عشية قرار مجلس الوزراء اللبناني تكليف الجيش حفظ الأمن في منطقة البقاع زارت "الوسط" المنطقة التي شهدت انطلاقة "ثورة الجياع" بقيادة الشيخ صبحي الطفيلي الأمين العام السابق لپ"حزب الله". وجاء القرار رداً على خطوة الطفيلي بمنع الوزراء من دخول المنطقة وعلى قيام مؤسسات في "دولة الطفيلي" بينها "مجلس الاعيان". في الطريق الى البقاع يتراءى من بعيد سهله الخصب، فيظن الآتي من مناطق اخرى ان سكان هذا السهل الشاسع يعيشون في وفرة غذائية واقتصادية كبيرة... من دون ان يتبادر الى الاذهان، ولو للحظة واحدة، ان هذا السهل لم يطعم اهله، ولم يزدهم إلا فاقة! ومع الاقتراب تدريجاً من مدينة الشمس، بعلبك، تتضح اكثر فأكثر مرارة الواقع. فالسهل المترامي على جانبي الطريق، والذي تقول عنه كتب الجغرافيا للصفوف الابتدائية انه "اكبر سهول لبنان، تُزرع فيه الاشجار المثمرة والخضر"... حوّله الاهمال، طوال عقود، مساحات شاسعة بدأت بالتصحّر. اما المدينة التي احبتها الشعوب القديمة وبنت عليها اعظم الهياكل والمعابد لآلهتها بعلبك اصبحت اليوم على هامش الخريطة اللبنانية. والغبن الذي تعاني منه منطقة بعلبك - الهرمل، مستمر منذ الاستقلال. ورغم مرور هذا الزمن الطويل، ما زالت البنى التحتية في معظمها في طور الانجاز. وأهم ما تعانيه المنطقة هو تفريغها من أبنائها الذين سلكوا احد طريقين: الهجرة الى خارج البلاد، او النزوح الى العاصمة بحثاً عن حياة كريمة. والمزارعون الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، لا يملكون رؤوس الأموال اللازمة لاستمراريتهم. كما ان اسعار الأسمدة والأدوية الزراعية مرتفعة جداً بالمقارنة مع اسعارها في الدول المجاورة، وكذلك اسعار المحروقات. اما الطرق الزراعية فغير موجودة، والطاقة الكهربائية ليست متوافرة لكل المشاريع. ومعظم زراعات الخضر والاشجار المثمرة تفيض عن حاجات السوق المحلية، ما يؤدي الى إتلاف كميات كبيرة منها، كالعنب والبطاطا والبطيخ. ويشكّك اهالي المنطقة في ان يصرف مبلغ الپ150 مليار ليرة الذي وعدت به الحكومة على تأمين حاجاتها بشكل سليم، رغم انه لا يتعدى ثلث المبلغ الحقيقي، وهو 300 مليون دولار 460 مليار ليرة وفق تقديرات الكلفة لبرنامج التنمية الريفية المتكاملة في بعلبك - الهرمل. ويرى هؤلاء ان الحكومة لم تحدد طرق صرف المبلغ الذي رصدته لإنماء البقاع، "وإذا كانت هذه الخطوة ذات وجه ايجابي لأنها استجابة ولو ضئيلة للضغط الشعبي، فإن وجهها السلبي أشد فداحة لأن المبلغ المذكور سيصرف، كما صُرف غيره، في جيوب الفريق المتعيّش على حساب الخزينة العامة". اما مؤسسة الزراعات البديلة التي وعدت الدولة بقيامها فانها لم تقم على رغم مرور اكثر من خمسة اعوام على منع زراعة الحشيشة التي كانت بمثابة العمود الفقري لاقتصاد البقاع. وبسبب حظر زراعة الحشيشة، تعطلت الدورة الاقتصادية وعرف البقاع الشمالي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية ظاهرة الجوع الحقيقي. وكان من الطبيعي ان ينعكس الأمر سوءاً على الوضع التربوي. ففي مدينة الهرمل، مثلاً، اضطر اكثر من 800 طالب ابتدائي وثانوي الى الانقطاع عن الدراسة بسبب عدم قدرة الأهل على دفع الرسوم للمدرسة الرسمية، وشراء الكتب. وما حدث في الهرمل يمكن تعميمه على مناطق وبلدات عديدة في منطقة بعلبك - الهرمل، فضلاً عن ان المدارس الرسمية، في الأساس، لا تستوعب اكثر من 20 الف تلميذ، فيما عدد التلاميذ في المنطقة نفسها يتجاوز الپ120 الفاً. ويؤكد الاهالي انه "رغم حاجة المنطقة، فانها لم تشهد فتح مدارس رسمية جديدة فيها منذ عشرات السنين". وقِس على ذلك المشكلات الصحية