استبعدت أوساط ديبلوماسية عربية ودولية ان تتجاوز الجولة الجديدة من العمليات العسكرية التي شهدها جنوبلبنان اخيراً حدوداً معينة، واعتبرت انه على رغم صعوبة التكهّن بالمفاجآت السلبية مما قد يؤدي الى تصعيد خطير، فإن الاتجاه العام للوضع هناك يدلّ على ان احتمالات التصعيد تظل ضئيلة في الوقت الحاضر على الاقل. وعلّلت تلك المصادر اعتقادها ب "مجموعة من الاعتبارات السياسية والامنية والعسكرية التي تنطبق على أطراف الصراع من دون استثناء". وقالت أنه "لا يوجد ما يشير حتى الآن الى ان لأي من الاطراف مصلحة في مواجهة عسكرية واسعة النطاق في جنوبلبنان". وفي الوقت الذي أقرّت هذه الاوساط بأن تلك المعطيات "قد تتغير في مرحلة لاحقة بما يجعل احتمالات المواجهة الواسعة اكثر ترجيحاً، فمن غير المتوقع ان يحدث ذلك قبل اسابيع عدة تتضح خلالها امور معينة على المستوى الاقليمي". وكانت العمليات العسكرية شهدت تصاعداً ملحوظاً في الجنوب خلال الاسبوع الماضي عندما تعرّضت مدينة صيدا الساحلية لقصف مدفعي ادى الى وقوع مجزرة في صفوف المدنيين الابرياء بلغ عدد ضحاياها 7 قتلى و40 جريحاً. وكانت هذه المرة الاولى التي يصل فيها القصف الى عاصمة الجنوب التي تبعد نحو 50 كيلومتراً عن الحدود ويقطنها نحو 250 الف نسمة، منذ عملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية في نيسان ابريل 1996. وعلى رغم مسارعة الجيش الاسرائيلي إلى نفي علاقته بقصف صيدا، وإلقائه التبعة على ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي" بقيادة اللواء المتقاعد انطوان لحد، والزعم بأن هذا القصف جاء انتقاماً لمقتل شاب وفتاة في انفجار تعرّضت له السيارة التي كانت تقلّهما بالقرب من مدينة جزين الواقعة تحت سيطرة ميليشيا لحد علماً بأن والد القتيلين كان مسؤولاً عسكرياً سابقاً في هذه الميليشيا وقُتل قبل اسابيع في عملية تفجير مماثلة، فإن المراقبين أجمعوا على ان "جيش لبنانالجنوبي" لا يمكن ان ينفّذ "عملية نوعية" كهذه تنطوي على العديد من احتمالات التصعيد والمخاطر العسكرية والسياسية من دون موافقة مسبقة من القيادة الاسرائيلية. وفيما عمد الجيش اللبناني الى الردّ على قصف صيدا بخطوة لافتة انطوت على مبادأته بقصف مواقع الميليشيات المتحالفة مع اسرائيل في جزين وجوارها، كان ردّ "حزب الله" على ذلك القصف تقليدياً، اذ أطلق مقاتلوه عشرات من قذائف الكاتيوشا على شمال اسرائيل، وردّت الأخيرة بتنفيذ طائراتها المقاتلة ما سمته المصادر الحكومية الاسرائيلية "سلسلة من الغارات التحذيرية" التي توزعّت على أهداف لمقاتلي "حزب الله" ومواقع الجيش اللبناني ومنشأة كهربائية تقع الى الجنوب من العاصمة اللبنانية. وبدا واضحاً ان الاسرائيليين أرادوا من خلال هذه الغارات توجيه رسالة سياسية - عسكرية الى كل من الحكومتين اللبنانية والسورية، مفادها ان استمرار عمليات المقاومة في الجنوب من شأنه ان يؤدي الى رد اسرائيلي قد تتجاوز أطره الميدانية والجغرافية حدود تلك المنطقة. اذ ان الأهداف التي هاجمتها الطائرات الاسرائيلية لپ"حزب الله" كانت على مقربة