بعد مضي سنوات من المشكلات المكتومة أحيانا والمعلنة في احيان اخرى في العلاقات بين مصر واثيوبيا، علمت "الوسط" ان القاهرة اعتمدت سياسة جديدة لاحتواء الخلافات مع اديس ابابا. وابرز مؤشرات ذلك خلال الايام الماضية ان الرئيس المصري حسني مبارك بعث برسالة الى رئيس الوزراء الاثيوبي ملِّس زيناوي، دعاه فيها الى عقد اول اجتماع للجنة المشتركة المنبثقة من اتفاق وقعه الطرفان في تموز يوليو 1993. وكان اجتماعها أُجِّل اكثر من مرة، ويعد العمل لانعقاد هذه اللجنة في مقدم اولويات السفير المصري الجديد لدى اثيوبيا مروان بدر الذي سيتوجه الى اديس ابابا مطلع الشهر المقبل، حاملاً رسالة اخرى من الرئيس مبارك الى نظيره الاثيوبي تؤكد "حرص مصر على دعم العلاقة". ويعد اختيار بدر الذي يشغل منصب مساعد وزير الخارجية ومدير الادارة الافريقية في الوزارة، احد مؤشرات الحرص على العلاقات الثنائية. كذلك أجرت القاهرة اتصالات مع أديس أبابا قبل أيام لتقديم المساعدات اللازمة لاثيوبيا، وذلك اثر اعلان مفوضية الاغاثة ومنع الكوارث في العاصمة الاثيوبية عن ان 5.2 مليون مواطن يواجهون خطر الموت جوعاً بسبب تلف المحاصيل الزراعية نتيجة نقص الامطار. جدير بالذكر ان اتفاق 1993 اكد على "استخدام مياه النيل على اساس قواعد ومبادئ القانون الدولي والامتناع عن أي نشاط يؤدي إلى احداث ضرر بمصالح الطرف الآخر في ما يخص مياه النيل". وعلمت "الوسط" من مصدر مصري ان اتصالات مصرية اثيوبية تجري الآن في شأن اعداد الرأي الفني لتأثير مشاريع اثيوبيا المائية على امن مصر المائي. وهو الامر الجاري تجهيزه حاليا، ولفت المصدر الى انه "في حال تيقن مصر من دراسات الجدوى الخاصة بهذه المشاريع، عدم وجود اضرار تمس امن مصر المائي، فلن تمانع في اعطاء موافقتها للبنك الدولي أو حتى مساعدة اثيوبيا بالخبرة في تنفيذ مشاريع لصالح شعبها. وأشار الى ان مصر ابلغت البنك الدولي العام الماضي موافقتها علي مشروع اثيوبي لانشاء سدين على النيل الازرق، بعد ان تأكدت من عدم وجود آثار سلبية للمشروع. وبعد ان تثبتت من ان تصريف السدين يبلغ 92 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، وهو ما يوازي تصريف القاهرة في يوم واحد. ويذكر ان النيل الازرق يعتبر مصدر 85 في المئة من حصة مصر من مياه النيل. غير ان المصدر المصري اضاف: "اذا جاءت نتائج الدراسة الفنية سلبية، سنرفض هذه المشاريع. وسنبلغ البنك الدولي وكل جهات المنح المحتملة لضمان عدم تمويل تلك المشاريع، باعتبار ان موافقة دول احواض الانهار شرط رئيسي لتقديم تمويل حسب الاتفاقات والقوانين الدولية" الا انه اكد "انه واثق من ان اثيوبيا لن تقدم على تنفيذ مشاريع ضارة بدول الجوار. يمثل "الشمال الشرقي" تاريخيا بالنسبة الى مصر بوابة الموت، فمنه قدم الغزاة دوما بينما كان الجنوب يمثل بوابة الحياة، منه يتدفق النيل منذ القدم. ومنذ سنوات واجهت مصر تبدلاً في أدوار البوابات، خصوصاً بعد توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل العام 1979، واثارة اثيوبيا مسألة اعادة التفاوض حول حصص حوض النيل من مياهه. وأحيانا كانت تتوحد مهام البوابتين كحالة فريدة حين يصير التهديد بسلاح المياه. ومنذ سقوط نظام الرئيس الاثيوبي السابق مانغستو هايلي مريام، تبني النظام الحاكم حاليا بزعامة زيناوي مطلبين في شأن المياه، الاول: تنفيذ مشاريع طموحة باقامة ثمانية سدود على الروافد النيل الازرق وعطبرة ودابوس وبارو. والثاني: اعادة التفاوض حول حصص دول حوض النهر تحت شعار "عدالة التوزيع". ومنذ 1984 شهدت العلاقات المصرية الاثيوبية أزمات بعضها كان مكتوماً وكان الآخر معلناً. ونشأ معظمها عن رفض مصر تنفيذ مشاريع الا بعد موافقتها، والتأكد من عدم اضرارها بحصتها البالغة 5،55 بليون متر مكعب سنويا من اجمالي ايراد النيل 102 بليون متر مكعب. ولوحظ انه كلما تأزمت العلاقات المصرية - الاسرائيلية كانت اثيوبيا تجدد بقوة مطالبها. وغالبا كان يتضمن هذا الطرح هجوما على مصر بزعم وجود اتفاقية سرية لنقل مياه النيل الى اسرائىل. وتقول اثيوبيا ان "قناة السلام" لنقل المياه الى سيناء تمثل برهانا على ذلك. وزاد من استغراب مصر انها قدمت ايضاحات عام 1980 لحكومة مانغستو عندما اثير هذا الموضوع للمرة الاولى. واكدت انه لا يوجد اتفاق سري من ذلك القبيل، وان حديث الرئيس المصري الراحل انور السادات عن نقل مياه النيل الى القدس كان مجرد "تصريح عابر في مجلة اكتوبر ضمن حديث تناول احلامه لمستقبل الشرق الاوسط. ودرجت القاهرة منذ العام 1991 على تكذيب هذه المزاعم مرة او مرتين سنويا، خصوصاً انها تثار مع كل ازمة مصرية اسرائيلية، مما عزز الاعتقاد لدى الاوساط المصرية بوجود صلة بين الامرين. وكانت آخر مرة حصل ذلك في شباط فبراير 1995 حين طرحت اثيوبيا مطالبها تلك في ثنايا هجوم على السياسة المائية لمصر. وفي الوقت نفسه كشفت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية عن وجود وثيقة عن "عقاب مصر" كانت اعدتها وزارة الخارجية الاسرائيلية. وفي نيسان ابريل الماضي اعلنت اثيوبيا خطة تطوير الموارد المائية من روافد النيل واقامة مشاريع تشمل انشاء ثمانية سدود خلال ال 30 عاما المقبلة لتحويل الزراعة من الاعتماد على الري المطري الى الري الدائم. وأخيراً، أعلن زيناوي نهاية الشهر الماضي "طلب بلاده من دول حوض النيل الحصول على حصة عادلة من مياه النهر"، وابداء تحفظات على المشاريع المائية المصرية في سيناء وتوشكى. وقال زيناوي الصدد ان الأعراف الدولية تمنع نقل المياه خارج احواض الانهار حتى ولو كان ذلك داخل اراضي الدولة. وعمد وزير الخارجية سيوم مسفين الى اتهام مصر بأنها "تعمل على تصوير بلاده عدوا للدول العربية لصرف النظر عن اتفاقياتها السرية مع اسرائيل"، وقال ان هذه الاتفاقات "موثقة لدى منظمات دولية ونوقشت في اجتماع لجنة اقتصادية مصرية اسرائيلية العام 1993 وان أديس ابابا حصلت على محضره". وبدا من رد فعل القاهرة ان ما أثارته اثيوبيا لم يكن مفاجئاً، اذ اعتادت حصوله منذ العام 1991. وأعرب الرئيس مبارك عن اعتقاده "بأن اي دولة من دول حوض النهر لا يمكن ان تضر بأمن مصر او تغرق نفسها بمياه النهر". وحذر نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة المصري الدكتور يوسف والي من ان اي مشروعات لاستغلال مياه نهر النيل لن تتم من دون موافقة دول حوض النيل وفي اطارالاتفاقات الموقعة لاستغلال مياه النهر، ومنها اتفاقية العام 1902. ولفت الى ان بلاده لم تتلق رسميا ولا وديا طلباً لنقل مياه النيل خارج حدودها سواء لاسرائيل او لغيرها. وقال مصدر مصري رفيع المستوى ل "الوسط" ان سياسة مصر تجاه اثيوبيا تتسم بعدم التشنج والعمل على عدم التصعيد. وعزا ذلك الى ان رئيس وزراء اثيوبيا زيناوي اوفد الى الرئيس مبارك في شباط فبراير الماضي مبعوثا هو وزير النقل والمواصلات عبد المجيد حسين الذي كان مع الرئيس مبارك في سيارته خلال محاولة الاعتداء على حياته في اديس ابابا في حزيران يونيو 1995. واكد المبعوث خلال الزيارة عدم وجود خلافات في مسألة المياه، ومع ذلك عمدت اديس ابابا بعد اسبوع من زيارة المبعوث الى تجديد مزاعمها في شأن "الاتفاق السري"، وأضافت الى ذلك فتح باب التفاوض بينها ومصر حول اتفاقية جديدة لقسمة عادلة لمياه النهر. وأشارت الى عدم حاجة مصر لنحو 11 بليون متر مكعب من حصتها في مياه النيل. مستندة الى دراسة حصلت عليها من البنك الدولي مما اثار ازمة بين مصر والبنك الدولي. وبعد اسبوع من ارسال زيناوي في 12 نيسان ابريل الماضي رئيس اركان الجيش الاثيوبي الجنرال صافان جبريت الى الرئيس مبارك "لتنقية الاجواء"، وتأكيد صافان "تطابق وجهات النظر حول القضايا المشتركة"، اعلنت اثيوبيا خطتها المائية. وعما اذا كانت مصر تعتبر المواقف الاثيوبية "استراتيجية ام تكتيكية"، قال المسؤول المصري: انها تكتيكية. غير ان مصر تعتمد في تعاطيها اسلوبين عكسا احساسها المبكر بمخاطر "السلاح المائي"، الاول: عسكري، تجلى في حملة الخديوي اسماعيل اواسط القرن الماضي الى اعالي النيل في اثيوبيا واوغندا لتأمين منابع النيل. والثاني: سياسي، تمثل في اقامة علاقات طيبة مع دول حوض النيل. وعلى رغم استبعاد مصر الاسلوب الاول فأنه تجدر الاشارة إلى ان الرئيس الراحل السادات اكد، بعد زيارته القدس عام 1977، استعداده لدخول حرب من اجل المياه اذا هُدِّدت مصر بهذا السلاح .