يحتفل المغرب هذا العام بسنة ابن بطّوطة، الرحّالة الطنجاوي الذي زار قبل أكثر من ستّة قرون القوقاز وتركيا وبلاد فارس، السعوديّة وفلسطين ولبنان... وصولاً إلى الهند والتيبت والصين، وروى مشاهداته في كتاب شهير بعنوان "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". وفي انتظار افتتاح المتحف المخصّص له في طنجة، وانجاز فيلم يستعيد وقائع ومحطّات رحلته سيناريو الأكاديمي عبدالهادي التازي، انطلقت النشاطات بندوة دولية حضرها اختصاصيّون عالمىّون، وتابعت "الوسط" أبحاثها ومناقشاتها. بعد 672 عاماً على انطلاق مغامرته التي جاب خلالها 44 بلداً في افريقيا وآسيا وأوروبا، يحتفي المغرب رسمياً بابن بطوطة. واختيرت طنجة، المدينة التي ولد فيها ونشأ الرحالة المغربي الشهير، مكاناً لتنظيم ندوة دولية لتدشين الاحتفالات التي تدوم على مدى سنة كاملة، للتعريف بجوانب من حياته ورحلته الفريدة. بدأت الأنشطة الاحتفالية باطلاق اسم ابن بطوطة على مطار طنجة الدولي، واصدار طابع بريدي يمثّل رسماً لوجهه، اضافة إلى تنظيم معرض عن الرحلات المغربية القديمة من خلال الأطروحات الجامعية، ومن خلال المخطوطات المصورة لرحلة ابن بطوطة، واقامة مسابقة في الملصقات الفنية حولها وجداريات تشكيلية تجسد مسالكها. وشارك في ندوة طنجة التي نظمتها وزارة الثقافة المغربية، نخبة من المفكرين والباحثين وممثلي الدول التي زارها ابن بطوطة بينهم الأمير منصور بن ماجد آل سعيد سلطنة عُمان، الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة البحرين، ياسر عبد ربه فلسطين، آية الله واعظ زاده الخراساني ايران، حسن عصمت بك تركيا، اشتياق أحمد ظلي الهند، باسكوال كوندولوي الأرجنتين، خالص عزمي العراق، فتحي عبدالفتاح، يوسف القعيد، محمد الكحلاوي مصر، نيكولاي دوبرسان رومانيا، محمد العيد مطمر الجزائر، سعيد سلمان الامارات العربية المتحدة، تشو لي الصين، عبدالعزيز التويجري السعودية ورشيد الداودي تونس، اضافة إلى عدد من الباحثين المغاربة بينهم: عبدالهادي التازي، محمد حجي، فاطمة خليل، محمد يعلي، شعيب حليفي... وتوخت الندوة التعريف بشخصية هذا الرحالة المغربي وإبراز فضله في علوم الجغرافيا والتاريخ والحضارة الانسانية عموماً، وما يرتبط بها، وكذلك تحفيز الاختصاصيين من ذوي الاهتمام بالرحالة وما قدمه وحققه في رحلته من عطاء في شتى العلوم، لتقديم قراءات معاصرة لأعماله في ضوء المستجدات العلمية الحالية. والقضية التي أخذت باهتمام المشاركين في الندوة هي اعتبار رحلة ابن بطوطة مصدراً أساسياً للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع والانتروبولوجي واللغوي. فقد ظهر هذا الهمّّ جلياً من خلال مداخلات فتحي عبدالفتاح رئيس مركز الأبحاث والمعلومات مصر وشعيب حليفي المغرب وباسكوال كوندوليو مدير المعهد الثقافي العربي - الارجنتيني وغيرها من البحوث التي وجهت الانظار إلى زوايا متعددة من هذه التخصصات. الذاتي والموضوعي غير أن عروضاً أخرى مثل تلك التي قدمها الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الاسلامية في دولة البحرين، و اشتياق أحمد الأستاذ في الجامعة الاسلامية بعليكرة الهند، وآية الله محمد واعظ زاده الخراساني الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية والأستاذ في جامعة مشهد الاسلامية إيران، أثارت