توجه الفيتناميون في العشرين من تموز يوليو لانتخاب ممثليهم في البرلمان. وعلى رغم ان البرلمان والدولة ما زالا تحت سيطرة القادة الشيوعيين الشيوخ، الا ان الفيتناميين كان من حقهم ان يختاروا هذه المرة 20 في المئة من المنتخبين من خارج الحزب الحاكم. ففي فيتنام اليوم اصبحت الاصوات المعارضة تجد من يستمع اليها بانتباه. وعلى رغم ان القادة القدماء لا زالوا على حماسهم للماضي ورموزه، فان ماكينة التجديد اخذت في الدوران. في العام 1987، وبعد مرور عام على بدء برنامج الاصلاح الوطني دواموا الذي أراد ان يضع فيتنام على طريق الرأسمالية، أقام الجيش الفيتنامي تمثالا للينين كترميز للاستمرارية. كان المكان الذي اختير لهذا التمثال حديقة صغيرة تقع في شارع ديان بيان فو وسط الحي الاستعماري لمدينة هانوي، غير بعيد عن ضريح الزعيم هوشي منه. جاءت الفكرة من الجنرالات المسنين الذين هزموا فرنسا في معركة ديان بيان فو وقاتلوا في تلك الاثناء الاستراليين والكوريين الجنوبيين والتايلنديين والأميركيين وأخيراً الكمبوديين والصينيين. وكان العام 1987 يصادف الذكرى السبعين لقيام ثورة اكتوبر التي حملت لينين الى السلطة وشهدت ميلاد دولة أصبحت فيما بعد الصديق الدائم لفيتنام الشيوعية ومصدر دعمها المالي الأول، ولكن ما لم يكن في حسبان هؤلاء الجنرالات هو انهيار الامبراطورية السوفياتية بعد أربع سنوات من بناء ذلك التمثال. وعلى رغم الصدمة، فان هانوي اليوم تفتخر بامتلاكها لواحد من اندر تماثيل لينين في العالم ما زال يقف شامخاً تحت حراسة ابنائه النجباء، الى جانب افتخارها بامتلاك أندر النظم وفاء للفكر الاحادي! وتحت "حراسة" ذلك التمثال الضخم، سار الزعماء الفيتناميون نحو سياسة "التجديد" الدواموا وشجعوا فكرة اقتصاد السوق. وتعني كلمة "التجديد" السير نحو الرأسمالية، لكن قادة هانوي شأنهم في ذلك شأن قادة بيكين، لا ينوون اطلاقاً التخلي عن السلطة. فالحزب الشيوعي يجب ان يظل القوة المحركة للدولة والمجتمع. وما زال نظام تعدد الاحزاب أو حرية الصحافة من المحرمات. فالنخبة السياسية في فيتنام تبدو نخبة "مؤبدة" وهي متشبعة ب "المركزية الديموقراطية" حسب المفهوم اللينيني. فما هي تبريرات الطبقة السياسية الحاكمة بقبضة من حديد في عالم اليوم الراكض نحو التعددية والعولمة؟ ان هناك احساسين يحركان هذه الطبقة. أولهما ان الافراد شأنهم شأن المؤسسات، نادراً ما يكونون مستعدين للتخلي عن السلطة. ولعل الممسكين بزمام الامور في البلاد، وكلهم تجاوز السبعين، قد اعتقدوا فيما مضى بأنهم سيقيمون مجتمعاً خالياً من الطبقات، لكنهم شكلوا، كما في بقية البلدان الشيوعية، ما اسماه ميلوفان دجيلاس وهو شيوعي يوغوسلافي انشق عن تيتو بعد العام 1956 ب "الطبقة الجديدة" المونو كلوتيرا مع كل ما يتبع ذلك من امتيازات ومنافع. ويشكل الخوف المبرر الثاني للمسؤولين الفيتناميين القلقين الى حد الهوس من شبح عدم الاستقرار. ولعلهم محقون في ذلك، فقد عاشوا انهيار الاتحاد السوفياتي ورأوا ما حدث من تداعيات خطيرة. وهم يعرفون ان البدء بالاصلاحات في الانظمة المغلقة يؤدي آجلاً أو عاجلاً الى تفسخها. وعلى رغم ذلك الخوف الذي دفع الحزب الى تشديد المراقبة عن طريق قوة "الكونغ آن" البوليس السري، فان فيتنام تشهد الى حد ما تحولاً سياسياً. اذ يلاحظ زوار البلاد من رجال اعمال وصحافيين، بأنه حتى كبار المسؤولين يعترفون في جلساتهم الخاصة بضرورة اصلاح النظامين السياسي والاقتصادي معاً. ترويكا الحرس القديم وقد حسم اعضاء الترويكا الحاكمة وهم الأمين العام للحزب