أدى اكتشاف جينات لها علاقة بظهور بعض الامراض الوراثية والامراض الخطيرة الاخرى مثل السرطان والقلب والكلى وداء الشلل الرعاشي باركنسون وداء الخرف الشيخوخي ألزايمر الى اتاحة فرص جمّة لتحري وجود تلك الامراض مبكراً ومحاولة هندسة الجينات المسؤولة عنها وراثياً لاصلاحها او علاجها قبل ان تستفحل بالانسان. وكان العلماء تعرّفوا على المادة الوراثية عام 1869 الا انهم لم يدركوا دورها في التوارث الجيني الا عام 1943. كما انهم لم يتمكنوا من اكتشاف تركيبها الكيماوي الا عام 1953 بفضل العالمين جيمس واتسون وفرانسيس كريك. وحالياً يبذل العلماء جهوداً حثيثة ومتواصلة لمعرفة المزيد من اسرار الجينات ومكوناتها وكيفية التلاعب بها لاستخدامها في عمليات اصلاح التشوهات الخلقية والوقاية من الامراض المستعصية الاخرى. وعلى هذا السياق وللمرة الاولى في تاريخ علم الوراثة والجينات، تمكن فريق من الباحثين في جامعة ويسترن ريزرف في مدينة كليفلاند الاميركية من صناعة كروموسومات بشرية. وأكد الدكتور هنتنكتون ويلارد رئيس فريق الباحثين على ان هذا الاكتشاف المهم لا يهدف الى استخدام الكروموسومات البشرية المخبرية في تحضير اشكال متعددة او مختلفة من الحياة الاصطناعية. بل هو وسيلة علمية سليمة لنقل المادة الوراثية لمن يحتاجها من المرضى الذين يخضعون للمعالجة الوراثية. تتألف الكروموسومات من رزمات خيطية من المادة الوراثية DNA التي تكوّن الخصائص الوراثية للمخلوقات امتداداً من الخمائر الى البشر. وبما ان كروموسومات الخمائر هي ابسط الانواع الموجودة في الطبيعة فان صناعتها مخبرياً تحققت منذ عقد من الزمن. الا انه لم يسبق ان تمكن العلماء من صناعة كروموسومات بشرية نظراً لضخامتها وتعقيدها. من هنا تبرز اهمية النتائج التي حققها الفرق العلمي للدكتور ويلارد. اذ برهن هؤلاء على ان الكروموسومات البشرية تتكون من ثلاثة اجزاء اساسية من المادة الوراثية. الجزء الاول يرسم المعلومات الجينية الموروثة. وقد حصل عليه فريق الدكتور ويلارد من خلال خلايا الدم البيضاء التي تبرّع بها بعض العاملين في مختبر الابحاث. اما الجزء الثاني فيتكون من خيوط طويلة من المادة الوراثية المتعاقبة التي تظهر على اطراف الكروموسومات وتشكّل غطاءً يمنع تآكل المادة الوراثية ويحول دون التصاق الكروموسومات ببعضها البعض مما يؤدي غالباً الى خلط المعلومات وتشويشها. وقد تمكن الفريق العلمي من تكوين هذا النوع عن طريق ربط آلاف من وحدات المادة الوراثية الاصطناعية ببعضها البعض. ويُعرف هذا الجزء باسم Telomere. بينما تكوّن الجزء الثالث من قطع صغيرة من المادة الوراثية المتعاقبة التي تساعد نسخ الكروموسوم على الانفصال من الكروموسوم الاصلي عندما تبدأ الخلايا عملية الانقسام. وتظهر هذه الاجزاء المعروفة باسم Centromeres على شكل فتلات بارزة وسط الكروموسومات. وقد نجح الدكتور ويلارد وفريقه في ادخال الاجزاء الاصطناعية الثلاثة الى باطن خلايا سرطانية بشرية تم زرعها في انابيب الاختبار بعد