من الحدود السورية، في حين جاء قصف المنشأة الكهربائية في بلدة الجيّة، على اثر التصريح الذي أدلى به عوزي لانداو رئيس لجنة الشؤون الدفاعية في الكنيست الاسرائيلي المعروف بقربه من رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، وطالب فيه بقصف منشآت البنية التحتية الحيوية في لبنان انتقاماً لعمليات المقاومة في الجنوب. لكن المصادر الديبلوماسية لاحظت، في المقابل، ان الرد الاسرائيلي على هجمات الكاتيوشا التي استهدفت مناطقه الحدودية الشمالية اتسم بپ"ضبط النفس"، على خلاف العمليات الانتقامية الواسعة التي كانت مثل هذه الهجمات تستثيرها من جانب الحكومات الاسرائيلية في الماضي. وفسرت المصادر ذلك بأنه كان "نتيجة رغبة نتانياهو وحكومته في تجنب تصعيد عسكري كبير في الجنوباللبناني في هذا الظرف بالذات لاعتبارات داخلية، وكذلك استجابتها لجهود أميركية كثيفة سعت الى الحؤول دون انفجار الوضع خلال هذه الفترة التي يجري فيها الاعداد لزيارة وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت المقررة الى الشرق الأوسط الشهر المقبل". وكان من بين أبرز المساعي التي بذلتها واشنطن لتخفيف الاحتقان ونزع فتيل التفجير الاتصال الهاتفي الذي اجرته أولبرايت مع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وناشدته فيه ضرورة بذل دمشق جهودها أيضاً للجم التصعيد. وتفيد المصادر ان الرد السوري كان ايجابياً وان الوزير الشرع "طمأن أولبرايت الى ان سورية ستبذل ما في وسعها لتهدئة الوضع"، وذلك في الوقت الذي شددت فيه المواقف اللبنانية والسورية الرسمية، ومعها المواقف التي أعلنتها قيادة "حزب الله" نفسها، على التمسك بمبادئ "تفاهم نيسان" الذي كان للتوصل اليه العام الماضي الفضل في وضع حد لعملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية على أساس التزام الفرقاء عدم التعرض للمدنيين وحصر العمليات العسكرية في الجنوب بالأهداف ذات الطابع العسكري. وليس هناك ما يدل حتى الآن على ان أياً من هؤلاء الفرقاء يريد التخلي عن "تفاهم نيسان"، وهو الأمر الذي دفع الأوساط الديبلوماسية في العواصم المعنية بهذا التفاهم، أي بيروتودمشق والقدس المحتلة وباريس وواشنطن، الى الاعراب عن تفاؤلها الحذر بپ"أن الأمور لن تتجاوز سقفها المحدد في الجنوب". لكن هذه الأوساط كررت تحذيرها، في المقابل، من "العوامل المفاجئة التي قد تطرأ، وتدفع الوضع الى تصعيد غير مخطط وغير مرغوب في". وشبه مصدر ديبلوماسي عربي الوضع الحالي في الجنوب بپ"برميل من البارود بفتيل مؤجل. وهناك العديد من أعواد الثقاب الكفيلة بإشعال هذا الفتيل وتفجير برميل البارود في أي وقت. ولعل أخطرها الوضع في منطقة جزين نفسها، حيث يهدد أي انسحاب مفاجئ قد تقرره اسرائيل او الميليشيا المتحالفة معها بإدخال المنطقة في دوامة عنف جديدة تصعب السيطرة عليها. لكنني لا اعتقد ان هذا الاحتمال وشيك، على الاقل قبل زيارة اولبرايت الى المنطقة، وقبل اتضاح الوجهات التي ستسلكها عملية السلام على المستوى الاقليمي الأوسع خلال المرحلة المقبلة التي ستلي هذه الزيارة" .