نقاشاً منهجياً مهماً ازاء ما يمكن تسميته بپ"الصدق والصدقية" أو "الذاتية والموضوعية وعلاقات الأنا الثقافية" عند ابن بطوطة، وحول مدى كونها علاقات تكامل أو مجابهة بين الحضارات. وفيما أشار الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة إلى "أن ابن بطوطة كان سريعاً، واختلطت عليه الأمور"، أخذ اشتياق أحمد عليه "رؤيته للبلدان والشعوب من زاوية رسمية، حيث أهمل الكتابة عن العامة" بينما انصبت ملاحظات آية الله الخراساني على "اهتمام ابن بطوطة بالمتصوفة وعزوفه عن لقاء العلماء وأهل الفقه وتعصبه لمذهبه في حديثه عن التقاليد والعادات في بلاد فارس". وارتباطاً بهذا المحور، أثيرت مسألة الشك والتشكيك في الرحلة والرحالة. وهاجمت بعض المداخلات الكتابات الاستشراقية، والغربية عموماً التي عملت على الطعن في صحة الرحلة، مع العلم أن الطعن في ابن بطوطة كان من الداخل أحياناً كما في كتاب الفقيه البيصاري "صدق اللهجة في أخبار طنجة". وأبرزت البحوث والمداخلات أن الرحلة عمل مركب يتألّف من مستويات ثلاثة: الرحلة كتعبير عن ذات ابن بطوطة الراوي أو الحاكي، والرحلة كتعبير عن فن الكتابة لدى ابن جزي الذي دوّنها، وكان - من دون أي شكّ - يحمّل النصّ أشياء من ذاته. والرحلة، أخيراً، كعمل تم بعد عودة الرحالة واعتماده على الذاكرة في روايتها، مع العلم أنّ الذاكرة انتقائيّة وذاتية حكماً، تسترجع الأحداث بتصرّف. ومع ذلك، اعتبر عدد كبير من الباحثين أن استفاضة ابن بطوطة في الوصف ليست إلا دليلاً على قوة ذاكرته، مثل ياسر عبد ربه وزير الثقافة الفلسطيني الذي قال في هذا الصدد إن "أي تغيرات لم تطرأ على المسجد الأقصى منذ وصفه ابن بطوطة إلا ما أجري عليه من تعمير وترميمات كان آخرها على اثر الحريق الآثم عام 1969". كما أن محمد الكحلاوي كلية الآثار في جامعة القاهرة أكد انه "لم يستطع ان يضع يده على خطأ واحد لابن بطوطة بخصوص الآثار" التي وصفها، وقدم صوراً ثابتة لنماذج أثرية مصرية تدعم كلامه. وفي هذا السياق جاءت مداخلة نيكولاي دوبريسان جامعة بوخارست - رومانيا لتوضح أن رحلة ابن بطوطة "تنطوي على معرفة دقيقة لتاريخ المناطق الواقعة شمال البحر الأسود وحول مصب نهر الدانوب، فضلاً عن الالمام بنمط الحياة والتنظيم السياسي فيها، وبعادات سكانها من التتار وغيرهم من الطوائف القومية والدينية ما يساعد على الفهم الأفضل لتاريخ هذه المنطقة وجغرافيتها وظروف الحياة فيها". ذاكرة خارقة وكانت ذاكرة ابن بطوطة الخارقة لفتت انتباه الباحث المغربي وعضو الأكاديمية الملكية المغربية عبدالهادي التازي عند تحقيقه الرحلة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" في ضوء ثلاثين نسخة عثر عليها حتى الآن. ولفت التازي بدوره الأنظار إلى القدرات الذهنية التي كان ابن بطوطة يتمتع بها، والتي مكنته من الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة عن مسموعاته ومشاهداته في البلدان التي زارها، كونه لم يعمد إلى تسجيلها في وقتها، وانما أملاها على ابن جزي بعد سنوات من عودته. وفي بحثه "الرحلة كمصدر لتاريخ العلاقات الدولية" أكد التازي "إن مقارنة ابن بطوطة بالرحالة الايطالي ماركو بولو تعد مقارنة باطلة لأن الرحالة المغربي يقدم معلومات وأوصافاً دقيقة وذات صدقية". كما أكد "أن الرحلة تعتبر مصدراً أساسياً لتاريخ الاسلام