتب عن نجيب محفوظ الانسان. هكذا وقعت على الحكاية التالية التي جاءت على لسانه في كتاب حديث الصدور. مفاد الحكاية ان احد اقرباء محفوظ عندما علم بفوزه بجائزة نوبل، عرض عليه ان يذهب هو لتسلم الجائزة، فرفض نجيب محفوظ عرض هذا القريب بأدب وحزم. واندهش لهذا العرض الساذج ولا سيما انّه لم ير ذاك القريب منذ سنوات طويلة. تأثرت كثيراً بتلك الحكاية الحزينة، وشعرت انني مثل هذا القريب الساذج بشكل ما. لماذا قرأت نجيب محفوظ متأخراً، ووثقتُ بسذاجة في بعض الآراء التي كانت تقلل من قيمة الرواية الكلاسيكية البلزاكية. كان يجب عليّ ان ادرك أن اصحاب تلك الآراء قرأوا محفوظ على الاقل، واستفادوا منه بأشكال متفاوتة وغير مباشرة. وهذه هي حقيقة الفن التي لن نقول متفائلين انها تنتصر نهائياً على الزمن، بل تصمد أمامه إلى حين. هذا الصمود المناوىء، النزيه، أمام العامل الزمني، يكفي الفن الحقيقي.