دوميوا 80 عاماً ورئيس الوزراء فوفان كيات 75 عاماً ورئيس الجمهورية دوك أنه 76 عاماً الأمر لمصلحة سياسة "خطوتين الى الامام وخطوة الى الوراء" في محاولة منهم للحفاظ على توازن بين الاصلاحات الاقتصادية والاستقرار السياسي، وهي سياسة توفيقية يمكن ان تكون ملائمة في الظروف الحالية. غير ان ثمة ما يعيق ذلك كله على صعيد البنية الفيتنامية الاساسية. ففيتنام من الناحية الاقتصادية لا تزال تعتبر من افقر بلدان العالم 250 دولاراً دخل الفرد السنوي وهي من الناحية السياسية لا تزال تحت قبضة الحزب الواحد المتشبع بالافكار الحادة والمتطرفة. اما من الناحية السيكولوجية والاجتماعية فهي لا تزال تعاني من انشقاق بين الجنوب والشمال على رغم مرور اكثر من 20 سنة على اعلان الوحدة. ومع ذلك ففي فيتنام اليوم فان بعض الكلمات والشعارات مثل "دواموا" أي التجديد الاقتصادي و"تيت هو" التي تعني "الالتحاق" اصبحت كلمات مفاتيح في القاموس السياسي والاقتصادي الفيتنامي. وأصبح الفيتناميون المنحدرون من مختلف الاتجاهات والأصول السياسية يناضلون من اجل جمع المال محاولين كسب مواقع جيرانهم الاقليميين الذين بدأوا بدورهم في كسب الأسواق الخارجية. ولكن على رغم شعار الوحدة الساحر فان فيتنام لا تزال تحت تأثير جراح عميقة وعنصرية يمارسها الشمال على الجنوب. اضافة الى ان التقدم الاقتصادي معطل لسببين، اولهما ان الزعماء الشيوعيين لم يقبلوا ولم يستوعبوا مبدأ نجاحهم في اعادة ربط العلاقة مع الجنوبيين. وثانيهما ان هؤلاء لم يتخلوا كلياً عن فكرهم القديم. تهميش رجال الأعمال ان مشاغل زعماء الحزب للبحث عن مصدر للشرعية يتمثل في اقصاء الجنوبيين ومعاقبتهم، وكذلك في تهميشهم لرجال الاعمال المحليين. غير ان الثراء الشخصي يعتبر عنصراً مهماً لتطوير البلاد. ويمكن ان يكون في الوقت نفسه وسيلة نفوذ للسلطة لا تخضع للرقابة الشيوعية. ويتذمر التكنوقراطيون في هانوي أو في سايغون كيف ان سكرتير الحزب استقبل رجال اعمال من كوريا الجنوبية، لكن من المستحيل ان يصافح قادة الحزب رؤساء المؤسسات الفيتنامية. ويجيب المسؤولون عن معنى ذلك الاحتقار بقولهم "ان رؤساء ومديري المؤسسات الفيتنامية لا يملكون أية تكنولوجيا". ان امام الفيتناميين طريقاً طويلاً يجب قطعها قبل الوصول الى بناء البلد المزدهر والموحد، ليس لأن استقلال البلاد جاء متأخراً، لكن لأن انطلاقة البلد بدأت متأخرة جداً. لقد انتهت الحرب سنة 1975 لكن كان يجب الانتظار حتى العام 1986 أو 1991 لمشاهدة البداية الحقيقية لاعادة البناء السلمي. كثيرون يتذكرون بسخرية مُرّة كيف ان السكرتير العام للحزب لي ديان وعد شعبه بعد مرور سنة على انتصار 30 نيسان ابريل 1975 بأن كل اسرة فيتنامية ستتمتع خلال السنوات العشر المقبلة بجهاز راديو وثلاجة وجهاز تلفزيون. وفي واقع الأمر عرف السكان في بعض المناطق شيئاً من ذلك، لكن الغالبية لا زالت تعيش في الماضي. ان حماس انتصار 1975 هو الذي جعل الزعماء الشيوعيين يسيرون باتجاه الخطأ، حين تبنوا السياسات الادارية دون الأخذ في الاعتبار الواقع. فقد كانوا يريدون تطوير الصناعة الثقيلة وهم لا يملكون المواد الأولية ولا يملكون ايضاً الا تكنولوجيا متخلفة مقدمة من قبل الصينيين. وفعلياً، لم تبدأ فيتنام في النهوض والتطور الا في العام 1991 عندما انقطعت المساعدة السوفياتية. لقد اعتمد الفيتناميون طويلا على السوفيات وحين انقطعت المساعدات، بدت لهم الولاياتالمتحدة وكأنها مستعدة للعب دور الأم ومن ثم جاءت "المصالحة التاريخية". فرغم الجراح العميقة بين الاميركيين