تعثرت مبادرة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي المعارض للاحتفال بالذكرى الاربعين لانتفاضة 20 آب اغسطس واستحضار احدى اللحظات الحاسمة من تاريخ المنطقة، حين اجمع قادة المقاومة في المغرب والجزائر على اختيار ذلك اليوم الذي نفي فيه ملك المغرب الشرعي محمد الخامس واسرته، موعداً لتنفيذ انتفاضة مغربية - جزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. لم يحضر الزعيمان الجزائريان، عبدالحميد مهري الامين العام لجبهة التحرير الجزائرية وحسين آيت أحمد الامين العام لجبهة القوى الاشتراكية. وفي ظل الفتور والتقلبات التي تعرفها أجواء البلدين فضلت الاحزاب الثلاثة الاحتفال بالمناسبة كل على طريقته. لم يكن المراقب في حاجة الى جهد ليدرك لماذا وُقّت اطلاقها في هذا الظرف بالذات، فاضافة الى التذكير باثنين من الشخصيات التي لعبت ادواراً بارزة في حركات التحرير المغاربية هما عبدالرحمن اليوسفي الامين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والفقيه البصري أحد آبائه المؤسسين، كان مغزى المبادرة العملي نقل رسالة الى الحكم مفادها ان للحزب افكاراً لاساليب الحوار وسبل معالجة الازمات وفي مقدمها ازمة التناوب المعلقة منذ ثلاثة عقود. ويتضح من الرسالة تأكيد عدول اليوسفي عن استقالته واستئناف مسؤولياته سواء على رأس الحزب أو في قيادة المعارضة، وعلى المستوى نفسه ابراز أهمية عودة الفقيه محمد البصري من منفاه الذي استغرق حوالي 30 عاماً ومدى قدرته على احياء التنسيق بين احزاب المعارضة المغربية وتقوية جبهتها. "اننا هنا" هذه الرسالة ليست الاولى من نوعها، وقد اعتادت احزاب المعارضة المغربية على توجيه الرسائل كلما ارادت ان تثبت وجودها للمترددين. فقبل خمس سنوات تقريباً، وفي ذروة الصراع مع حكومة الدكتور عزالدين العراقي توهمت المعارضة ان هناك امكاناً لحمل مطالبها على ظهر أزمة الخليج التي كانت قد نشبت آنذاك، وأوعزت الى اجنحتها النقابية بشن اضراب عام نفذ في كانون الأول ديسمبر 1990 وسط اعمال عنف دامية. والرسالة التي ارادت ايصالها هي: "اننا هنا". وكانت هذه الرسالة أقوى بعد مسيرة الرباط في شباط فبراير 1991، حين أجمعت على ان عدد المشاركين في تلك المسيرة التي خرجت ابان حرب تحرير الكويت بلغ 700 ألف مواطن. وهو رقم له دلالته الخاصة اذ يمثل ضعف العدد الذي شارك في "المسيرة الخضراء" التي استرجع بها المغرب الصحراء الغربية عام 1975. غير ان الرسالة الاخيرة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يحتل مركز الدائرة بالنسبة الى أحزاب المعارضة المغربية كانت بمثابة القاء حجر في بركة راكدة، ذلك انها تأتي في مرحلة سمتها الجمود والمراوحة. فعلى خط النهاية من الماراثون الانتخابي وما سبقه من تعديلات دستورية لم تطرأ تغييرات تذكر على الساحة السياسية المغربية. وظهر ان التوقعات بوجود فرص جيدة تمكن المعارضة من تشكيل حكومة بعد الانتخابات المباشرة في حزيران يونيو 1993 كان مبالغاً فيها على رغم حصول احزاب المعارضة الاربعة، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي على 99 مقعداً من مجموع 333 يتألف منها مجلس النواب، اذ سرعان ما تفوقت احزاب الغالبية، الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والتجمع الوطني للاحرار والحركة الشعبية الوطنية والوطني الديموقراطي في ايلول سبتمبر حين اجريت الجولة الثانية من الانتخابات بالاقتراع غير المباشر. وحصدت هذه 235 مقعداً عدا مقاعد الاحزاب الصغيرة التي تدور في فلكها مثل الشورى والاستقلال والعمل. ولئن تميزت تلك الانتخابات بانتقال كبير لأصوات الناخبين الى صف المعارضة فان ذلك لم يكن كافياً لتتمكن من تشكيل حكومة تمثل خطها وتعبر عن وجهات نظرها وبالتالي اخراج فكرة التناوب الى حيز التطبيق فالغالبية لم تفقد قوتها تماماً، كما ان الخريطة التي اسفر عنها البرلمان الحالي بلغت من التعقيد حداً يصعب معه على أي حزب ممارسة دور الشريك الائتلافي. ومع اعلان هذه النتائج تقدم