اعتمد عليها في وضع موسوعته "التاريخ الديبلوماسي للمغرب"، فضلاً عن غناها في مجال العلاقات الدولية والتاريخ الدولي ما يعد بحق مكسباً أساسياً للعرب والمسلمين". وهكذا يمكن القول إن لرحلة ابن بطوطة بعداً دولياً إلى جانب البعد الانساني. وانصبت بعض المداخلات على المقارنة بين رحلة ابن بطوطة وكل من رحلتي ابن جبير والوزان، مجمعةً على محدودية الأماكن التي زارها ابن جبير. أما الوزان فعاش حالة خاصة كأسير، وكمقرب من ليون العاشر، فهو حسن/ ليون والمسلم/ المسيحي، بينما كان ابن بطوطة يتنقل داخل دار الاسلام، خلال القرن الرابع عشر، ولم يكن يشعر بالغربة ولا بالغرابة الأوروبية. ثراء الحكي وذهب بعض المداخلات إلى إبراز جوانب أخرى من رحلة ابن بطوطة "التي تتغذى من الأشكال النثرية في التاريخ والمذكرات والتراجم والاسترسال في السرد والتعليقات التي تعطي للحكي طابعاً بين التقرير والانسياب"، على حد تعبير الباحث شعيب حليفي كلية الآداب - الدار البيضاء. ويرى هذا الأخير أن نص الرحلة "ثراء يلهم الدرس النقدي ويفتح آفاقاً ويحرّض على النفاذ إلى الآليات التي تشكل هذا النص". ولتعدد مستويات نص رحلة ابن بطوطة دعا بعض المشاركين إلى ترجمة الدراسات المعمقة التي عالجت الرحلة معالجة دقيقة، وانجاز مشروع عمل حول هذا الرحالة المغربي ذي البعد الانساني. كما اقترح خالص عزمي، الباحث العراقي المقيم في فيينا، اعتماد منهج مقارن يحقق رؤية عصرية للرحلة في اطار التوجه نحو "اعادة قراءة العمالقة بروح أكثر تفتحاً على العصر، تجعل من المعلوماتية سنداً لها في ذلك". المسكوت عنه وفي حين ركزت الباحثة فاطمة خليل المعهد الجامعي للبحث العلمي - الرباط على الرحلات كلون من ألوان النشاط الانساني، و"وسيلة ناجعة لتفادي الحياة الرتيبة، وعلامة قوة وحيوية وطموح"... ركز الباحث المغربي سعيد غصان على "صورة المرأة في رحلة ابن بطوطة"، وحاول زميله محمد يعلي كلية الآداب - المحمدية البحث عن المغيّب أو المسكوت عنه في الرحلة، اعتماداً على الأحداث التاريخية التي عرفها المغرب آنذاك. وتناول الباحث عبد الرزاق جبران مختبر السرديات - الدار البيضاء موضوع "لذة الحكي في رحلة ابن بطوطة"، عبر حكايات الرحلة التي يرى أنها تركز على مستويات ثلاثة من السرد هي السرد "الاستذكاري" والسرد "العياني" ثم السرد "السماعي". وتوقّف عند الجمالية الأدبية في رحلة ابن بطوطة، "السندباد المغربي"، معتبراً أنّها "ترجع أساساً إلى الجانب الحكائي الذي لا يزال يحتاج إلى مزيد من التفكيك والتأويل، من أجل الكشف عن شبكة العلاقات المبنية لحكايات الرحلة وبالتالي لسردنا القديم". وكان عبدالعزيز بن عثمان التويجري المدير العام لپ"المنظمة الاسلامية للتربية والثقافة والعلوم" إيسيسكو، أعلن في الجلسة الافتتاحية عن مشروع "متحف ابن بطوطة" في طنجة بناية السجن المدني سابقاً الذي سيضم نماذج من الآثار الفنية والصناعية والتاريخية والمعمارية تمثل مجموع الدول التي طاف عليها المذكور في رحلته الشهيرة 44 دولة. كما أعلن عن مشاركة المنظمة في انتاج فيلم وثائقي من حلقتين، مدّته الاجماليّة 120 دقيقة. وتساهم في الموازنة التي تبلغ 1.5 مليون دولار، مؤسسة "ايطالسبيتاكولو" وقناة "راي أونو" من إيطاليا، وقناة "كنال سور" من إسبانيا، إضافة إلى القنوات التلفزيونية الرسمية لكل من المغرب