الريبة التي ترافق صعود الإخوان المسلمين في الدول التي أنجزت أو في طريقها إلى إنجاز مهمة تغيير الأنظمة، لا تبدو صادرة من العدم. فجماعات الإخوان في هذه الدول صادرة عن خبرات لا تقل عن خبرات الأنظمة لجهة انغماسها في العمل العام وفق المنطق السائد. فقد تعاون الإخوان مع أنظمة فاسدة وشمولية في مواجهة أنظمة قمعتهم، وحاولوا توظيف عصبيات محلية ضيقة في سياق صراعهم مع خصومهم في مراحل مختلفة. وهم لكثرة ما كابدوا من الأنظمة صاروا يشبهونها في طموحاتهم وبرامجهم وخططهم. في سورية مثلاً تحولوا بعد مجزرة حماه في 1982 إلى ذنب للنظام في العراق، وفي فلسطين هم اليوم في ركب النظام السوري، وفي الأردن تفاوتت وظيفتهم بين ملحق بالملكية الهاشمية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بين خصوم لها بدءاً من التسعينات. أما في مصر، فقد رعى التنظيم الدولي لهذه الجماعة كل هذه التباينات بين فروعه الكثيرة، وتولى رأب الصدوع الناجمة عنها. فكان مثلاً يتولى «تصويب» مشاعر الإخوان السوريين حيال «إخوانهم» الفلسطينيين الملتحقين بالنظام الذي اجتث الإخوان في حماه وغيرها. واليوم يتولى التنظيم الدولي كما يبدو إعادة التوازن بين تنظيميه السوري والفلسطيني بعد أن اختل مجدداً بفعل الثورة السورية. لن تصدق كثيراً المبالغة القائلة إننا اليوم بفعل الربيع العربي حيال صعود غير مسبوق لجماعة الإخوان المسلمين، ولكن يبدو أننا حيال مرحلة تصويبية لجهة التمثيل. فلنراقب مثلاً ثلاث دول انجلى المشهد الإخواني فيها وإن على نحو متفاوت: مصر وتونس والأردن. في الأولى كما في الثانية تقدر الاستطلاعات الأولية التي سبقت الانتخابات المزمعة حجم الإخوان بين 25 و30 في المئة من المجالس المنتخبة، وفي الثالثة أعلن رئيس الحكومة المكلف عون الخصاونة نيته إشراك الإخوان في حكومته العتيدة. في الحالات الثلاث سيكون الإخوان شريكاً في السلطة. وهم أظهروا قدراً من البراغماتية في استجاباتهم يكشف إقبالاً على العروض المقدمة. ولا يبدو أن الشهية الإخوانية سيعيقها موقع الدولة التقليدي في المعادلات الإقليمية والدولية، والذي يدرك الإخوان استحالة تغييره. فالتطمينات التي قدمها راشد الغنوشي لجيرانه الأوروبيين خلفت اقتناعاً لدى هؤلاء الجيران بضرورة اختبار الجماعة طالما أنها الحزب الأكثر حظاً في الفوز في هذه الانتخابات. أما في مصر فإلغاء اتفاقية كامب ديفيد ليس جزءاً من برنامج الإخوان، وإذا كان ثمة ما يحرجهم في موقع الدولة التي هم بصدد الاشتراك في حكمها، فسيتولى تبديده عدم تصدرهم المواقع السيادية فيها. وصحيح أنهم في الأردن سيشاركون في حكومة تقيم علاقات مع إسرائيل ومع الولاياتالمتحدة، لكن من المرجح أن تكون مشاركتهم في مفاصل التعليم والخدمات لا في مواقع الإدارة السياسية لعلاقات الأردن الخارجية. علمانية الدولة في تونس أو «مدنيتها»، واتفاقية كامب ديفيد في مصر، وإعلان فك الارتباط مع الضفة الغربية في الأردن، ستكف كلها عن «تكفير» الحكومات وعن شيطنتها. إذاً، لا تعديل جوهرياً في المواقع التقليدية للدول التي سيشارك الإخوان في حكوماتها، وهذا مؤشر جديد