منذ 3 آب اغسطس الجاري أصبح حجة الاسلام سيد محمد خاتمي خامس رئيس للجمهورية الاسلامية الايرانية منذ تأسيسها في العام 1979، بعدما نفذ الولي الفقيه آية الله علي خامنئي، استناداً الى المادة 110 من الدستور الايراني، حكم الشعب وارادته الذي اجمع على انتخاب الرئيس الجديد في تفاصيل مثيرة. وإذا كان الرئيس خاتمي أدى اليمين الدستورية "في اليوم التالي" أمام البرلمان وتعهد بما ألزمه به القسم الشرعي حول الترويج للدين والحفاظ على الجمهورية الاسلامية ومصالحها واستقلالها، وفق البروتوكول السائد، إلا انه التزم ايضاً في خطاب "مكتوب" البقاء على نهج الامام الخميني الراحل، في "الدفاع عن المحرومين في العالم، خصوصاً الشعب الفلسطيني"، مؤكداً عزمه باصرار على "مقارعة قوى الاستبداد والهيمنة التي تريد النيل من استقلال ايران ومصالحها". إذن، ما الذي تغيّر في خطاب خاتمي المرشح للرئاسة في مقابل منافسه علي أكبر ناطق نوري، وخطاب خاتمي الرئيس الذي قال امام خامنئي انه مسؤول، ليس فقط أمامه كولي فقيه، وإنما أمام روح الامام الخميني للحفاظ على نظام الجمهورية الاسلامية؟! خلال الحملة الانتخابية، كان يحلو للكثير من المراقبين تقسيم المرشحين الأربعة بين محافظين ومعتدلين، ومتشددين ومتنورين، وأفرزت لغة الشعارات لأنصار المرشحين، ان خاتمي كان مرشح الاصلاح في مقابل مرشح التشدد واليمين الديني التقليدي. وانطلقت الشعارات التي فسرها المراقبون بالنسبة الى خاتمي بأنها تحمل بشائر عهد جديد من الانفتاح في علاقات ايران الدولية، وبدت عواصم غربية مفرطة بالتفاؤل ازاء مستقبل العلاقات بينها وبين طهران، ووصف الرئيس الأميركي بيل كلينتون انتخاب خاتمي بأنه أمر "يبعث على الأمل"، وأعرب عن رغبته الشخصية لانهاء "العزلة الأميركية عن شعب عظيم جداً"، وعلقت اذاعة طهران الحكومية بلهجة بعيدة كثيراً عن شعاراتها المعتادة "الموت لأميركا"، وبدلاً من ذلك تحدثت عن كلينتون الذي قالت انه يجري تغييرات جيدة في السياسة الأميركية. وألمح رد الفعل الايراني الى "تضاؤل محتمل في العداوة التي طبعت العلاقات الايرانية - الأميركية منذ 4 تشرين الثاني نوفمبر 1979 عندما احتل السفارة الأميركية في طهران الطلبة الثوريون". وتابعت الاذاعة بلهجة مخففة يغلب عليها الود: "ولم يقل كلينتون أي شيء جديد، ومختلف. ومع ذلك فإنه صاغ وصفه للسياسة الأميركية تجاه ايران بعبارات رقيقة ومحترمة وبعضهم اعتقد بأنها حملت تغييراً في السياسة". وساد جو من التفاؤل ايضاً في طهران في ما يتعلق بتعليقات الرئيس المنتخب خاتمي في مؤتمره الصحافي الأول. ومع ان خاتمي قال ان أي تغيير في سياسة ايران يعتمد على نقلة في السياسة الأميركية ازاء الجمهورية الاسلامية، لكنه اكد، مع ذلك، ان هدفه الأساسي يبقى في التغلب على التوتر في علاقات ايران الدولية. وعلى رغم ذلك اعتبرت أوساط عليمة ان هذا التفاؤل ساذج وسابق لأوانه، لسببين: ان عتلات السياسة الخارجية الأميركية في أيدي اللوبي الداعم لاسرائيل. وبناء على توصيات منه فإن الكثيرين من صانعي السياسة الخارجية المؤثرين في البيت