يعيش السعوديون في رمضان كما في كل المجتمعات الاسلامية حياة تجمع بين المألوف والجديد فيصبح القديم طازجاً. والذاكرة تسبغ مناخها على كل رمضان يجيء، فلا يخلو من اجواء الذكريات الأولى لرمضانات الأجداد العبقة برائحة البخور في المساجد، والبُرّ والتمر على الموائد فتتوهج لحظات الأجيال اللاحقة، وضوحاً وقرباً من الأوائل ينعكس في قدرتها على التكيف مع اجواء الشهر الفضيل وطقوسه الخاصة. هذه الذاكرة الرمضانية المميزة تستمد حيويتها من العناصر العديدة التي يزخر بها هذا الشهر سواء ما يتعلق منها بالممارسات الدينية للعبادات أو بالعادات الاجتماعية أو بالأطباق الشهية التي تشتهر بها كل منطقة من البلد الواحد. انها حياة خاصة تغني الصائم وتعزز كيانه على غير مستوى فالانسان يختبر حاسته الفردية في قدرته كفرد امام الله على الصيام من دون رقيب، وفي الوقت نفسه يمارس ويختبر حاسته الاجتماعية كفرد ينتمي الى كيان اجتماعي واحد في ممارساته وعباداته ومواعيد طعامه وصيامه وغير ذلك من أنظمة دقيقة. الأسرة صغيرة كانت أو كبيرة، هي أول من يتأثر ايجاباً بنظام شهر رمضان. فالموعد المحدد للإفطار والسحور يوحدان أفرادها ويجمعانهم الى مائدة تزيدها الأطباق الرمضانية لذة وأنساً. ليس هذا فقط، بل ان الأقارب يأتون أيضاً من مدن متباعدة في بعض أيام رمضان ليجتمع شمل العائلة الى مائدة واحدة، يأتون فتتجدد أواصر القربى والصفاء الأسري. ومع تبدُّل المناخ من رمضان صيفي عاشه الناس سنين عديدة، الى رمضان شتوي، يحلو للناس في المدن السعودية وخصوصاً الشباب قضاء الفترة الممتدة من العصر الى الغروب في التنزه خارج المدن والتجول بسياراتهم في الخلاء أو الجلوس، وغالباً ما تحمل الأسرة افطارها وتخرج لتناوله في البر. ومما يميز المساجد وبعض البيوت السعودية المقتدرة، حرصها على اعداد موائد افطار يومية يتعاون على اقامتها ابناء الحي الواحد من أهل الخير لتوفير افطار للصائمين من المحتاجين والمساكين طيلة شهر رمضان. ومن ناحية اخرى تحرص الاسرة السعودية بعد صلاة المغرب على مشاهدة المسلسلات الرمضانية والبرامج المنوعة التي تعرضها القنوات التلفزيونية وتتصف عادة بالطرافة والكوميديا، فيحلو الضحك والحديث بعد زوال العطش والجوع. وبين صلوات التراويح تقدم القهوة العربية والشاي ويتعطر الهواء برائحة البخور، ويحاول البعض الآخر الانفراد بخدمة مسجد بعينه حرصاً على زيادة الأجر، كما يستمتع الصغار بالتدرب على صب القهوة وتقديم القهوة والشاي وتبخير المصلين ببخور العود المرتفع الثمن. ويعتمر معظم القادرين في السعودية خلال الشهر المبارك، ويحرص كثيرون على قضاء العشر الأواخر منه في مكة للصلاة في المسجد، وهناك أسر لا حصر لها تقضي رمضان كله منذ سنين عدة في مكة قرب المسجد الحرام للصلاة فيه. وبما ان اجازة منتصف العام توافق بداية رمضان فإن تلاميذ وطلبة المدارس والجامعات يرافقون عائلاتهم الى مكة على الرغم من ارتفاع أسعار أماكن الاقامة. بعد صلاة التراويح ينتشر الناس للتسوق والزيارات، ويعتبر رمضان شهر التسوق والازدهار التجاري، حيث تكثر العروض والحسومات المغرية بغية الحصول على اقصى ربح ممكن في هذا الموسم الذي يعقبه عيد الفطر. والمدفع الذي كان الى يوم قريب من علامات رمضان المميزة لدى الناس في شتى أنحاء السعودية ضعفت مكانته مع انتشار مكبرات الصوت التي تنقل الآذان، ولم تعد له تلك الميزة مع انه لا يزال مستعملاً في بعض المناطق الريفية والمدن البعيدة عن العاصمة. وكما ان لرمضان صبغته الدينية والاجتماعية، فإن له موائده وأطباقه المميزة، ورمضان الذي حل هذا العام مع ذروة فصل الشتاء في معظم المناطق السعودية أوجد اختلافاً بعض الشيء عن الأعوام الماضية، فشاركت المواقد التي يشعشع لهيب جمرها باعثاً الدفء، العائلة في جلستها داخل البيت وهي تتحلق حول موقدها. والمشروبات التي كانت زجاجاتها تفيض بالثلج خلت منه، عدا منطقة الحجاز التي لا يبرح الصيف ربوعها الدافئة. وتختلف المناطق السعودية بعض الشيء في اعداد موائد افطارها، ففي الحجاز مثلاً تحرص ربات البيوت عند اعداد وجبة الافطار على تبخير الكؤوس التي تشرب منها العائلة الماء ببخور المستكة. ولا تخلو المائدة الرمضانية من السمبوسة والشوربة والمكرونة وعصائر البرتقال وشراب التوت وقمر الدين والتمر هندي. اما أطباق الطعام الرمضانية فتتباين من مكان الى آخر، فمناطق الشمال نظراً لبرودتها الشديدة تهتم بالأطعمة الغنية بالسكريات كپ"البكيلة"، وهي أكلة تشتهر بها منطقة الجوف الشمالية وتتكون من معجون التمر المخلوط بالسمح نبات تشتهر به تلك المنطقة، والسمن البري، يصاحبها خبز المقشوش المخبوز على الصاج، والجبرق وهو ورق العنب المحشو باللحم والرز ويعتبر أكلة قديمة عند أهل الشمال لكثرة العنب هناك ووفرته. وعلى مائدة أهل الجنوب يقدم "الرقش" وهو عبارة عن رقائق خبز تغمر بمرق اللحم وتوضع في اناء خاص اسمه المدهن وهو نوع من حجر الصفا يقتطعه الجنوبيون من صخور الجبال وينحته حرفيو المنطقة على شكل اناء. ويشتهرون ايضاً باعداد العصيدة. ولأن المناطق السعودية عرفت الرز قبل حوالى أربعين عاماً فإن القمح والتمر كانا المادتين الأساسيتين لمأكولاتهم التي تُطهى مع السمن واللبن اللذين تنتجهما دوابهم في المزارع. ومن الأطباق الشتائية التي تميز بها أهل المنطقة الوسطى في السعودية المرقوق والقرصان والمطاريز والجريش التي تقدم على مائدة السحور غالباً. وفي رمضان يكثر بيع التمور التي يفطر عليها الناس قبل كل شيء لما ورد عن تفضيل لذلك في السنة النبوية، وأشهر أنواع التمور الرائجة السكري، الخلاص، البرجي والسلج. وينتهز الناس رمضان لتلاوة القرآن وختمه كل حسب طاقته، كما ترتفع مبيعات الكتب والصحف. والرياض العاصمة يتوقف نبضها تماماً قبل الغروب، ومن يسير في شوارعها ويراها خالية خلوة موحشة يكاد لا يصدق عينه حين يشاهد المدينة وقد غصت بالسيارات بعد الافطار بقليل