"أكتب/ نحو/ .../ ماذا؟/ كأن أحداً لم يرَني". هذه قصيدة من مجموعة حمزة عبّود "كأنني الآن" الصادرة حديثاً عن "دار الجديد" في بيروت. وليست نموذج المجموعة، لكنها من مجازفاتها التي تبدأ مع العنوان. مجموعة حمزة عبّود الرابعة يمكن تقديمها بصفتها مجازفة شعرية.فالشاعر اللبناني تجرأ على أن يقول كلاماً عارياً، لكنه أيضاً كلام مشدود ومصفّى، بحيث لم يبقَ منه سوى أوتاده. لا يستطيع الشاعر أن يجازف كل الوقت على هذا النحو. فهو يشتغل على الكلام، والفراغ فيه غير متوافر كما في النحت. جازف حمزة عبّود، لكنه على الطريق لم يخفِ ولعه بالكلام المشدود بلا زوائد ولا حشو ولا تشعبات. كلامه ذو سوية واحدة وايقاع واحد دوري ومتوال. كلام لم يبقَ منه سوى عظمه وأساساته العارية. أليست هذه الفصاحة بالمعنى المأثور، أي الوضوح والدقة والايجاز؟ ومثال هذه الفصاحة في كتب النثر، أكثر منه في الشعر. كأن مراد حمزة عبّود هو أن يبلغ مثال النثر لا الشعر. أو كأن الشعر، بالنسبة إليه، حاضر أكثر في توتر النثر وفي تفريغه النسبي، وفي دقته الهيكلية ونقائه المعدني. شعر حمزة عبّود يأتي من النثر، النثر الهادىء الفقير من الزينة، المستوي الايقاع، المتوالي النَفَس: "في العيد ذهب ليزور قبور العائلة - ومن تذكر من الأصدقاء. فوجدها لا تزال، فقال لم يمض وقت طويل". وقد يكون هذا الشعر، بين قصيدة وأخرى، أقل أو أكثر صوراً... مشدوداً أو أكثر رخاوة... عارياً أو مكتسياً بنسبة ما... فقيراً أو قليل الزينة... خبراً أو انشاء. إلاّ أن نصّه يتملى قبل كل شيء من هذا الايقاع الدوري الهادىء. من هذه الجملة المنحوتة والمفرغة والمرسلة في الفضاء. من هذه الرقعة الكلامية المنسوجة من الانقطاعات والاتصالات. وإذا شئنا أن نجد مادة هذا الشعر، فلن نبتعد كثيراً. إنها في هذا الكلام المرسل، العادي، المبذول، الذي يصعب بناؤه ونظمه وتوقيعه من الايقاع، كما يصعب تقصيبه ونحته. وهي الصعوبة التي تجعل ممكناً قراءة النثر على نحو شعري. إلاّ أن الشاعر حين يمهد لقصيدة "الجسر" بالحديث عن جسر الصلوب في قريته، يتوهم أنه ينثر قريته نفسها، بجسورها وقبورها وذكرياته فيها، فيميل إلى التعداد وهو أقل ايجازاً، أو يستدر من الكلام عبرة أو حسرة، وهذا فوق ما تحتمله عبارته. ففي شعر حمزة عبّود ليس للعبارة الاّ أن تروي بهدوء من دون أن يفلت منها - الاّ بعد انتهاء الكلام وبداية الصمت - شيء من عذابها.