الأبيض هم من اليهود. والسبب الثاني ان السياسة الخارجية الايرانية خرجت تماماً من الرئاسة بعد رحيل رفسنجاني عنها، وصارت مفاصلها في يد الولي الفقيه ومجلس تشخيص مصلحة النظام. وبعبارة أقر بها خاتمي وأفصح عنها رئيس حملته الانتخابية مرتضى حاجي فإن كل ما يتعلق باستراتيجية النظام يحدده خامنئي ورفسنجاني، وما على الرئيس خاتمي إلا التنفيذ بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية. لقد أصبح رفسنجاني رئيساً بصلاحيات كاملة لمجلس تشخيص المصلحة الذي يضم في عضويته عدداً كبيراً من الشخصيات الحقوقية والحقيقية، وبينهم رؤساء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويتخذ هذا المجلس قراراته الملزمة - مثلما قال رفسنجاني - بالتصويت، ولكل من رؤساء السلطات الثلاث صوت واحد لا يعلو فوق صوت رفسنجاني . مراكز صنع القرار وفي عهد رفسنجاني الرئاسي، كانت السياسة الخارجية ترسم باشراف خامنئي داخل مراكز صنع القرار الرئيسية، وكلها بقيادة رفسنجاني نفسه، ما عدا اشراف القائد، وهي المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني، اضافة الى مركز الدراسات والتحقيقات الاستراتيجية الذي يرأسه موسوي خوئينيها بما يجعله الأبعد في المشاركة الفعلية في صنع القرار لتباين النهج بين خوئينيها ورفسنجاني في التشدد والاعتدال مع الغرب والولاياتالمتحدة بشكل خاص. ومع منح مجلس "المصلحة" صفة دستورية العام 1989، وتوسيع دائرة صلاحياته في نيسان ابريل الماضي بقرار مباشر من الولي الفقيه، أصبح رفسنجاني فوق السلطات الثلاث يرسم السياسات الداخلية والخارجية، وسيركز على علاقات ايران الخارجية لأن الوضع الداخلي يصطدم بسلطة القانون التي يريد خاتمي تعزيزها بما يجعل مهمة مجلس "المصلحة" تتجه الى الخارج اكثر منها الى الداخل. ويمكن الاستنتاج مما جرى اثناء مراسم التنصيب أمام خامنئي، وخلال اداء خاتمي اليمين الدستورية أمام البرلمان، ان الرئيس الجديد الذي اكد ان اولويات حكومته هي لفتح الملفات الداخلية، لن يكون بوسعه احداث تغيير يذكر على صعيد سياسة ايران الخارجية. سياسة تصالحية متوازنة وبينما اكد خاتمي ان سياسته التصالحية مع العالم ستكون على أساس بناء علاقات متوازنة مع جميع الدول وفق مبادئ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وبعيداً عن القبول بهيمنة القوى الكبرى غامزاً بذلك من قناة الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي فإن رئيس حملته الانتخابية مرتضى حاجي أعلن نيابة عن الرئيس الجديد واثناء مراسم تنصيبه ان السياسة الخارجية في عهد خاتمي لن تشهد تغيراً، مضيفاً ان استراتيجية النظام تحدد من قبل خامنئي ومجلس تشخيص المصلحة . وشدد حاجي على ان عهد خاتمي لن يشهد أية مرونة او انعطاف تجاه الولاياتالمتحدة واسرائيل، ولن يقدم الرئيس الجديد اية تنازلات لتعزيز العلاقات مع بعض الدول الأوروبية. كان ذلك قبل اداء اليمين الدستورية. وبعدما انجز خاتمي مراسم القسم الشرعي شرح التزاماته تجاه هذا القسم، وكان خطابه هذه المرة مكتوباً ولم يرتجله كما فعل في