تبدو الرواية العربية هذه الأيام موضعاً لأكثر من تكريم. فوزارة الثقافة الأردنية تخصص جائزة تشجيعية للرواية، ووزارة الثقافة في مصر تعلن عن جائزة لأفضل مبدع روائي عربي وتنظّم ندوة عالمية عن الرواية في القاهرة خلال شهر شباط فبراير المقبل. ولعل صعود الرواية العربية هو الذي حمل، ذات مرة، حنا مينا على وصفها ب "ديوان العرب الحديث"، كما لو كان الزمن قد أقصى الشعر عن مقامه الموروث وفرض الرواية سيداً أدبياً جديداً. وذهب جابر عصفور في الاتجاه ذاته حين تحدث عن "زمن الرواية"، الذي اجتاح زمن الشعر وخلفه وراءه. والسؤال هو: لماذا هذا الاحتفال بالرواية؟ وما الأسباب التي تدعو إليه؟ وهل في الرواية ما يجعلها خليقة بالاحتفال وجديرة بالتكريم؟ بامكان بعضنا أن يلتمس اجابة ناقصة، كأن يشير إلى ترجمة الرواية العربية إلى لغات أجنبية عدّة في السنوات الأخيرة، حتى تكاد الرواية أن تكون مرآة الثقافة العربية لدى القارئ الأجنبي... أو كأن يدلل على اجابته بكثرة الأسماء العربية التي أنجزت إبداعاً روائياً رفيع المستوى. وقد يتحدث بعضنا الآخر، من دون أن يجانب الصواب، عن الاستمرارية الابداعية للرواية العربية التي بدأت مع "حديث عيسى بن هشام"، في مطلع هذا القرن. إذا وضعنا هذه المؤشرات الخارجية جانباً، على رغم صحتها، فبامكاننا الوقوف على أسباب أخرى، أكثر عمقاً ونفاذاً، سواء تعلق الأمر بطبيعة الكتابة الروائية، أو ارتبط بالقارئ الذي يتعامل مع الرواية ويقبل عليها. فعلى مستوى الكتابة تبدو الرواية مرآة صقيلة تعكس ما يضطرب في العالم العربي ويتشكل فيه. كأنها علم التاريخ الحقيقي الذي يسطر ما يعيشه الانسان العربي، سواء جاء القول واضحاً ومستقيماً أم جاء مستتراً ومضمراً ومن وراء حجاب. عبّرت رواية نجيب محفوظ عن القهر الاجتماعي المصري الذي قوّض الحكم الملكي وفتح الباب أمام بديل سياسي جديد. غير أن محفوظ ما لبث أن سكب الماء على أشواقه الملتهبة الأولى، وسار في درب رمادي محدثاً عن اغتراب الانسان وغربته. ثم جاءت من بعده أسماء كثيرة تشير، ولو من بعيد، إلى هزيمة حزيران الآتية، أو تشير إلى زمن لا ضياء فيه، يعقب زمن حزيران يونيو ويستكمله. وربما كان الزمن الفاصل بين "ثرثرة فوق النيل" لمحفوظ و"ذات" صنع الله ابراهيم، هو "زمن الرواية" الحقيقي. زمن لم تصعد فيه الرواية إلا لأنها نطقت بكل الجديد الاجتماعي الذي نشأ في الحياة المصرية. والأمر لا يختلف في حال الرواية العراقية المحدثة عن المنفى وتقوض الإنسان المقموع، ولا في حال الرواية الجزائرية التي بدأت ب "فارس الأمل"، قبل عقود، قبل أن تتوقف لاحقاً أمام مشهد مرعب قوامه الظلام والأوصال المقطَّعة. ومع أن حبراً لا نهاية له حكى عن الحرب في لبنان، فإن "العصاب اللبناني" لا يسفر عن وجهه واضحاً إلا في الرواية اللبنانية التي ترصد خراب الروح. وإضافة إلى تسجيل الوقائع التاريخية وتأملها، فإن في الحداثة الروائية ما يتيح لها أن