عبدالرحمن اليوسفي باستقالته من منصبه أميناً عاماً لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، احتجاجاً على الخروقات التي شابت الانتخابات واعادت الاوضاع الى ما كانت في السابق، وغادر المغرب الى فرنسا ليعزز الاتهامات الموجهة الى الجهاز الاداري بالتدخل لمصلحة احزاب الغالبية السابقة. ويجمع المراقبون على ان اليوسفي، وكان قد قرر العودة في نيسان ابريل الماضي قبل بضعة اسابيع من عودة الفقيه البصري، هو أكثر من مجرد سياسي مغربي كونه أحد رموز المقاومة المغربية من أجل الاستقلال. أما البصري الذي برز في السابق كمعارض راديكالي هو اليوم رجل الحلول والتسويات، وتشير التوقعات الى تطور حاسم في اتجاه تفعيل عمل حزب الاتحاد الاشتراكي في اطار "الكتلة الديموقراطية" التي تضم احزاب المعارضة. وقد ظهرت البوادر الاولى مع اناطة المهمات التنظيمية بنوبير الاموي عضو المكتب السياسي والامين العام للكونفيديرالية الديموقراطية للشغل بدلاً من محمد اليازغي نائب الامين العام الذي اسندت اليه مهمة الاشراف على شؤون الاعلام. واذا كانت أوساط الحزب تعتبر ما حصل جزءاً من عملية اعادة التنظيم التي بوشر بها، فمن المؤكد ان قدرة اليازغي التنافسية كخلف محتمل لليوسفي تأثرت كثيراً. وفي كل الاحوال، عليه اثبات قوته الحقيقية عند انعقاد المؤتمر الاستثنائي الذي ينوي الحزب عقده السنة المقبلة. التجاذب يتعمق لقد بدت استقالة اليوسفي حينذاك اشبه ما تكون بعملية اطلاق النار على ساقي الحزب الذي كان عليه ان ينطلق بسرعة لوقف صراعات الاجنحة التي غدت أمراً حرجاً على نحو متزايد منذ 1991، سواء نتيجة اوضاع داخلية وتنظيمية، أو لأسباب تتصل بقضايا التنسيق مع احزاب المعارضة الاخرى. فعلى خلفية الاستقالة تعمقت الخلافات بين التيارين اللذين يتجاذبان قواعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأطره، خصوصاً حول الموقف من المشاركة الحكومية اثر دعوة الملك الحسن الثاني في تشرين الأول اكتوبر 1994 الى تشكيل حكومة ائتلافية ترأسها المعارضة. وتردد ان التيار المتشدد الذي يتزعمه نوبير الاموي يرفض تقديم تنازلات سياسية كبيرة، ما ادى في نهاية المطاف الى العدول عن تطبيق فكرة تداول السلطة، وتكليف الدكتور عبداللطيف الفيلالي تشكيل حكومة من احزاب الغالبية البرلمانية، وهي الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار والحركة الوطنية الشعبية والحزب الوطني الديموقراطي، اضافة الى عدد من المستقلين. وعزا بيان رسمي اخفاق المساعي في تشكيل الحكومة المقترحة الى "معارضة المعارضة ان يكون ادريس البصري وزير الداخلية والاعلام ضمن تشكيلتها". الا ان أوساطاً مراقبة تعتقد بوجود اسباب اعمق من مسألة حقيبة وزارية، فالمآخذ على وزير الداخلية، أياً كانت، ليست سبب الازمة الائتلافية بل ذريعتها، الامر الذي أكده علي يعتة الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية. فمن نواح كثيرة، ليس الوضع في حزب الاستقلال مختلفاً عما هو في حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث التجاذب بين تيار الامين العام محمد بوستة وتيار نائبه محمد الدويري، والذي كان وراء تأجيل المؤتمر الثالث عشر للحزب الى اشعار آخر. والذين شككوا في امكان احزاب المعارضة على التعاون في اطار الكتلة الديموقراطية حصلوا الآن على الاثبات. اذ كان من الواضح ان منظمة العمل الديموقراطي الشعبي كحزب صغير لا تستطيع التفاوض الا من الاتحاد الاشتراكي أو الاستقلال ما اضاف سبباً آخر للاخفاق، حيث عمدت الاحزاب الثلاثة الى استبعاد حزب التقدم والاشتراكية من المشاورات الخاصة بالمشاركة الحكومية، بعدما كانت أقصته من الكتلة الديموقراطية عقاباً على مواقفه المستقلة من أزمة الخليج. والسؤال المطروح: ما هو مستقبل التحالف بين احزاب المعارضة ذات المشارب والاهواء المختلفة؟ وباعادة ترتيب السؤال من جديد: هل سيكون انزال الرايات الايديولوجية كافياً لوقف تداعيات فشل مشروع تداول السلطة واعادة النظر في الاولويات؟