ان غلّفوها بكريات شحمية تسهل عملية اختراق الخلايا. ولاحظ الباحثون ان الخلايا قامت تلقائياً بتجميع الاجزاء الثلاثة وتحويلها الى كروموسومات بشرية اصطناعية. واكتشف الدكتور ويلارد ان احدى الخلايا المستنسخة احتوت كروموسوماً مصنوعاً بالكامل من اجزاء تلك المادة الوراثية المركّبة وان هذا الكروموسوم انتقل وراثياً مع باقي الكروموسومات البشرية الاخرى، الى الخلايا الجديدة المتوالدة، وهذا يؤكد علمياً وعملياً ان الكروموسوم الاصطناعي صالح للعمل داخل الخلايا البشرية وقادر على الانتقال وراثياً من جيل الى آخر. اهمية الإنجاز ان النجاح الباهر الذي حققه العلماء في تكوين كروموسومات قادرة على التفاعل داخل الخلايا البشرية وكأنها جزء منها سيفتح الباب امام علماء الوراثة كي يفهموا طريقة عمل الكروموسومات والقوانين الطبيعية السرية التي تحكم تصرفاتها. مما سيساعد على استخدامها في عمليات تهريب بعض الجينات او الخصائص الوراثية المفيدة لمن يحتاجها من المرضى الذين يخضعون للمعالجة الوراثية. وستوفر هذه الكروموسومات وسيلة بديلة لنقل الجينات بصورة سليمة لا تؤثر على الجينات الاخرى، عوضاً عن الفيروسات المهندسة وراثياً التي تستخدم في عمليات النقل. اذ ان تلك الفيروسات رغم كونها سليمة، تثير ردود فعل مناعية عند المرضى او تسبب الاضطراب للجينات المسؤولة عن الوقاية ضد امراض السرطان. من جهة اخرى يأمل الباحثون في ان تمكّنهم التقنية الجديدة من فهم عمل اجزاء المادة الوراثية المعروفة ب Centromeres التي تساعد الكروموسومات على الانقسام لاعطاء نسخ مشابهة منها الى الخلايا المولودة. فقد تتسبب هذه الاجزاء من المادة الوراثية في اعطاء بعض الخلايا كروموسوماً اضافياً يؤدي الى اصابة الاطفال المولودين حديثاً بمرض "داونز" وما يحمله من اعاقات جسدية وتشوهات خلقية. واذا عرف العلماء كيفية عمل هذه الاجزاء سيصبح بمقدورهم ايجاد وسيلة وقائية سهلة تحصّن النساء قبل الحمل كأقراص الادوية او الحمية الغذائية المناسبة. مما يقلل خطر اصابة موالديهن بهذا المرض الوراثي. وقد اشار الدكتور جان ميشال فوس من جامعة نورث كارولاينا الاميركية الذي صنع كروموسومات مستديرة من مزيج من المادة الوراثية البشرية والفيروسية، الى اهمية الانجاز في تمكين العلماء من صنع كروموسومات بشرية كاملة. واكد ذلك كل من الدكتور ديفيد كوكس استاذ علم الوراثة في جامعة ستانفورد الاميركية والدكتورة مليسا روزنفيلد من المعهد الوطني للجينات البشرية في ولاية ميريلاند. ان عملية المعالجة الوراثية بحاجة الى تطوير كبير لتمكين العلماء والاطباء من استبدال الجينات المعطوبة او تصحيحها حتى في مراحل المرض المتقدمة. ومما لا شك فيه انه سيأتي اليوم الذي يتمكن فيه الانسان من رسم الخريطة الوراثية المتكاملة للمواليد الجدد وبالتالي تحديد كافة الامراض التي يمكن ان يتعرضوا لها مستقبلاً. وسوف يساعد هذا التطور على وضع استراتيجية علاجية فعّالة لمواجهة تلك الامراض والوقاية منها او القضاء عليها .