تظفر بجمهور عريض. فهي تكتب عما يعيشه الانسان العادي، بلغة عادية بعيدة عن التكلّس وغلظة القاموس القديم. وهي تمزج بين الحكاية المألوفة وما يقف خارج الحكاية وبعيداً عنها. وهي تأخذ بيد القارئ ليرى زمانه وليتأمل أزمنة أخرى بعيدة عن زمانه... وهي لا تُلقّن ولا تملي ولا تفرض قولاً صلداً وحيداً، بل تذهب مع القارئ في حوار طويل، تتركه يتأمل ما رأى، أو توهم أنه رأى. كما لو كان القارئ كاتباً للنص قبل أن يكون تلميذاً له، أو كما لو كان القارئ يعيد كتابة النص قبل أن يصل بقراءته إلى نهايتها. والسؤال الآخر: لماذا يكتب النص الروائي ما لا يكتبه غيره؟ ولماذا هذه القدرة على انتاج معنى لا تستطيع أجناس الكتابة الأخرى أن تؤديه أو أن تقوم به؟ تتوزع الاجابة على عنصرين مختلفين، يحيل أحدهما على أجهزة السلطة التعليمية، ويحيل ثانيهما على أقنعة القول الروائي. فعلى المستوى الأول، تبدو جميع أجناس المعرفة، تقريباً، بحاجة إلى أجهزة الدولة: علم الاقتصاد، كما علم النفس والتاريخ والانتربولوجيا، ناهيك عن العلوم الدقيقة، تحتاج إلى أجهزة الدولة، سواء تمثلت في الجامعة أو في مؤسسات غير جامعية... وكثيراً ما يقتصر اهتمام السلطة على المعارف التي تؤّمن سيطرتها، فتلغي معارف وتؤكد أخرى. بل تقوم بتزوير المعارف التي تؤكدها، كي تستجيب لما تشاء وترغب. في حين أن الرواية تتشكل وتتكون في عزلة هادئة، بعيدة عن الجهاز التعليمي ومطالبه، بل بعيدة عن المراقب والتلميذ والقياس ونواهي السلطة ومحرمات الإدارة. أكثر من ذلك: إن كان القول الاقتصادي، كما التحليل السياسي والتاريخي، يبدو عارياً لا يحتمل الحجاب والتورية، فإن في مرونة الكتابة الروائية ما يجعلها تعطي قولها مقنعاً، فترحل إلى ما شاءت من الأزمنة وتظل قائمة في الحاضر، وتهاجر إلى أمكنة متخيلة من دون أن تبارح مكانها. ف "الزيني بركات" كان وسيكون، وأقاليم عبدالرحمن منيف مبثوثة في كل مكان ولا وجود لها. ولهذا لم يكن نجيب محفوظ مخطئاً حين قال: "الرواية فن ماكر". ومكر الرواية يُقصي عين الرقيب، ويبادل بين الأزمنة ويخلق ما شاء من الأمكنة، ويوائم بين انسان معروف ومحدد الصفات وآخر متخيّل جادت به الذاكرة. ويقارن بين تاريخ تولى وابتعد وتاريخ قادم صعب الوصول، لأنه أُجهض قبل أن يرى النور. ومن الصعوبة بمكان تصور ذيوع القول الروائي وانتشاره، من دون مكر الرواية الحميد، ومن دون كتابة مراوغة تحدّث عن جهات الجنوب وهي تقصد أركان الشمال. في اطار معارف حديثة ترى في الواقع اليومي مرجعاً لها، وتشتق من اليومي دلالة التاريخ ومعناه، سجلت الرواية وقائع الحياة العربية. منذ أن صرح حافظ ابراهيم بأوجاعه في "ليالي سطح"، وصولاً إلى زمن متأخر توزعت أوجاعه على الروائي المصري واللبناني والمغربي والسوري، أي على كل من جعل من "الفن الماكر" كتاباً عن الحقيقة. إن القول بالحقيقة، في زمن يضيق بها، هو الذي يجعل الرواية جديرة بأكثر من التقدير والتكريم .