والفيتناميين، فان قيادتي البلدين ادركتا اخيراً ان نجاحات المستقبل يمكن ان تعوض جراحات الماضي. ان الاشارات الدالة على المصالحة ليست قليلة، فهي تتواتر منذ مدة من هنا وهناك. وكانت زيارة القائد المساعد للقوات الاميركية في الخارج الى هانوي في آذار مارس الماضي مفيدة جداً لمعاودة الاتصال. وقد لمس الاميركيون انفسهم طيبة الفيتناميين حين ابدوا استعدادهم للتعاون في البحث عن مفقودي الحرب من الجنود الاميركيين، وحين طلب الفيتناميون اعتذاراً اميركياً رسمياً، توصل الجانبان الى صيغة "أسف" أبداه وزير الدفاع السابق ماكنمارا لمناسبة الذكرى ال 20 لانتهاء الحرب. ثم انهالت الاغراءات الاميركية التي تتحدث عن اندماج فيتنام في السوق العالمية وابداء الرغبة في مساعدتها ومدها بالتكنولوجيا وتشجيع الشركات الآسيوية كالكورية واليابانية على الاستثمار في هذا البلد المنكوب والمحاصر، كل ذلك جعل الفيتناميين يحلمون بحالة من الرخاء والرفاهية. وتعول الحكومة الفيتنامية على اندماجها المرتقب في صلب مجموعة دول جنوب شرقي آسيا. وتتطلع الى علاقتها الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة لمواجهة التهديد الصيني الذي يشهد حالة توسع. وهناك توجه داخلي حديث في هانوي يخول كل المنظمات الحكومية توقيع العقود مع المؤسسات الاميركية كما ان زعماء هانوي يعتقدون بأن الولاياتالمتحدة ستهتم بالاقتصاد الفيتنامي، لكن بقدر ما يتنامى دورها الاقتصادي في المنطقة ستدافع عن حماية مصالحها. ان التحرر الاقتصادي وانتهاج الخط الليبرالي لم يخلوا من النتائج السيئة في بلد اراد ان يكون اشتراكياً. فالهوة اتسعت بين الاغنياء والفقراء في دلتا الفيكونغ. وتعترف الحكومة في هانوي، بأن المرحلة الأولى للمرور من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق تزيد رقعة الفوارق الاجتماعية، معتبرة "ان الشيء المهم الآن هو زيادة الانتاج". بيد ان لا أحد بامكانه وقف الوباء المصاحب لهذا النمو الفوضوي. لقد عمّ الفساد الشمال والجنوب على رغم الحملات الرسمية التي تشنها الحكومة ضد مواقع الفساد. وكما يقال سواء أحب الحزب أم كره، فان الليبرالية الاقتصادية تحمل معها حرية الفكر. فقد اعيد الاعتبار للعديد من الكتاب الذين ادينوا بين 1954 و1956 بسبب اهتمامهم بكتابة عواطفهم والحديث عن الجوانب الذاتية بدل تكريس اعمالهم للانجازات الجماعية. ويلاحظ في فيتنام ان الطبقة الوسطى بدأت تحتل مكانة مهمة ولم تعد المسألة الا قضية وقت وهي لن تتأخر في المطالبة بالحكم وبالسلطة السياسية. لكن الاصوات التي ترتفع مطالبة بالديموقراطية لا زالت قليلة وضعيفة في الداخل. ويظل المثقفون الفيتناميون على قناعة بأن البلد بحاجة قبل كل شيء الى القانون والنظام. ويكثر الآن المنادون بالتعددية الحزبية، غير ان معظمهم لا يريد تشكيل حزب سياسي بقدر ما يريد الوصول الى السلطة. وباختصار فان كل ما يريده هؤلاء في المرحلة الأولى هو بعض المطالب المتمثلة في حرية الصحافة والتعبير وحرية التجمع وحرية العبادة. واذا كانت الحرب الباردة لم تختف في جميع انحاء العالم، اذ ظلت منطقة آسيا تعيش على وتيرتها السابقة، فان محاولات كثيرة تجري الآن لتفكيك عناصرها في هذه المنطقة. ان اعادة التأهيل الاقتصادي والاندماج ضمن منطق السوق العالمية يغريان الجميع بمن في ذلك الفيتناميين على مغادرة شعاراتهم القديمة والتوجه الى معدلات السوق والانتاج وتعديل مزاجهم السياسي. فنسبة 20 في المئة من النواب غير الشيوعيين في البرلمان الجديد، بامكانها ان تزرع بذور الطلاق مع الماضي .