والصناعية والسياحية وغيرها... مجلس الأعيان ولئلاّ يبقى الطفيلي المسؤول الوحيد عن نشاطات "ثورة الجياع" ونتائجها، اتجه في مطلع تشرين الأول اكتوبر الماضي الى "شرعنة" تحركاته وإعطائها الطابع المؤسساتي بانشاء "مجلس اعيان بلاد بعلبك - الهرمل" الذي يمثل اعضاؤه معظم بلدات المنطقة وعشائرها وطوائفها. فقد جاء في المادة الثالثة من قانونه الأساسي ان من اهداف هذا المجلس "ممارسة الوسائل المشروعة التي تستخدمها الشعوب للوصول الى حقوقها وإنماء مناطقها، بالاضافة الى التركيز على مسألة التعاون والتنسيق مع كل الهيئات والفاعليات المطلبية والسياسية في المنطقة، لتحقيق اهداف المجلس وغاياته". ويضم "المجلس" 450 عضواً موزعين على 14 لجنة، بينهم وجوه وفاعليات سياسية واجتماعية بارزة من التيارات السياسية والعقائدية المختلفة. وقيل ان لپ"حزب العمل الاشتراكي العربي" مشاركة فاعلة فيه. المستشار القانوني للشيخ صبحي الطفيلي وعضو "مجلس الأعيان" المحامي زهير الطفيلي شيوعي! يشير الى ان اعضاء المجلس تم اختيارهم على اساس العشائر والعائلات والبلدات والقرى التي تتألف منها المنطقة، بحيث يكون هناك مندوب واحد عن كل 500 ناخب فيها. وعن "شرعية" هذا المجلس من الناحية القانونية، يوضح انه "مجلس مطلبي فقط، يستخدم الأساليب والطرق السلمية الضاغطة على السلطة من اجل انتزاع المطالب المحقة للشعب المحروم"، مشيراً الى ان السلطة السياسية في لبنان "هي اول من يستبيح الأموال العامة... حتى اوصلت البلد الى الافلاس، وأصبح الدين العام يتجاوز 13 مليار دولار"، نافياً عن المجلس اية اهداف او غايات سياسية او دينية. ويرى عضو "هيئة مكتب المجلس" النائب السابق سعود روفايل ان قيام هذا المجلس "جاء نتيجة طبيعية كرد فعل على التمثيل السياسي الرديء، وعلى لامبالاة المسؤولين في منطقة بعلبك - الهرمل، وتقاعس ممثلي الشعب". وهكذا اصبح "مجلس الاعيان" بديلاً غير رسمي عن السلطة التشريعية والتنفيذية، مكتسباً "قوته" من البطون الفارغة لمعظم اهالي المنطقة. وكانت قراراته الاخيرة بشأن منع دخول الوزراء المنطقة بمثابة صفعة قوية لپ"هىبة الدولة". وكان انصار "ثورة الجياع" منذ اصدار "مجلس الأعيان" قراره الاخير، يجوبون طريق بعلبك الدولية، من رياق حتى أقاصي الهرمل، بحثاً عن "طريدة وزارية" يعترضونها ويعيدونها من حيث أتت. اما سلاحهم الوحيد فهو الهواتف الخليوية للتشاور والتقاط الاوامر، ولوائح بأرقام وأصحاب اللوحات "الحكومية" معظمها مشطوب بالاحمر، ما يفيد انه "ممنوع من المرور"! والطريف في الامر ان هؤلاء غالباً ما يفتشون صناديق السيارات "بحثاً عن وزير قد يكون مختبئاً داخلها"! الحاج علي ملحم الطفيلي والد الشيخ صبحي التقته "الوسط" عند مفرق بريتال ضمن تظاهرة "جياع" حاشدة من النساء والشباب والاطفال. ورغم سني عمره الطويل 104 اعوام ما زال على همّته العالية وحماسة الشباب: "لقد قاتلنا الأتراك والفرنسيين قبل 70 عاماً دفاعاً عن كرامة الوطن، فلماذا لا نحارب هؤلاء ... دفاعاً عن كرامتنا الشخصية؟". الطفيلي: لا تراجع اما وسائل منع الوزراء من دخول "دولة الطفيلي" فمختلفة: اطفال ونساء جاهزون في الجوار على امتداد الطريق لافتراشها وتعطيل المرور. وتصرخ احدى اللواتي احتشدن، الأسبوع الماضي، تأييداً لپ"ثورة الطفيلي" بعدما تردّد ان احد الوزراء البارزين ينوي دخول المنطقة عنوة: "ان مواسم العنب والبندورة والبيض الكاسدة، والتي لا تجد لها اسواقاً للتصريف جاهزة لاستقباله. و"ثورة الجياع" تراقب الطرقات ليلاً ونهاراً، ونحن نصلي ونطلب من الله ان يلهم احد الوزراء زيارة المنطقة ليرى بأم عينه اي استقبال سيلقاه"! ولكن ماذا حققت "ثورة الطفيلي" بعد اشهر على اعلانها؟ والى اين سيصل الشيخ الثائر في حركته؟ يقول الشيخ صبحي الطفيلي لپ"الوسط" ان ما انجزته "الثورة" حتى اليوم، هو اكثر بكثير مما كان يتوقعه، سواء على صعيد التأييد الشعبي من جهة، او على صعيد طرح مسألة الجوع والفقر على طاولة السياسيين وأصحاب القرار من جهة ثانية: "فقد تحولت هذه القضية من مسألة "اعلامية" الى مشكلة حقيقية في يد السلطة. كما تمكنّا من ان نجعل ازمة الجوع واقعاً كبيراً تنام وتستيقظ مع الناس والسلطة والمسؤولين. وأثبتنا ان الخيارات التي يملكها الناس كثيرة، والبدائل المتاحة بين أيديهم عديدة ايضاً، وانه على السلطة ان تواجه غضب الشعب بالعلاج الفعلي لأسباب هذا الغضب، وليس بواسطة الشعارات الجوفاء. وقد استمدت "الثورة" شرعيتها من خلال الالتفاف الشعبي حولها". وعن مبلغ الپ150 مليار ليرة المخصص لإنماء البقاع والمناطق المحرومة، يعتبر الطفيلي ان هذا المبلغ "لن يشكل حلاً جذرياً لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي في منطقتنا. فنحن نريد خطة متكاملة لنهوض اقتصادي فاعل. وهناك مطالب واضحة ومحددة في هذا المجال، تتعلق باستصلاح الأراضي وتطوير الثروة الحرجية والمراعي، وتأمين القروض والادوية والخدمات بأسعار متهاودة، ومعالجة الوضع العقاري وتطوير البنى التحتية، وتأمين الطبابة والتعليم مجاناً...". ويؤكد ان قرار منع الوزراء من دخول المنطقة هو بمثابة "ضغط على السلطة ليس الا. ولسنا في صدد التراجع عن هذا القرار ما دامت مطالبنا عالقة في يد السلطة، بل نحن في صدد التصعيد حتماً... حتى نصل الى حقوقنا". وينفي الطفيلي بهدوء التهمة الموجهة اليه انه يهيمن على قرارات "مجلس الأعيان"، ويقول باسماً: "هذه نكتة. فجميع اعضاء هذا المجلس متفقون على المشروع والاهداف والوسائل، وقراراته تؤخذ غالباً بالاجماع. ومن حضر اجتماعنا الاخير، يجد ان المجلس كان يريد مزيداً من التصعيد في وجه الدولة، في حين أنني تعبت في إقناعهم بضرورة الاكتفاء بالخطوات التي تنفذ حالياً". وعن موقفه من التقارب الاخير بين "حزب الله" والدولة من جهة، والحكومة اللبنانية وإيران من جهة ثانية، يقول: "الجميع يعرف ان ثمة خلافاً في وجهات النظر بيني وبين القيادة الرسمية للحزب منذ خمس سنوات بسبب تقربه من السلطة عبر قرار المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1992. اما بالنسبة الى التقارب اللبناني - الايراني، فليست لدينا أية مشكلة في ذلك. غير انني اسفت لتوقيت زيارة الرئيس رفيق الحريري الاخيرة الى طهران في 26 تشرين الأول اكتوبر الماضي، في اليوم نفسه الذي قرر فيه شعبنا التظاهر والصراخ ألماً من الجوع. ويصف علاقته مع ايران بأنها "عادية"، في حين تؤكد مصادر مقرّبة من ايران لپ"الوسط" ان "العلاقة مع الشيخ الطفيلي مقطوعة منذ اعلان الاخير "ثورته" قبل عدة اشهر، لأن ايران ترى انه من مصلحة لبنان عدم دعم اي حركة من شأنها ان تضعف دور "المقاومة" للاحتلال الاسرائيلي في الجنوب. ويستبعد الطفيلي ان تلجأ الحكومة اللبنانية الى الاسلوب "الدموي"، معتبراً ان "طبيعة البقاع خطرة، ومن يفكر في التصادم مع اهل البقاع عليه ان يحسب الف حساب وأن يتوقع أسوأ النتائج. فالجياع لن يرحموا احداً. ونحن بدورنا لا نفكر بأي تصعيد "غير مدني" مع السلطة". ومع تطور الاحداث وتسارعها، بقاعاً، تبدو الاجواء "متلبدة" في سماء "جمهورية الجياع" الطفيلية، في الوقت الذي تتجه فيه الدولة اللبنانية الى "حسم القضية بالوسائل المناسبة". فأيهما سينتصر في النهاية: منطق الدولة، ام منطق "الثورة"؟ .