إلى الطبيعة البراغماتية للجماعة، لكنه أيضاً سبب لمزيد من الشكوك في نواياها. ذاك أن الهوة بين الخطاب والممارسة لم تردمها عمليات مراجعة فعلية لخطاب دأب على ذم وإدانة موقع الدولة من الحدث العربي والدولي. وإذا استعدنا حقيقة انعدام البرامج الاقتصادية والتنموية لهذه الجماعة، أو على الأقل انعدام الفروق بين هذه البرامج إذا وجدت وبين ما تبنته الدول والحكومات قبل الثورات، سنخرج بنتيجة مفادها أننا في حالة الإخوان المسلمين حيال صيغ معدلة على نحو طفيف من صيغ الحكم التي تمت إطاحتها. إذاً، ما هو جوهر الشكوك التي خلفتها الشهية الإخوانية الصاعدة؟ فمواقع الدول ووجهة سياساتها وعلاقاتها لن تشهد تبدلاً جوهرياً، والأداء الاقتصادي والتنموي أيضاً. واضح أننا حيال جماعة غير مسرعة في بلورة طموحاتها، وهي على ثقة بقدرتها على بث نفوذها عبر قنوات السلطة إلى مستويات تعتقد بأنها كفيلة بتغيير هوية المجتمع والدولة على نحو بطيء. لجماعة الإخوان خبرات واسعة على هذا الصعيد. إنهم، وفق ما يعتقدون، الأقرب إلى البنية الثقافية والدينية لمجتمعاتنا، وهم الأكثر قدرة على توظيف المسجد والإمام والساحات في خدمة دعاواهم. وإذا أضفنا إلى ذلك نفوذاً في أجهزة الدولة وفي برامج الإعالة والتعليم والتوظيف حصلنا على أجيال إخوانية تتولى إعادة الاستثمار في هوية الدولة هذه المرة. لا يعني ذلك على الإطلاق أن الإخوان سينجحون في ذلك، لكن عرض وجهتهم هذه هو نوع من الرد على مقولات تدعي أننا بصدد نموذج إخواني جديد متماهٍ مع النموذج التركي، كما أنه رد على قناعات غربية كما يبدو بهذه المقولة. فمركز نجاح حزب العدالة والتنمية يتمثل في النقلة الاقتصادية الهائلة التي أحدثها رجب طيب أردوغان في تركيا، في حين يغيب هذا الهمّ عن برامج الإخوان العرب. ثم إن عدم الصدام مع العلمانية التركية والتي حاول راشد الغنوشي محاكاتها، لا يكفي لطمأنة النخب الحديثة التي لا تقل اتساعاً في تمثيلها، وإن كانت تقل تنظيماً ودأباً ونضالاً. ما لا يُبشر بخير كثير حيال الصعود الإخواني في مجتمعاتنا، يتمثل في أننا حيال قوة سياسية واجتماعية قديمة كانت جزءاً من تاريخنا الحديث، عادت اليوم لتتصدر المشهد من دون أي مراجعة لكثير من المرارات التي كانت جزءاً منها. وإعفاء الإخوان أنفسهم من حقنا عليهم بالمراجعة ليس بالأمر العابر. فالإخوان السوريون، وإن كانوا اليوم مع سلمية الثورة في سورية، إلا أنهم كانوا في الماضي القريب جزءاً من مشهد العنف السوري، وبالأمس رفض علي صدر الدين البيانوني تحمّل أي مسؤولية عن وقائع عنف كثيرة كانت جماعته جزءاً منها. في مصر كان الإخوان ضحايا انقلاب جمال عبدالناصر لكنهم كانوا قبل ذلك شركاء في الانقلاب. وفي تونس اتخذوا قراراً بالعمل العسكري مطلع التسعينات فأيقظوا شياطين زين العابدين بن علي، ولعل عبدالفتاح مورو الإخواني المنشق والزعيم «غير العسكري» للجماعة حتى 1992، كان أول ضحايا هذا القرار عندما اتُخذ وباشرت الجماعة مهاجمة مراكز للشرطة من دون علمه. وبما أننا لسنا حيال تاريخ ناصع، وبما أن «جنة» الإخوان ليست ملاذاً للملائكة، فمن حقنا أن نرتاب.