عرفت نجيب محفوظ مبكراً، منذ كنت في المرحلة الثانوية، أعيش في شمال الدلتا، وكنا منقطعين عن الحياة الثقافية في القاهرة التي لم يكن يصلنا منها غير الصحف. ثم فوجئنا بالكتاب الذهبي السلسلة التي تصدرها "روزاليوسف" تصل إلينا، فقرأنا "زقاق المدق". وعندما حضرت إلى القاهرة حصلت على أعماله الأخرى من سور الازبكية، ومن بعض الاصدقاء، وبدأت أتابعه بانتظام. كان همي الأكبر أن أراه، لكنّني كأي ريفي، كنت أتخوّف من دخول المقاهي التي يرتادها. ثم قرأت "بين القصرين" فقررت رؤيته. كان يذهب كل يوم جمعة إلى كازينو "أوبرا"، فجلست قريباً منه. هكذا تعرّفت إلى محفوظ، وكان بجواره علي أحمد باكثير. منذ ذلك الوقت عرفت أن شخصية نجيب محفوظ مغايرة لكتاباته. فتوفيق الحكيم يشبه ما يكتب، ويوسف ادريس يحاول اضفاء لمسة تمرد وعبقرية وهذا متفق مع تفجراته في الكتابة. لكن صاحب الكتابات العميقة بدا لي ابن بلد، وصاحب ضحكة مجلجلة، ودخل في ثرثرة دائمة، وكان من المفترض ان يشابه في الشكل طه حسين أو توفيق الحكيم. بعد وقت عرفت ان ثرثرته هي الروح المصرية التي كان قادراً على الامساك بها في كتاباته. كان محفوظ غزير الانتاج وامتلأنا به جميعاً، ولا شكّ في انّه لعب دوراً، شأنه في ذلك شأن يحيى حقي ويوسف ادريس، في تكوين كل كتابنا. قرأت له بعض الأعمال مرات عدة، وبين وقت وآخر أحن إلى عمل فاقرأه... او تعنّ على بالي شخصية من شخصياته، فأسحب الرواية واقرأها. لم يكن نجيب محفوظ قد أخذ المكانة التي يستحقها في الستينات. صحيح انّه كان محترماً جداً في اوساط المثقفين، ولكنه في الاوساط العادية لم يكن معروفاً ومنتشراً بما فيه الكفاية. كان يطغى كل من احسان عبد القدوس ويوسف السباعي على المشهد الأدبي، بسبب رواياته المسلسلة في الصحف. وبدأ يشتهر فعلاً عندما نشر أعماله مسلسلة في "الاهرام"، إضافة إلى السينما التي ساعدت في ايصاله إلى رجل الشارع. أعظم أعماله برأيي "اولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش"، فهي من الروايات التي مازلت اقرأها بشغف مجنون. وبما انّي قرأت التوراة قبل "أولاد حارتنا"، فقد ذهلت من قدرته على الاستفادة منها في روايته. اما "ملحمة الحرافيش" فهي عالم واسع، كما أذهلتني قدرة محفوظ على السيطرة على هذه الشخصيات كلها، وعرفت منه أنه يخصص ملفاً لكل شخصية حتى لا ينسى، ويعيد قراءة كل ما كتب. نجيب محفوظ من العلامات البارزة في الأدب العالمي. أما في العالم العربي فهو كاتب القرن، إذ لم يترك أحد غيره آثاراً ادبية بهذا الكم وهذا المستوى. وفي مصر مهّد لنا طريقاً واسعاً، وأراحنا من عناء مجابهات قاسية ومغامرات كثيرة. وها نحن نتابع الرحلة، نحن الكتاب الذين جئنا بعده، وإن بأشكال أخرى.