يعيش الشارع السياسي المصري ردة فعل غاضبة ضد أميركا، بعدما أوصت لجنة رسمية في مجلس الشيوخ بإيقاف المعونة 1،2 مليار دولار سنوياً عن مصر بدءاً من موازنة العام 1998. وارتبط ذلك بانتقادات اللجنة ضد ما أسمته "دور مصر غير الايجابي" من عملية السلام ومن العلاقة مع ليبيا، الأمر الذي استخلص منه الشارع السياسي في مصر، ان الاتجاه الاميركي الذي يطالب ب "معاقبة مصر" وصل إلى حيث النقطة التي تجعل الإناء يفيض. فيما أعادت ردة الفعل الغاضبة إلى الأذهان بعض اجواء الستينات وكشفت ان كراهية السياسة الاميركية، لا تزال كامنة تحت جلود المصريين، وان نحو 40 مليار دولار هي اجمالي المعونات الاميركية لمصر 7819-1997، لم تفلح في إذابة تلك الكراهية. وعلى عكس ذلك لفت مراقبون غربيون في القاهرة إلى مفارقة تبين ان تزايد "العلاقة الخاصة" الاميركية - المصرية كان يقترن دائماً بتحصينات أمنية أشد في مبنى السفارة الاميركية في العاصمة المصرية. تهميش الدور المصري والحاصل ان "تقدير وتشجيع دور مصر في عملية السلام"، كان دافع واشنطن الرئيسي من تخصيص معونتها لمصر منذ توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1978. فضلاً عن التغيير الجذري الذي ادخله الرئيس الراحل انور السادات على السياسة المصرية وأعطى العلاقة مع اميركا مكانة خاصة. ومن هنا فإن ربط توصية حجب المعونة بانتقاد دور مصر والتجاوب الاميركي مع مواقف حكومة نتانياهو، اكد شكوك المصريين العميقة بمساع اميركية لتهميش وربما استبعاد الدور المصري. والضغط بورقة المعونة ضمن قائمة اتهامات اميركية تعتبر ان مصر لا تساعد السياسة الاميركية عربياً واقليمياً ودولياً. وليس سراً ان الكونغرس كان نقل الى الخارجية المصرية، عبر سفيرها في واشنطن، رسالة مفادها ان المعونة الاميركية ستحجب عن أي دولة تساعد ليبيا على انتهاك قرارات مجلس الأمن، وذلك عشية زيارة الرئيس حسني مبارك إلى ليبيا قبل اسبوعين. من جانبها سارعت الإدارة الاميركية بإعلان تمسكها باستمرار المعونة لمصر. وبعثت برسالة تطمينات قالت فيها إن توصية اللجنة الفرعية للاعتمادات المالية الخارجية ليست قراراً نهائياً وأن الإدارة ستعارض تنفيذه إذا اصدره الكونغرس. واكدت دور مصر في عملية السلام. لكن القاهرة، حسب معلومات "الوسط"، اعتبرت رسالة التطمينات غير كافية، لأن الادارة لا تملك تغيير قرار الكونغرس إذا صدر الا بمساومات قد يُطلب الى القاهرة دفع فواتيرها. واللافت ان ردة الفعل الغاضبة للشارع السياسي المصري تجاوزت خلافاته التقليدية، واجمعت على حد ادنى يوضح ان المصريين قرروا الا يكون الدور المصري هو المرشح للتراجع او التآكل، بصرف النظر عن تباين درجات الغضب بين الاحزاب والقوى السياسية ورجال الاعمال. التحرر من اميركا وعلى صعيد احزاب المعارضة، خصصت مانشيتات صحفها لايضاح ان ما حصل "ابتزاز اميركي". وطالبت ب "رفض سياسة التهديد الاميركي لمصر". وشددت على ان "المعونة ارتبطت بأهداف ومصالح اميركية". وعلى أن "قطع المعونة الاميركية يستهدف عزل مصر، ويشوه دورها والتزاماتها تجاه قضية السلام". واكدت ان قطع المعونة "فرصة للتحرر من اميركا حتى لا تتحول الى قيد حديدي يخنق الانفاس ويكبت الحريات". وفي مقابل دعوات الغضب ضد اميركا صدرت عن رجال الاعمال المصريين دعوات اخرى الى "ضبط النفس" وإلى "الاكتفاء بهذا القدر من ردة الفعل". وفي اكثر من افتتاحية على صدر صفحتها الاولى، ركزت صحيفة يومية وثيقة الصلة بمصالح رجال الاعمال، على التحذير من التمادي في رد فعل الغضب او العودة الى سياسات العداء لاميركا كما كانت في الستينات. وقال رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشعب الدكتور مصطفى السعيد عن الحزب الوطني الحاكم ان "دلالة توصية اللجنة الاميركية هي ان مراكز صنع القرار في واشنطن متحيزة لاسرائيل، وهو ما يضر بعملية السلام وبأميركا نفسها، ويثير علامات الاستفهام حول تطور العلاقة مع اميركا. ومدى تغلغل اللوبي اليهودي. لكن ما حصل ليس وجهة النظر الاخيرة للادارة الاميركية". وأضاف قائلاً ل "الوسط": "علينا ألا نقع في فخ هذا اللوبي الذي يكرر لعبته في الخمسينات ايام الرئيس عبدالناصر لاضعاف العلاقة بين مصر واميركا وتسميمها. ويجب ان نحرص على ايضاح الامر بالنسبة للادارة الاميركية". المستفيدون جدير بالذكر ان التهديد بقطع المعونة الاميركية عن مصر، تكرر اكثر من مرة في الماضي. ونقلت مصادر موثوقة ان الرئيس مبارك كان قال امام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، اثناء زيارته الاخيرة لواشنطن في آذار مارس الماضي: "اغلقوا ملف المساعدات من فضلكم. هذه المساعدات تقدمونها الى مجموعة من المصريين والاميركيين، ولا يعنيني الابقاء عليها او الغاؤها، بل تعنيكم انتم لأنها في مصلحتكم 100 في المئة". ويشار الى ان الرئيس المصري كان صرح في نيسان ابريل 1995 "بالنسبة الى المعونة التي تقدمها اميركا لمصر، قلت لهم اعضاء الكونغرس ان هذا موضوع حساس، لكن لا بد ان نفهم شيئا مهماً، وهو ان هذه المعونة تمثل فائدة مشتركة لكل من مصر واميركا، المعونة التي تلقتها مصر من اميركا منذ اقرارها بعد معاهدة السلام هي 32 مليار دولار حتى 1994، وفي مقابل ذلك فإن مصر استوردت بضائع من اميركا خلال هذه الفترة بما قيمته 46 مليار دولار. وهذا يعني انكم استرددتم معونتكم واكثر منها". وبتقدير بعض دوائر المعارضة المصرية الوفد والتجمع ان توصية اللجنة الاميركية غير منقطعة الصلة بتزايد الاختلافات بين السياسة الاميركية والسياسة المصرية، خصوصاً في المفاوضات على المسار الفلسطيني وقضية القدس. وفي الموقف من جهود التخفيف من آثار الحصار الاقتصادي على شعب العراق. او في الموقف من الانحياز الاميركي للانفراد الإسرائيلي النووي. وفي العلاقات مع ليبيا. وأياً كان أمر التطورات اللاحقة في شأن المعونة والعلاقة الخاصة المصرية - الاميركية، فالثابت ان هذه العلاقة صمدت امام اختبارات كثيرة صعبة منذ الثمانينات، والملاحظ ايضاً ان هذه الاختبارات انهكت العلاقة وجعلتها اكثر تعرضاً للاهتزاز. ومن هنا تتساءل الدوائر السياسية المصرية عما إذا كانت توصية لجنة مجلس الشيوخ بحجب المعونة عن مصر، نهاية حدث أم بداية لأحداث اخرى يصعب الآن التنبؤ بها.