وتونس ومصر وتركيا والعراق وايران ومالي. وذكر الايطالي لويجي لاتيني المنتج المنتدب للمشروع أن السيناريو يحمل توقيع الباحث المغربي عبدالهادي التازي الذي سيقوم أيضاً بدور الراوي الذي يقدّم الأحداث ويرافق الرحلة. وأسند المنتجون مهام اخراج هذا العمل الفني إلى المخرج المغربي حميد باسكيط الذي سيؤدّي أيضاً دور ابن بطوطة، وجاء هذا الاختيار باقتراح من قناة "راي اونو" التي سبق لها أن تعاملت مع باسكيط قبل عام حين اسندت إليه دور البطولة في شريط وثائقي حول "أول سفير ايطالي في المغرب". عن الرحلة والرحالة محمد بن عبدالله بن محمد بن ابراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، يكنى أبا عبدالله، ويلقب بشمس الدين. ولد في طنجة يوم الاثنين 17 رجب 703ه./ 24 شباط فبراير 1304م. ورحل إلى المشرق بقصد اداء فريضة الحج يوم الخميس ثاني رجب 725ه./ 14 حزيران يونيو 1325م. زار خلال رحلته الأولى البلدان التي تشكل حالياً الجزائر وتونس وليبيا ومصر وفلسطين ولبنان وسورية والمملكة العربية السعودية والعراق وايران. ثم توجه إلى اليمن وسلطنة عُمان والبحرين، قبل أن يرجع إلى المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان وفلسطين، ومنها قصد آسيا الصغرى، حيث زار القوقاز وتركيا وجنوب روسيا وتركستان وأفغانستان والهند والتيبت والصين. في طريق العودة اجتاز ابن بطوطة من جديد الهند وزار المملكة العربية السعودية وبلداناً أخرى قبل العودة إلى مدينة فاس في 1349م.، حيث استقبله بحفاوة كبيرة السلطان المريني أبو عنان. ووضع السلطان تحت تصرّفه أحد كتّاب ديوانه، ليملي عليه ذكريات وانطباعات رحلته عبر الأقطار التي زارها والعجائب التي شاهدها. لم تمضِ بضع سنوات حتى غادر المغرب متوجهاً إلى الأندلس التي كانت تعيش آخر عهدها في ظل الحكم الاسلامي. ثم رحل من غرناطة عائداً إلى المغرب، ومنه توجه في رحلة جديدة عام 1352م. إلى ما يكوّن حالياً النيجر وغينيا ومالي. عاد ابن بطوطة إلى مدينة فاس في 1354م.، حيث عكف على كتابة ذكريات رحلته التي جرت على ثلاث مراحل واستمرت ثمانية وعشرين عاماً، 1325 - 1354م.. ودونها بأمر من السلطان المريني أبو عنان في كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". اشتهر أمر الرحلة، وبحث المستشرقون عن نسخها الأصلية إلى أن تمت ترجمتها في أربعة اجزاء بواسطة ديفريميري وسانكينيتي، ثم ترجمت إلى اللغة الانكليزية وإلى عدد كبير من اللغات الأخرى. تأخر نشر الرحلة في اللغة العربية، فلم تظهر إلا عام 1288ه./ 1871م. في مصر. ثم نشرت مراراً في مختلف الأقطار، وأحدث اصدار هو طبعة أكاديمية المملكة المغربية 1997 بتحقيق عبدالهادي التازي عضو الأكاديمية. يوجد قسم من النسخة الأصلية لمخطوط الكتاب الذي دوّنه ابن جزي في المكتبة الوطنية في باريس. شغل ابن بطوطة منصب قاض في دلهي ومالديف، وعمل قاضياً في أواخر حياته في تامسنا في فاس، حيث وافاه الأجل عام 1377م.، غير أن الحافظ ابن حجر العسقلاني يرجّح أن تاريخ وفاته يتراوح بين 1368 أو 1369م. من غير الثابت مكان دفن ابن بطوطة. هناك من يرى أنّه دفن في حومة "سوق أحرضان" في طنجة، وهناك من يعتبر، مثل العلامة المغربي الراحل عبدالله كنون، أن قبره موجود في تامسنا التي قضى فيها آخر عمره. لم يخلف ابن بطوطة أبناء، ولم يعرف له أقارب.