مراسم التنصيب امام خامنئي. وقال انه مشغول الذمة بقسم عظيم يتعهد وفقه الاستمرار في نهج الامام الخميني الراحل "الثوري"، ويواصل السياسة الخارجية نفسها التي ورثها من سلفه، ومواصلة برامج الاصلاح الاقتصادي وإن كان مساعدوه يلمحون الى امكان ابطاء بعض هذه البرامج لتخفيف معاناة المواطن . ويمكن القول ان خاتمي شعر بان سياسته الخارجية ستكون خارج دائرة الرئاسة فلماذا إذن لا يتشدد ويوجه جل اهتماماته الى الداخل، الى المواطن الذي صوت لمصحلة برامجه في الانفتاح السياسي والتعددية واشاعة مناخ من الحريات الفردية والاجتماعية في أجواء آمنة داخل اطار سلطة القانون. والشيء نفسه برز من أنصار رفسنجاني في صحيفة "ايران نيوز" التي استثمرت أجواء يوم التنصيب وكتبت مشيرة الى ان العلاقات مع واشنطن في عهد الرئيس الجديد "ممنوعة". وهذا الأمر ايضاً عكسه خامنئي بطريقته المعروفة عندما ارتجل خطاباً دعاه فيه الى تحقيق العدالة الاجتماعية ومواصلة "التصدي لقوى الاستكبار والهيمنة". ويلاحظ في حكم التنصيب "المرسوم الولايتي" ان خامنئي أشار الى الخطوط الحمر التي يجب ألا يتجاوزها الرئيس الجديد بقوله: "انني أقوم بتنفيذ رأي الشعب وأعين حجة الاسلام السيد الحاج محمد خاتمي دامت معاليه، رئيساً للجمهورية الاسلامية الايرانية… وأن هذا التنفيذ مثلما هو رأي الشعب، باق، ما دام السيد خاتمي متعهداً المضي على الصراط المستقيم الذي هو كما شرح خامنئي عليه الآن، ويعني طريق الاسلام وأحكامه النورانية والدفاع عن المستضعفين والمظلومين والوقوف أمام الاعداء الظالمين المستبدين المستكبرين". ولكي يضمن خامنئي ان كلامه أوجد تأثيره المستقبلي ختم بلهجة الواثق: "وطبعاً سيكون خاتمي كذلك". وأمام الرئيس الجديد ليفي بوعوده الانتخابية بعدما ارتجل هو الآخر خطاب جوابياً تعهد فيه بما أمره به خامنئي، وأكد العمل تحت زعامته، مقراً بنظام ولاية الفقيه، ان ينسق مع خامنئي ورفسنجاني تنسيقاً كاملاً إذا كان يريد ان لا تنال منه ضغوط اليمين "الخاسر" الذي لا يزال يسيطر على البرلمان، وعلى معظم رجال المؤسسة الدينية، وعلى البازار وعدد كبير من مراكز القوى المؤثرة، وبامكانه ان يثير العراقيل ويضع المطبات. دعوة الى الدعم وقبل ذلك حصل خاتمي على تأييد البرلمان وعبر بوابته بسهولة، لكن ذلك لا يعني ايضاً ان طريقه نحو الوفاء بوعوده الانتخابية سيكون مفروشاً بالزهور، بما يحتم عليه الاتعاظ من تجربة جناح اليسار الديني الذي ينتسب اليه، مع الولي الفقيه الحالي، عندما وقع هذا الجناح في أخطاء فنية جعلته مع خاتمي عرضة لسهام اتهمته بالانحراف عن نهج ولاية الفقيه. وحتى في التغييرات التي وعد بها خاتمي في دائرة المسموح داخل اطار النظام فإن تعاونه مع خامنئي ورفسنجاني لازم، او الانتظار حتى ربيع العام الفين، موعد الانتخابات التشريعية المقبلة لتصحيح معادلة الأجنحة في البرلمان لمصلحته، على أساس ان عراقيل البرلمان في غالبيته المحافظة ستجعل النواب وجهاً لوجه أمام الناخب الذي اصطف خلف خاتمي وبرامجه الانتخابية. ويقول عدد من مساعدي خاتمي لپ"الوسط" ان تفرغ الرئيس للداخل سيعفيه ايضاً من التصادم مع الملفات الساخنة الخارجية، من أزمة الجزر الثلاث مع الامارات، الى باقي مفردات العلاقات الايرانية اقليمياً ودولياً، ما دامت أصول اللعبة خارج ارادته "وهو لا يملك فيها صوتاً وحداً داخل تشخيص المصلحة" وما عليه كما تعهد إلا الاستمرار في نهج السياسة الخارجية لسلفه. وسيكون أمام خاتمي عدد من أبرز الملفات الداخلية يتعين عليه الشروع بفتحها حسب سلم الأولويات: 1 - الملف السياسي، يريد خاتمي تعزيز مواقعه في الداخل باشاعة التعددية الفكرية والسياسية وتوفير اجواء مسالمة تحول دون انتهاك الكرامة الانسانية وحرمة القانون. 2 - سيادة القانون: ينظر خاتمي بجدية الى تقارير اعدها مستشاروه والخبراء الذين تعاونوا معه، وهي ان يضع العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في اطار القانون. ويرى خاتمي ان المجتمع الايراني يعاني من نظام هيمنة العلاقات غير المشروعة والبعيدة عن حدود القانون ومقرراته. ويقول خبير ايراني: "نعاني في مجتمعنا من هذا الأسلوب الذي دفعنا ثمنه الباهظ من التمدن والحضارة وضياع فرص واقعية للتنمية بعدما أصبحت الروابط الأساس في العلاقات الاقتصادية والسياسية فوق الضوابط القانونية بما أوجد لصوص المال الحرام الذين وصفهم خامنئي بوحوش المال العام". 3 - الملف الاقتصادي: يشعر خاتمي ان عليه الابطاء من بعض البرامج الاقتصادية والعمل على ايجاد وحدات انتاج صغيرة في المدن والأرياف لتخفيف الضغط على المدن الكبيرة وتشجيع الهجرة المعاكسة، وهو يفكر بحل مشكلة البطالة لخفض نسب التضخم. 4 -الملف الحزبي: إذا كان شعار خاتمي الانتخابي ركز على ان التنمية السياسية تسبق التنمية الاقتصادية، فعليه إذن كما يرى الخبراء، العمل من أجل تطبيق قانون الأحزاب ومادته العاشرة على وجه الخصوص، التي اقتصرت حتى الآن على تنظيمات وجماعات مهنية ودينية واجتماعية لا تتفق مع أصول الحياة الحزبية التي تفتقدها ايران. 5 - الملف الأمني: وإن كان هذا الملف يرتبط أساساً برغبة خاتمي في تعزيز سلطة القانون، إلا انه بدأ يصطدم بموضوع التوزير في شأن حقيبة الأمن والاستخبارات، حيث لم يحسم قبل مراسم تنصيبه من سيتولى هذه الحقيبة. ويريد الرئيس المنتخب ان تتفجر الطاقات داخل المجتمع الايراني في أجواء الأمن السليمة ويشعر المواطن بالأمان حتى وهو يوجه النقد الى الحكومة. ولا يعتقد خاتمي بأنه سيقدر على تأسيس جمهورية افلاطون، فهو لا يملك عصا سحرية، لكنه يبدو واثقاً بأن ما يحصل عليه من القانون سيكون بمثابة انتصار كبير للنظام، وما اعتبره انصاره كالدكتور علوي تبار والدكتورة الشاعرة صدّيقة وسمقي بأن المجتمع المدني الذي يريده خاتمي قائماً على الالتزام الديني، شكل بارز من أشكال المقاومة للاستبداد التقليدي الذي عانت منه ايران في عهود طويلة، وبأسماء وأغلفة مختلفة. وهناك ملف الشباب والمرأة، وهو قطاع كبير من الايرانيين الذين رجحوا كفة خاتمي في الانتخابات، اضافة الى ملف الغزو الثقافي وطريقته المتسامحة في الدفاع عن القيم في مقابل الردة وما أصبح يعرف بالغزو الثقافي .